تمثال الحرية لا يتأخر.. عمن يدفع أكثر!
استغلى المصريون ثمنه.. فأصبحت نيويورك وطنه
بقلم - حسن توفيق:
في كتابه المتجدد زيارة جديدة للتاريخ، يروي الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل تفاصيل لقاءاته مع دافيد روكفلر في مكتبه بالطابق الخامس والثلاثين من مبنى بنك تشيز مانهاتن الذي تملكه أسرة روكفلر والذي يقع وسط وول ستريت حي المال والاعمال في مدينة نيويورك، ومما يرويه الكاتب الكبير انطباعاته عما شاهده في أول لقاء، وما الذي جذب انتباهه فيما شاهده.
يقول هيكل: »... في أول مرة دخلت فيها الى مكتب دافيد روكفلر لمحت من نافذة بجوار المكتب ذاته تمثال الحرية ينتصب على قاعدته من بعيد أمامنا، وشدني منظره المهيب عن كل ما كان يتجاذب بصري قبله على الجدران أو الموائد والرفوف من الروائع، وقال لي دافيد: لك الحق.. هذه هي اللوحة التي تستحق التأمل.. ثم اضاف: ان التمثال يتوجه ببصره ويشير الى أوروبا وقد كتبوا تحته »اعطوني كل من عندكم من المضطهدين في الأرض والمظلومين والمتعبين« ولقد استجابوا لنداء الحرية ولكنهم في هذه الارض لم يعودوا مضطهدين ولا مظلومين ولا متعبين..«.. وقلت له: لعلي لا أضايقك اذا صارحتك باننا نشعر أحيانا انهم في هذه الارض انقلبوا من النقيض الى النقيض.. بدورهم أصبحوا يضطهدون ويظلمون ويتعبون سواهم..«.
وبالطبع، فان هيكل لم يكن الزائر الأجنبي الوحيد لنيويورك بما فيها ومن فيها، قفد سبقه كثيرون، كما لحق به آخرون، ومن هؤلاء شعراء من أوروبا وأفريقيا وآسيا، وقد كتب هؤلاء قصائد عديدة عن انطباعاتهم تجاه ما شاهدوه وعاينوه، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر السوفييتي الثائر الكبير فلاديمير ماياكوفسكي الذي كتب قصيدة »جسر بروكلين« سنة 1925 والشاعر الأسباني الشهيد والشهير فيدير يكوجارتيا لوركا الذي كتب قصيدة »الفجر« سنة 1940 والشاعر السنغالي الكبير ليوبلد سنجور الذي كتب قصيدة »نيويورك« سنة 1956م.
لم تكن انطباعات هؤلاء الشعراء ايجابية عن المدينة التي زارها كل منهم على حدة، وفي سنوات مختلفة من سنوات القرن العشرين، وعلى سبيل المثال فان لوركا يصور احساسه تجاه نيويورك، ويتحدث عن »وحل الارقام والقوانين« كما يرسم صورة قاتمة للفجر حين يطل على نيويورك. :
فجر نيويورك تلفه أربعة أعمدة من الوحل
وإعصار من الحمام الأسود
يخوض في المياه النتنة
فجر نيويورك ينوح عبر السلالم الضخمة
باحثا بين الحواف عن الزهور البرية
للأسى المرسوم
ان الفجر يقبل ولا يستقبله أحد
لانه ليس ثمة صباح ولا رجاء
هيكل رسم ملامح رمز المال والاعمال في »زيارة جديدة للتاريخ« أما الشعراء فانهم رسموا صورا للوحشية المرعبة التي تطحن الناس وتلقي بمشاعرهم في بالوعات الحمامات ولا تنتظر منهم - لكي يعيشوا بقوانينها - الا ان يتحولوا الى آلات وأرقام، ليست لها قيمة في حد ذاتها، وإنما تكمن هذه القيمة فيما تساهم به من تحقيق أرباح وفوائد مادية لا أكثر.
من هذه الزاوية، فإننا حين ننظر إلى »تمثال الحرية« ذاته، فإن علينا أن نتذكر أن النحات الفرنسي الذي صممه لم يكن يفكر على الإطلاق في أن هذا التمثال سيقف أمام الشاطىء في نيويورك، فقد صممه لكي ينقل فيما بعد إلى شاطىء مدينة »بورسعيد« في مصر، ليكون في المدخل الشمالي لقناة السويس قبل أن يتم افتتاحها رسمياً يوم 18 نوفمبر سنة 1869. المشكلة أن خديوي مصر في ذلك الزمان، وبسبب إسرافه الذي أنهك الخزانة المصرية لم يستطع أن يشتري التمثال ليوضع في بورسعيد كما كان مقرراً، فانبرى الأمريكيون- وقتها- لدفع الثمن المطلوب بالكامل ودفعة واحدة دون تقسيط مريح أو غير مريح، وهذا يمكننا القول أن نيويورك قد أصبحت وطن »تمثال الحرية« وإن هذا التمثال لا يمكنه أن يتأخر، عمن يدفع لمصممه ثمنه دون إبطاء أو تسويف.
على أي حال، فإني- من زاوية شخصية ليست فيها أية رائحة عنصرية- أقول: الحمد لله ان خديوي مصر قد استغلى ثمن التمثال، واستغنى عنه، وذلك لأن مصر- بعراقة تاريخها، شأنها في هذا شأن سائر الحضارات القديمة- مليئة بالآثار والتماثيل التي ترمز لماضيها، أما الولايات المتحدة- رغم كل جبروتها- فليس لها تاريخ عريق، وطالما أنها تمتلك المال مع القوة فلماذا لا تشتري التاريخ، ولماذا لا تضع »تمثال الحرية« في نيويورك، ليصبح فيما بعد رمزاً أمريكياً يراه الزائرون وينبهرون به، مثلما انبهر الأستاذ هيكل وهو ينظر إليه من الطابق الخامس والثلاثين من مبنى بنك تشيز مانهاتن؟.
الشعراء الذين وقفوا أمام تمثال الحرية هم وحدهم الذين لم ينبهروا بما شاهدوه، لكن لم يحدث أن قتل أي شاعر منهم حمامة من الحمامات السوداء التي وصفها لوركا، ولم يحاول أي شاعر منهم أن يرتكب أية حماقة، وذلك لأن هَمَّ الشعراء أن يرصدوا ما حولهم، سواء راق لهم أو لم يرق، أما غير الشعراء فإنهم يلجأون إلى وسائل أخرى إذا لم تعجبهم المرئيات والأشياء، وهكذا وجدنا- مثلاً- تمثالاً من تماثيل بوذا يتم نسفه بالديناميت في أفغانستان أيام »طالبان« كما وجدنا الذين انطلقوا بالطائرات لينسفوا برجي التجارة العالميين في قلب نيويورك، متصورين أن ما فعلوه سيفتح لهم أبواب الجنة فإذا بالرئيس الأمريكى الذى رحل من البيت الأبيض يفتح أبواب الجحيم!
أعود- في الخاتمة- لأتساءل: لماذا لم يستطع خديوي مصر شراءتمثال الحرية ؟.. ألأنه كان قد أفلس؟.. ولماذا أفلس؟.. ألأنه فسد وأفسد، ثم ظلم المصريين البسطاء، منطلقاً إلى ما انطلق إليه؟.. هنا لا بد أن أتذكر الآن ما قاله العلامة ابن خلدون.. الظلم مؤذن بزوال العمران لكن الطغاة لا يتعلمون !
التعليقات (0)