تلك اللحظة الفاصلة بين اليأس والأمل .. الفارقة بين الاستحالة والمعجزة ..الحاجزة بين الحلم والحقيقة ..
إنها اللحظة التي توقف فيها قلبي مع العملاق الروسي بوريس باسترناك في رائعته "دكتور زيفاجو" التي أبدعتها السينما الغربية في فيلم بطولة الفنان المصري "عمر الشريف ..
لحظة عاشها "زيفاجو" الذي أبعدته الحرب عن حبيبة عمره " لارا" التي ظنت أنه قد مات وفقدت الأمل في رؤيته .. عاد بعد "زيفاجو" سنين ليبحث عن حبيبته.. استقل " الترام " المزدحم مع الجنود عائدين إلى أرض الوطن .. نام زيفاجو في الترام من شدة الإعياء .. و حين استيقظ كان الترام قد شارف الوصول إلى محطته و هو يشق طريقه وسط زحام بشري .. نظر "دكتور زيفاجو" نظرة سارحة في الناس ..وفي لحظة قدرية "مدهشة" رأى زيفاجو حبيته " لارا " سائرة في قلب جموع البشر .. وظن أنه لن يراها بقية عمره بعد أن انقطعت السبل بينهما .
انتفض قلب العاشق - وانتفض معه قلبي - نادى عليها بأعلى صوته .. لم تسمعه .. قفز زيفاجو من الترام قبل أن يتوقف .. ألقى بنفسه في قلب الجموع البشرية .. اخترقها بوهنه وضعف جسده محاولاً اللحاق بحبيبته ..
إقترب منها .. إقترب .. إقترب إلى الحد الذي كاد أن يلامس كتفها ليلفتها إليه .. مد يده بما بقي له من قوة واهنة .. أطراف أصابعه في طريقها لتلامس ظهرها .. كادت يده أن تلمسها .ها . ها .
وهنا حانت اللحظة القدرية..
سقط "زيفاجو" على الأرض قبل أن تتمكن يده من لمس ظهر حبيبته فلم تنتبه إليه !!!!..
سقط زيفاجو .. فاجأته أزمة قلبيه" ..تحلق حوله الناس .. الزحام والهمهمة لفتا انتباه "لارا".. نظرت خلفها فرأت حشداً من الناس متحلقاً حول شيء لم تتبينه .. لم تحاول حتى معرفة ما حدث .. واصلت سيرها إلى بغيتها .. بينما زيفاجو يرقد خلفها صريعاً لم يمنحه القدر فرصة رؤية وجه حبيبته التي لم يكن بينه وبينها سوى "ثانية" واحدة بعمر الزمن ..
أما (لارا) فقد أبقاها القدر على ظنها بموت حبيبها في الحرب بينما وهي تنظر خلفها في الحشد المتحلق لو عادت خطوة واحدة إلى الوراء لرأت حبيب عمرها "زيفاجو " صريعاً وهو يجاهد ليشق الحشود فيسقط – في اللحظة القاتلة- دون أن يرى أحدهما الآخر .. وللأبد .............--........
وهي ذات اللحظة القدرية القاتلة التي توقف فيها قلبي مع الموسيقار "سيد درويش " الذي مثل شخصيته باقتدار في فيلم يحمل اسمه الرائع الراحل ""كرم مطاوع" .. حين واصل "درويش" مع فرقته الموسيقية الليل بالنهار لينجز نشيداً وطنياً بمناسبة خروج طوائف الشعب المصري لاستقبال الوفد بقيادة الزعيم سعد زغلول..
قلبك سوف ينتفض مع سيد درويش وهو يرفض النوم ويصر على البقاء حتى الصباح ساهراً ليكون مع الشعب في شرف استقبال الزعيم سعد زغلول .. شعر" سيد" باختناق في صدره من فرط الإعياء .. فأهاجته نفسه وقت الفجر إلى رؤية شقيقته المتزوجة بالأسكندرية .. توجه إلى منزلها .. وحين دق الباب فتحت له .. فنظر "سيد" إليها نظرة شوق واحتضنها .. وتفاجأ بوجود أمه
شعر بالعطش الشديد .. هرع إلى "المشربية" وتناول ""القلة الفخار" وشرب الماء بشراهة ودون تروٍ حتى أغرق الماء المنسكب ملابسه .. استأذن شقيقته ووالدته أن يستريح في حجرة النوم قليلاً من فرط الإعياء قبل أن يذهب لاستقبال الزعيم سعد زغلول مع جموع الشعب .. واستدار وهو يغلق باب الحجرة لأمه وشقيقته وشيعهما بنظرة فطرت قلبي ومزقته .. ثم أغلق الباب ..
دخل "درويش" الحجرة وقد بلغ به الإعياء مبلغه .. شعر بحاجة إلى تنفس الهواء .. فتوجه نحو النافذة .. تناهى إلى سمعه هدير الشعب المتوجه نحو الميناء لاستقبال الزعيم سعد زغلول .. حاول على ما فيه من وهن وسقم أن يفتح النافذة ليرى جموع الشعب المتوجهه نحو استقبال الزعيم ..
حانت اللحظة القاتلة .. سقط سيد درويش وهو ممسك بستائر النافذة فسقطت معه الستارة ولفت جسده كعلم مصر ..
وحالت لحظة – الموت- القدرية القاتلة بين سيد درويش وبين رؤية موكب استقبال زعيم الأمة "سعد باشا زغلول" الذي لم يكن بينه وبين لقياه سوى ثوان معدودات .. لكن للقدر دوماً مشيئته ...
.. حينما تشاهد الفيلم الغربي "دكتور زيفاجو " للفنان المبدع عمر الشريف .. .. وكذا حينما تشاهد الفيلم العربي "سيد درويش" للفنان المبدع كرم مطاوع سيتوقف قلبك – حتماً - حينما تصل إلى مشهد ذات اللحظة التي توقف فيها قلب دكتور زيفاجو وسيد درويش..
.. وسنوالي عليكم لحظات قدرية –قاتلة- بلغة الأدب الإنساني المشترك إن شاء الله ..
التعليقات (0)