تكرار أداء العمرة في السنة

تكرار أداء العمرة فى السنة
يجتهد المرء ما وسعه فى هذه الحياة لاكتساب مرضاة ربه, ويبذل وسعه فى إثقال موازينه بالأعمال الصالحة, رغبة فيما أعده الله تعالى للطائعين من نعيم مقيم, فى جنة عرضها كعرض السماوات والأرض أعدت للمتقين, ولذا فقد يبلغ بالمرء اجتهاده فى الإكثار من الطاعات, أن يؤدى العمرة عدة مرات, فى كل سفرة له إلى البيت الحرام, إذا وجد خفة فى نفسه وقدرة على الإتيان بمناسكها, ويثور التساؤل عن مدى جواز الإتيان بأكثر من عمرة فى السفرة الواحدة أو فى العام الواحد, وهذه المسألة اختلف فقهاء السلف فى حكمها, فمذهب جمهور الفقهاء هو جواز الإتيان بالعمرة فى العام الواحد عدة مرات, وجواز تكرار الإتيان بها فى اليوم الواحد كذلك, وأن الإكثار منها مستحب, روي هذا عن علي وابن عمر, وابن عباس وأنس وعائشة, وهو قول عطاء وغيره من فقهاء التابعين, وإليه ذهب الحنفية والشافعية, والحنابلة والظاهرية, ومما استدلوا به ما روي عن القاسم بن محمد " أن عائشة رضي الله عنها اعتمرت فى شهر واحد مرتين, بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, عمرة مع قرانها وعمرة بعد حجها ", ومعنى هذا أنها قرنت العمرة مع الحج فأحرمت بهما جميعا, فلما فرغت من أداء مناسكهما أدت عمرة أخرى قبل عودها إلى المدينة, وروي عن أبى هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما ", وهذا حض من رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإتيان بالعمرة, باعتبارها مكفرة للذنوب, وهو يقتضى الإكثار منها, فدل على جواز الإتيان بها عدة مرات فى العام الواحد, واستحباب ذلك, وروي عن بعض ولد أنس بن مالك رضي الله عنه " أن أنسا كان إذا حمم رأسه خرج فاعتمر ", ومعنى حمم رأسه: أي خرج به شعر, ومعنى هذا أنه كان يعتمر, فإذا حلق متحللا من عمرته تلك ثم نبت برأسه شعر أحرم بالعمرة, وروي عن مجاهد أن عليا رضي الله عنه قال: " فى كل شهر عمرة ", حيث أفاد هذان الأثران أن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتمر فى أقل من شهر, كما فعل أنس بن مالك الذي كان يعتمر بمجرد إنبات شعر رأسه بعد التحلل من العمرة السابقة, وبعضهم كان يستحب تكرار العمرة كل شهر, وهذا لا يكون منهم إلا إذا كان تكرار العمرة على هذا النحو مرغبا فيه, لأنهم لا يقدمون على فعل محرم أو مكروه, ولأن العمرة عبادة تؤدى فى وقت قليل, فلا يكره تكرارها فى السنة الواحدة أو اليوم الواحد, قياسا على الصلاة التي تؤدى عدة مرات فى اليوم, ويرى الحسن البصري وابن سيرين والمالكية, كراهة الإتيان بأكثر من عمرة فى العام الواحد, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعتمر فى العام إلا مرة واحدة, وفعله صلى الله عليه وسلم تشريع, فكرهت الزيادة على العمرة الواحدة فى العام, ولأن العمرة عبادة تشتمل على الطواف والسعي, فلا تفعل فى السنة إلا مرة واحدة قياسا على الحج الذي يشتمل على ذلك, إلا أن الذي أرى رجحانه من المذهبين – بعد النظر فى أدلتهما – هو مذهب القائلين بجواز تعدد الإتيان بالعمرة فى اليوم أو الشهر أو العام, واستحباب ذلك, لما استدلوا به على مذهبهم, ولعدم ورود نص يحرمه أو يكرهه, فضلا عن ترغيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الإتيان بها والإكثار منها, بحسبانها مكفرة للذنوب, والمسلم مأمور بالأخذ بأسباب مغفرة الله تعالى له وتكفير ذنوبه, فكان فى الإتيان بالعمرة على هذا النحو المتعدد أخذا بأسباب مغفرة الذنب, والوسائل تأخذ حكم غاياتها, وعدم تمكن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإتيان بالعمرة إلا مرة واحدة فى العام, لا يدل على عدم جوازه, خاصة وأن أداءه لها على هذا النحو لم يقترن بنهي عن تكرار أدائها فى العام الواحد, كما لا ينفى أن بعض أصحابه أتى بأكثر من عمرة فى العام, ولم ينكر عليهم, ولو كان ذلك مكروها لأنكر عليهم غيرهم, مما يمكن القول معه بانعقاد إجماع الصحابة على جوازه من غير كراهة, وقياس العمرة على الحج فى عدم الإتيان بأي منهما إلا مرة واحدة فى العام قياس مع الفارق, لأن الحج ركنه الأساس الوقوف بعرفة, لحديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " الحج عرفة أو عرفات, فمن أدرك عرفة قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ", والوقوف بعرفة وقته مضيق فيه كما ورد فى الحديث, فمن لم يقف بها قبل فجر يوم النحر فقد فاته الحج, بخلاف العمرة فليس وقتها مضيقا فيه, وإنما كل أيام السنة وقت لها وفقا لما ذهب إليه المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية, ولذا يسع مريد العمرة أن يأتي بها فى أي وقت من السنة, فى أشهر الحج أو غيرها, واشتمال العمرة على طواف وسعي لا يقتضي إلحاقها بالحج المشتمل عليهما فى الأحكام, لافتراقهما فى أحكام كثيرة .

أ.د. عبد الفتاح إدريس