طُرد السجين العجوز من سجنه بعد أن عاش فيه سنوات لا يذكر عددها بالضبط، فبادر إلى مغادرته من دون أن يتوقع أن ينتظره خارجه أحد، فزوجته طلقته وتزوجت غيره، وأولاده يجهلون أباهم، وأمه ماتت، وإخوته تبرؤوا منه، ومشى في الشوارع فرحاً وحزيناً في آن واحد، وبوغت بأن كل شيء قد تبدل، وبات مختلفاً عما كان يعرفه..
رآى السجين أشجاراً تركض مرعوبة أسرع من ركض النعامة، فلم يستغرب، وحكم عليها بأنها إما واهنة العلاقة بترابها وجذورها،وإما أن الفؤوس تطاردها، وإما أنها مطلوبة حية أو ميتة من قبل جهات لا ترحم.
ورآى السجين كلاباً تأكل لحم نمور حية، والنمور صابرة لا تقاوم، مذعنة لما يحلّ بها، فلم يتعجب، فالفأر والنمر لا يختلفان في السلوك، وليس لهما إلا الخضوع إذا كانا سجينين مقيدين، والنمر نمر في غابته فقط، وحين يرغم على تركها، يرغم أيضاً على التبدل، و من الطبيعي آنذاك أن يسود الاعتقاد أن الكلب أفضل من النمر.
ورآى السجين أنهاراً تسير إلى الوراء محاولة الرجوع إلى ينابيعها، فتأكد من أنها تحاول تقليد الناس الذين يحاولون بإصرار العودة إلى بطون أمهاتهم فراراً من عالم فظ، فتخفق محاولاتهم، ولكنهم لا يقنطون.
ورآى السجين رجالاً ونساءاً وأطفالاً يضحكون ضحكاً حقيقياً نابعاً من قلوبهم، فلم يصدق ما رآى، واقتنع أنه نائم، وما رآه ليس إلا هذيان نائمين يحلمون.
ورآى السجين شعوباً تتثاءب غير مبالية ببراكين تثور حولها وتحدق بها، ولم ينجح في تحديد نوع تثاؤبها، فالمستيقظ من النوم يتثاءب، والمتأهب للنوم يتثاءب، والكسلان اللامبالي البليد الخامل يتثاءب.
ورآى السجين سلاحف تطير كأنها نسور أو صقور، فلم يندهش ، فالزمن الحالي هو زمان الطيران والطيارين، وفيه طارت طائرات، وطارت مدن وقرى، وطارت أوطان وأمم.
ورآى السجين رجالاً ذوي شوارب كثة يرتعدون خوفاً من قطط هزيلة معتقدين أنها تتعاون سراً مع جهات أمنية، وتخبرها بكل ما تراه وتسمعه.
ورآى السجين سيارات تعبر الشوارع مسرعة كأنها في سباق، فاعترض فجأة طريق إحداها حتى يختتم حياته بتجريب ما لم يجربه من قبل.
ــــــــــــــــــــــــ
زكريا تامــر
التعليقات (0)