تقـلّـص خيارات عبد الواحد والحلو
مصعب المشرّف
4 نوفمبر 2020
ليس المتوقع أن تنتهي مفاوضات فصل الدين عن الدولة مع جناح الحلو . ومحاولات إجلاس عبد الواحد نور على كراسي طاولة المفاوضات مع حكومة الثورة الإنتقالية ... ليس المتوقع أن تنتهي إلى ما تصبو إليه الخرطوم من خاتمة سعيدة.
تلبية مطلب الحلو بفصل الدين عن الدولة هو من الإستحالة بمكان . والسبب أنه لا الحلو ولا أحد من قياداته يقدم طرحاً فكرياً للمسألة. ويقتصر كل ما يقدمونه على " رؤى " وثرثرة عنصرية شعبية فوضوية عامة غير مثمرة.
في فيديو حديث إنتشر على وسائط المعلوماتية . ظهر فيه ضابط برتبة عقيد من قوات الحلو . تحدث فيه هذا الضابط وسط ضباطه وجنوده (باللغة العربية) عن أسباب مطالبتهم بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة . فأورد الأسباب التالية التي يتضح منها أنها لا علاقة لها بشأن العلمانية وفصل الدين عن الدولة:
قال أن الضابط في الخرطوم يقف بالزي العسكري في صف الرغيف. وهذا لا يجوز .
قال أن ياسر عرمان كذا وكذا . وأنه يبحث عن منصب وزاري . ويجلس وسط أهله في الشمال.
قال أن حميدتي " جنا عرب " ، وليس لديه مؤهلات دراسية . ولكنه خلال الفترة من عام 1984م حتى اليوم أصبح برتبة فريق أول. وأن حندي الحركة الشعبية تصل أقدميته وخبرته القتالية إلى 20 سنة ومع ذلك لا تتم ترقيته.
قال أن العلمانية وفصل الدين عن الدولة ليس الغرض منها أن يسمحوا لهم بشراب المريسة. وأكد أنهم يخافون الله وليس بشاربي مريسة.
قال أن العلمانية لاتعني أن تلبس البنات في الخرطوم لبس قصير أو لبس ضيق يظهر مفاتنها . وأن أي بنت تفعل ذلك يجب جلدها.
؟؟؟؟؟؟؟ !!!!!
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا . ما هي علاقة هذه المقولات الصادرة من هذا القائد في الحركة الشعبية جناح الحلو بالعلمانية وفصل الدين عن الدولة؟
ومن كثرة ترديد هؤلاء لمسمى "جنا عرب" في كل شاردة وواردة ، يتضح لك أن المسألة تدور أولاً وأخيراً حول القطب العنصري ليس إلاً . وشكوى هؤلاء بأن هناك تمييز بينهم وبين أبناء الشمال . كل هذا رغم أن "جنا عرب" هذا لا يجد من يعترف به كعربي وسط العرب سوى نفسه .
حتى هذه اللحظة لم يقدم الحلو نفسه إلى شعبه السوداني كصاحب أفكار مقارنة بما فعله الراحل جون قرنق . الذي نحّى عقدة "جنا عرب" جانباً . وانتقل إلى طرح أفكار "وطنية" خالصة جاذبة قابلة للتنفيذ ؛ لولا مسارعة المخابرات العالمية بإغتياله على أعتبار أن هذه الأفكار أتت سابقة لأوانها وزمانها المناسب...... زمانها المناسب الذي بدأت إرهاصاته تتضح الآن بعد توقيع سلام جوبا.
هل سمعتم لعبد العزيز الحلو يوماً خطبة بالعربية أو الإنجليزية أو قرأتم له مقال يشرح فيه وجهة نظره ودوافعه وأهدافه من فصل الدين عن الدولة؟
قصارى الذي يردده الحلو هو إما فصل الدين عن الدولة أو الإنفصال . وعلى نحو يجعلك تفهم أنه يفهم أن هذا الدين هو دينٌ أنزله الجالس على الكرسي في القصر الجمهوري بالخرطوم على سكان الخرطوم.
وجميع ذلك يشير بوضوح إلى المدى الذي "أفلح" فيه الكيزان والإسلام السياسي في تعميق العنصرية بالبلاد.
كل الذي يعرفه الشعب السوداني عن الحلو أنه منعزل بمجموعة من المسلحين في رقعة جغرافية محدودة إسمها كاودا. وأنه لم يحقق لمن تابعه إلى هذه الرقعة الجغرافية المحدودة خدمات تذكر ناهيك عن ترفاً ولا إستقراراً ورفاهية .
وقد كانت زيارة رئيس الوزراء حمدوك الشهيرة إلى كاودا مصطحباً معه مجموعة من العاملين في مجال الإغاثة الإنسانية العالمية . كانت الدليل الكافي على الوضع المعيشي والإنساني المُزري في دولة الحلو الإفتراضية.
عبد الواحد نور من جانب آخر يواصل تمنعه عن الجلوس في طاولة مفاوضات مع حكومة الثورة الإنتقالية . وعلى نحو يبدو فيه وكأنه لم يسمع بإندلاع ثورة ديسمبر .
وهو أيضاً (عبد الواحد) لا يقدم نفسه كصاحب أفكار واضحة . خاصة وأن مسببات حمله السلاح ضد نظام الكيزان قد انقضت .
الذي رشح من تصلّب الحلو من جهه و تمنّع عبد الواحد نور من جهة أخرى ؛ هو أن كلاهما متعاقدان مع مجموعة شركات فرنسية تعمل في مجال تعدين الذهب داخل ما يسمى بالمناطق المحررة . وأنهما يتلقيان ما نسبته 25% من إرباح مبيعات هذا الذهب ، الذي لايعرف كمياته المستخرجة وأرقام مبيعاته سوى المجموعة الإنتهازية الفرنسية.
واقع الأمر فإن معدن الذهب قد أدخل الكثير من التعقيدات والتشابكات في خريطة السياسة والإستقرار الداخلي السودانية خلال فترة حكم الكيزان . وعلى الرغم من المقاومة الشرسة التي يظهرها المنتفعون من الفاسدين ومعدومي الضمير والمستسلمين لوساوس النفس ، والوسواس الخناس من الإنس والجن . لكن الذي ينبغي أن يدركة هؤلاء هو أن كثيراً من الأمور قد تغيرت بعد ثورة ديسمبر. وأن السودان لم يعد مغلق الأبواب على أهله كما كان عليه العهد طوال عصر الكيزان.
وهناك تسريبات أيضاً عن شركة مغربية تجتهد بأقصى ما في وسعها لإستخرج أكبر كميات ممكنة من الذهب . ولا يعرف أحد إلى أين تحمله بطائراتها الخاصة من داخل موقعها الذي أصبح بمثابة دولة داخل دولة.
ولا ندري هل هذه الشركة المغربية الجنسية هي الأخرى محض غطاء لشركة فرنسية الأصل أم لا؟
المعرف عن الفرنسيين أنهم على العكس من الإنجليز. أذاقوا الشعوب التي إستعمروها الولايلات والدمار ونهبوا ثرواتها , ومارسوا حروب الإبادة والتطهير العرقي بإمتياز . ولم يغادروها إلاّ بعد أن أصبحت أرضها يباباً.
كما ولا نستبعد أنهم هم الذين يوسوسون لعبد العزيز الجلو برفع شعار العلمانية وفصل الدين عن الدولة كقميص عثمان ، ووفق تكتيك "وضع العقدة في المنشار".
والذي بقرب هذا الإستنتاج هو ما تقدم من ملاحظات حول خلو طرف ووفاض الحركة الشعبية جناح الحلو من أفكار وأطروحات فكرية واضحة عن العلمانية وفصل الدين عن الدولة بل حتى معناها.
للأسف ؛ فإنه وفي العصر الحديث وبعد خروج الإحتلال الفرنسي من أفريقيا من الباب . فقد عادت شركات النهب والإستغلال الفرنسية من النوافذ والشقوق عبر الأنظمة الحاكمة الوطنية الفاسدة . واستحدثت شراكات نائمة مع كبار المسئولين في الدول الأفريقية بحيث تمنحهم نسبة مئوية محددة تذهب إلى حساباتهم الشخصية في البنوك الخارجية ، بالإضافة إلى مصاريف جيب شهرية بما يكفي للإستمتاع بها بمعية عائلاتهم في حياتهم اليومية.
والسؤال الذي ينبغي على الحلو وعبد الواحد نور .. بل وعلى كافة القيادات التابعة لهما طرحه هو الآتي:
إلى متى يظن هؤلاء أن العالم القادم بقوة إلى الخرطوم سيصبر عليهم بعد أن سقط نظام الكيزان . وتم رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب . ثم وبدء المفاوضات مع الخرطوم لدخول منظمة التجارة الدولية , وإنهاء حالة الحرب المعلنة والعداء مع إسرائيل والمضي حثيثا في خطوات ما يسمى إصطلاحاً بالتطبيع؟
لقد أعلنتها إسرائيل بوضوح وجلاء أن إستثمارات رؤوس الأموال اليهودية التي أقامت أوروبا على أقدامها بعد الحرب العالمية الثانية . وصنعت من اليابان والصين عمالقة ومن الجنس الاصفر في شرق آسيا نموراً .... هذه الرساميل ترغب الآن في التوجه إلى كل من جوبا والخرطوم في دولتي السودان الواحد.
على عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور الإدراك بأن الأرض اليوم تهتز من تحت أقدامهما. وأن الكثير من الأوراق تتطاير من أيديهما بفعل التغيرات التي فرضتها ثورة ديسمبر .
ثم أن عليهم إدراك أن هذه المصالح والرساميل التي تسيطر اليوم على ثلاثة أرباع العالم لن تنتظر طويلاً . وأنها تمتلك من القوى المسلحة والتكنولوجية والمالية ما يجعلها قادرة على تسوية الجبال بالأرض وإكتساح مساكن النمل والجان والشيطان.
أي تعويل من الحلو وعبد الواحد على أن تواجد المكون العسكري على الساحة سيقلل من قناعات العالم بجدوى ثورة ديسمبر المجيدة سيكون حساب خاطيء.
على عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور ومن يقف وراءهما من شركات "نهب" الذهب إدراك عين اليقين بأن إتفاق الفترة الإنتقالية في الخرطوم قد تم برعاية الإتحاد الأفيقي وآلياته المعترف يها من الأمم المتحدة والإتحاد الأوروبي .... وسكوت البكر العذراء الذي مارسته الولايات المتحدة .
والعالم المؤثر سواء أكان في أقصى الشرق أو الغرب وأقصى الغرب يدرك اليوم . وأصبح على قناعة تامة بأن نموذج الشراكة الفاعلة بين المدنيين والعسكر ؛ هو أمر لابد منه للعبور بالسودان إلى مرحلة المدنية والديموقراطية الكاملة . وحتى يتم تلافي حدوث ما حدث في سوريا وليبيا . وبغض النظر عما إذا كان السودان نسيج وحده أو لم يكن .
ولعل الرضا الأفريقي والأوروبي بالنموذج السوداني لحل أزمة جمهورية مالي من جهة . وإقتراحة ذات النموذج للتطبيق في ليبيا ... لعل فيه ما يدل على مدى إقتناع العالم اليوم بالنموذج السوداني الذي أفرزته ثورة ديسمبر الفاصلة.
وعلى كل متردد أو متمنع أو متمارض تجاه الإنخراط اليوم في إتفاقية السلام أن يدرك أن فرنسا ودولة جنوب السودان وتشاد وليبيا ، لايمكنهم الإستمرار طويلاً في هذا النحو العبثي الذي لم يعد منتج.
أرجو أن يسمعها الجميع نصيحة من أناس خرجوا من السودان وطافوا العالم . وأذاقتهم الهجرة والإغتراب المرارات المعنوية . ولكنهم أدركوا الكثير من الحقائق التي تكشفت لهم عن الكيفية التي تدار بها مصالح البلدان والشعوب . ويتم التخطيط لها اليوم في إطار العلاقات الدولية وسطوة الرساميل العابرة للقارات . وأطلعوا أيضا على الكيفية التي نهضت بها دول مثل الصين ونمور آسيا بسبب من الرساميل والتكنولوجيا اليابانية والأمريكية وخبراتها المتراكمة . وأن المسألة ليست بتلك السذاجة والبساطة التي يفكر بها ويتصورها ويتحدث بها البعض ممن ظل داخل السودان حبيس الكيزان طوال ثلاثين عام. ويظن واهما أنه بالمستطاع تحقيق تنمية وإزدهار بالجهد الذاتي دون رساميل من العملات الصعبة تجلب في ركابها تمويل خرافي وتكنولوجيا حديثة في مجال توفير الطاقة والميكنة الزراعية لتحقيق فوائض إنتاج كبير وقدرات تخزين ونقل وتسويق متكافئة.
عندما يأتي وفد من شركة "جنرال ألكتريك" لزيارة السودان . فلا شك أن الليلة لن تكون كالبارحة ... وربما لا يتصور البعض من رهائن الكيزان في الداخل ما هي شركة جنرال ألكتريك . وما هو معنى أن يأتي وفد من هذه الشركة العملاقة لزيارة دولة بظروف السودان ...... إنها مناسبة لا تقل خطورة وأهمية في زمن السلم والبناء الإقتصادي عن تحرك الأسطول السادس الأمريكي بكامل عدته ومارينزه وعتاده وحاملات طائراته في زمن الحرب والدمار.
وعلى ذات المقدار رأينا هذا الإهتمام الذي أبدته العملاق الألماني العالمي "شركة سيمنز" بالإستثمار في السودان.
وإزاء هذا الإهتمام الذي تبديه رؤوس الأموال الهائلة في الولايات المتحدة وألمانيا لبناء الحد الأدنى من البنية الأساسية في مجال الطاقة . فإن دولة مثل فرنسا بإقتصادها (المتواضع) مقارنة بألمانيا والولايات المتحدة . لن تتمكن دولة مثل فرنسا أن تستمر في حماية عبد الواحد نور أو عبد العزيز الحلو .
إستثمارات الشركات العملاقة القادمة للبلاد تقتضى أيضاً تكامل لامحدود بين دولتي السودان في الخرطوم وجوبا.
زيارة وزير دفاع دولة جنوب السودان للخرطوم مؤخراً تعني الكثير لجهة المضي في هذا الشوط الذي لن يكتمل إلا بوحدة إقتصادية وأمنية تكاملية ما بين دولتي السودان . وفق الخطة المرسومة التي وضعتها أدمغة راسمالية عالمية.
وبحسب الخطط الجديدة سيعود سودان المليون ميل مربع بشكل آخر ونموذج جديد يحتفظ كل جزء فيه بإستقلاله وكياناته وسيادته ودستوره . ولكن ضمن إطار إقتصادي وأمني واحد. ويعتمد آليات أكثر تطوراً ومرونة من الإتحاد الأوروبي .
الذين يقبعون في أعالي الجبال ، ويحبسون أنفسهم داخل قماقم الماضي الرومانسي . ويحاججون الناس بمقولة "ماذا أفاد التطبيع مصر والأردن والسلطة الفلسطينية؟" عليهم إدراك أن السودان ... سودان المليون ميل مربع (الجديد) ينفرد بإمكانيات بشرية أفريقية ، وثروات طبيعية هائلة على ظهر الأرض وفي باطنها . وليس محض صحاري وأراضي جرداء ، وبحر ميت وشعارات وصخور.
وعلى العكس من مصر والأردن . فإن السودان القديم (الجديد) يتميز بأن معظم سكانه اليوم وأجزاء كبيرة منه خاصة دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق إضافة إلى دولة جنوب السودان ليس لديهم عداء تاريخي متأصل مع دولة إسرائيل التي تقف خلفها 99% من رؤوس أموال العالم.
ويضاف إلى كل هذا أن المواطن السوداني في الشمال يتم توجيهه نفسياً حثيثاً الآن على أيدي القوى الوطنية الجديدة للقبول بقناعات أن مصلحة السودان أولاً . وأنه قد آن الأوان بعد مجاعاته التي إمتدت منذ عام 1983م أن يخرج من قوالب الطيبة والبساطة والسذاجة . وصناعة نكران الذات ، ومتلازمة التضحية بالغالي والرخيص من أجل الغير الذي لا تجري في عروقة دماء سودان.
بل وعلى واقع شفافية التواصل الإجتماعي فعلنا نلحظ أن أفراداً وجماعات وإعلاميين من أهل سوريا وفلسطين ومصر كأنهم يدفعون السوداني الشمالي دفعاً (بشتائمهم العنصرية في شعبه) نحو الكفر بكل إنتماء للعرب والعروبة.
ولعل صمت الشارع السوداني عن معارضة التطبيع مع إسرائيل ما يعطي دلالات واضحة عن مدى التغير الملحوظ الذي حدث في مجال قناعات السوداني الشمالي بالعروبة . وعلى نحو أصبح مجرد إنتماء البعض السوداني لما يسمى بالناصرية والقومية العربية والبعث دافعاً لإطلاق النكات عليهم . وإثارة للشفقة والتندر والضحك.
وختاماً نعيد نصح كل من عبد العزيز الحلو وعبد الواحد نور . بأن الزمن لم يعد في صالحهم. وهو ما يقتضي منهم المسارعة بمصافحة الأيادي المدودة لهما بأمان ؛ سواء من حمدوك والتعايشي أو حتى حميدتي والكباشي .
التعليقات (0)