سيرة هزيمة وطن بأكمله
محمود الأزهري
فتحي عبد السميع شاعر قنائى كبير له مستقبل واعد في سماء القصيدة العربية المعاصرة وهو واحد من جيل الشباب الذين بدأت تتضح بصماتهم الخاصة في إبداعاتهم المتعددة ، وقد صدر لفتحي ديوان تقطيبة المحارب عن سلسلة إبداعات معاصرة ضمن مشروع مكتبة الأسرة 2002 وقد صدر للشاعر من قبل ديوان الخيط في يدي عن سلسلة إبداعات بالهيئة العامة لقصور الثقافة ولقد حصد فتحي عبد السميع عددا من الجوائز الأدبية المتميزة في مراكزها المتقدمة من خلال مسابقات الهيئة العامة لقصور الثقافة والمجلس الأعلى للثقافة وصندوق التنمية الثقافية لسنوات متعددة وقد يبدو للوهلة الأولي أن ديوان تقطيبة المحارب مكتوب كله بمناسبة حدث خاص ومكان خاص : الحرب ضد العراق واختراق بغداد الذي بدأ ظاهريا في 1991 وانتهي باحتراقها وسقوطها المدوي في 9/ 4 / 2003 م وقصائد الديوان ربما تؤكد هذا الأمر لا بتاريخ كتابتها المحدد فقط بأواخر 1997 حتى بدايات 1999 ولكن بمضامين القصائد الظاهرة ورؤيتها المأساوية ولكن الحقيقة ـ كما أراها ـ أن القصيدة اتكأت على بغداد وعلى العراقي وعلي البندقية لتسجل هما أكبر إذن فبغداد فرضت نفسها على القصيدة وليست القصيدة هي التي ارتمت في أحضان بغداد إن هذا الأمر لو حدث لهو جدير بسقوط القصيدة ـ تماما ـ كما سقطت بغداد ولكن القصيدة ـ في حيلة من حيلها المتعددة ـ اتخذت من بغداد متكئا ورمزا لتفضح ذاتا منكسرة ـ هي ذات الإنسان العربي ـ وتفضح واقعا فاسدا مأساويا الهزيمة فيه متأصلة ـ هو الواقع العربي ـ ولا ذنب للشاعر في أن تتحول بغداد في هذه الفترة التاريخية إلي نقطة مركزية يدور حولها الصراع وتتجلي في قلبها المأساة وتبقي للقصيدة طلاقتها في اختراق الذات الإنسانية والتعبير عن لحظات معاشة يمكن أن تتحرك لها مشاعر الإنسان ـ أينما وجد ـ وهذه صفة لازمة للأدب العميق الذي يحفظ نفسه من الابتذال والخضوع لسطوة اللحظة الراهنة والاحتباس داخل جدرانها ولقد أحسن الشاعر اختيار القصيدة التي يبدأ بها ديونه لقد بدأ الديوان بقصيدة الكرم بأكمله وهي قصيدة واحدة تحمل تاريخ الوطن كله من خلال تسجيل علاقة الشيخ بنخلة قاربت على التفحم :
لماذا يتطلع العجوز بلا مبالاة للنخلة التي تتفحم ؟ وكان من المنتظر والمتوقع أن تكون هناك آصرة قوية تربط بين الشيخ والنخلة على الأقل هناك شراكة في امتداد الزمن ، ثم يأتي باقي القصيدة ليكشف العلاقة الوطيدة بين الشيخ والنخلة ، وسر هذه النظرة اللامبالية
لكأنه لم يواعد تحتها حبيبته الصغيرة /
لكأنها لم تشاركه النعاس /
لكأن باطن قدميه لا يشبه جذعها .. لقد كانت النخلة شاهدا على الحب والأمل والبراءة وهي ـ كذلك ـ شاهد علي الصلابة والقسوة والفقد ! إن العلاقة المتوترة بين الشيخ والنخلة والحبيبة المفقودة بينهما ستكون سببا أصيلا لاختراق الكرم / الوطن بأكمله : هل سيحتمل صقيع وقفته إلي أن يحترق الكرم بأكمله ؟ والقصيدة تتميز بموسيقاها
الداخلية العالية واكتنازها بالصور الشعرية وحضور المكان الطاغي
واستلهام الموروث الشعبي القنائي وهي ملامح سيراها القارئ في الديوان بأكمله ، ولعل ما يلفت الانتباه تضحية الشاعر بالمعني المعجمي لكلمتي : العجوز والكرم واستخدامهما بالمعني الشعبي الشائع ، فالكلمة الأولي في القاموس : هي المرأة إذا كبرت وأسنت وأما الرجل فهو شيخ والكلمة الثانية الكرم معناها في القاموس : شجرة العنب ولكنها في الاستعمال الشعبي : مجموعة من شجرات النخل المتجاور .. ولما كانت دلالة الشيخ والعنب لا تحقق مراد الشاعر منهما ضحي بهما وفضل الاستعمال الدارج . أما تقطيبة المحارب وهي القصيدة التي حملت عنوان الديوان فهي كتابة لا عن المحارب بل تقطيبته وعبوسه أو وجهه المتجهم وتحفزه ، والخطوط العريضة التي تملا جبهته ومداراة الذاكرة المكسورة في داخل دماغ ملأى بالأحلام لا يعطي فتحي عبد السميع إجابات ـ أي إجابات ـ عن المحارب / الفارس العربي و تقطيبته وإنما يطرح رؤيته لانكسار الإنسان العربي من خلال كم من التساؤلات كم ناصية تكتم أنفاسها
بقرفصائك ؟
كم مشاجرة تفتعل هبوبها في النهار ؟
كم سيجارة تشعلها من عود واحد ؟
إيه أيها المحارب الثمل ؟
كم بندقية ذبلت بين كفيك ؟ إنها صورة مأساوية للفارس العربي إنه سكران بسبب الأحلام الكثيرة لا بالنصر بل بمجرد أن يدخل الحرب إنه فارس يهزم قبل دخوله المعركة ، انتهي العمر الافتراضي للسلاح في أيدينا ومعاركنا التي نخوضها نخوضها فقط في الخيال إيه أيها المحارب الذي لم يدخل معركة واحدة .
كم مرة توهمت نفسك عائدا من الجبهة
بساق مقطوعة
وحفنة من الأوسمة
والتراب المغسول ؟
وكم دمعة لم تذرفها
وأنت عائد من أنين الرمل ؟
/ بساقين عجوزين /
وتقطيبة لا تحتمل قسوتها
طاقة الأهل والشوارع ؟
إنها تقطيبة الخيبة والانكسار وتحفز المهزوم رغم أنه لم يدخل المعركة ولكنه على وعي أنه أفاق من أوهامه ليدخل معركة جديدة مع الأهل والشوارع وتراب الوطن . مشكلة الإنسان العربي أنه مهزوم هزيمة مركبة ، عدة هزائم اجتمعت عليه ، هزيمة في الخارج
وانكسار في الدخل ، قتل من الأخر وانتحار الأنا ويحمل الديوان قسما
خاصا بعنوان ظهيرة بغداد بداخله مجموعة من القصائد القصيرة
التي تكتب سيرة بغداد شعرا في فترة تداعيات حرب الخليج الأولي
98 /99 وكأنها سيرة للأمة بأسرها ، وهي كتابة عن بغداد تحمل نبوءة واستشرافا للسنوات التي نعيشها ـ الآن ـ وانكسار الإنسان العربي من خلال سقوط بغداد المدوي المشاهد حاليا ، ولعلها نبوءة لا تحمل من الإلهام بقدر ما تحمل من الصدق في قراءة الوقع المعاش ، وإن في سيرة الحرب / سيرة بغداد الشعرية التي كتبها
فتحي عبد السميع من الصور والتراكيب الشعرية ما يمكن أن تظهر السنوات القادمة أنة كان نبوءة فيها من الإلهام والإشراق الصوفي
أكثر مما فيها من القراءة الواعية للتاريخ والحاضر . والشاعر يستهل
قصائد ظهيرة بغداد بسطر شعري شهير لبدر شاكر السياب عيناك غابتا نخيل ساعة السحر وبما أن النخيل يعكس ثباتا وصلابة وقوة وكبرياء وسموا وثمرا طالعا وخضرة عالية الأمر الذي لا يراه الشاعر المعاصر متمثلا في الأمة فقد استبدل الشاعر بالنخيل كلمة لهيب فكان السطر في مقدمة القصائد عيناك غابتا لهيب ساعة السحر اللهيب إذن هو المناسب للحظة والمعبر عنها إنه لهيب يأكل النخيل ويلتهم وفيقة ويقطع أوصال الأحلام بقلب الشاعر ويمزق أوتار الكلمات ، يقول فتحي مبينا كيفية إبداعه لنبوءته / القصيدة : أصنع نايا من ذراع الصبي التي أسقطها الأمريكان في حجري . ويقول : مثل لحاء شجرة لم ييبس / أنزع
الذهول عن ملامحي / أجمع أحداق الضحايا ولذلك فلا فائدة من الكلمات بمنشة الذباب أطرد كل الكلمات لأن القنابل العنقودية استهدفت الأغنية العربية الطائرات اخترقت النشيد / واختطفت ما تبقي من ماء الوجه ! / الطائرات أخذت كل شيء ولم تترك سوي صفارة إنذار وحيدة ! وفي ديوان تقطيبة المحارب غالبا ما تأتي الصورة الشعرية مكونة من عدد من الأسطر ، كل سطر لو نظر إليه منفردا فإنه يبدو عاديا لا يشكل شعرية ما ، وإنما ترابط هذه الأسطر وتواليها وتتابعها يصنع دهشة وحالة غرائبي تتفجر منها الصورة الشعرية الجديدة ، ولابد من رصد هذه الظاهرة حتى نتبين هل هي أمر يتميز به فتحي عبد السميع أم هي تقنية يشاركه فيها غيره من شعراء جيله ؟ إلا أن هناك ما هو واضح تميز فتحي به وهو اكتناز جملته الشعرية بتاريخ طويل ومثقل من الثقافة العربية حتى لكأن لغة فتحي لغة جاهلية ولكنها جاهلية مؤمنة بالجديد لذا فقد تخلت عن الموسيقي الظاهرة الصاخبة مكتفية بموسيقي الكلمة الجوانية وأنينها المكتوم في الداخل ويبدو تميز فتحي في اغترافه اللا متناهى من الموروث الشعبي الجنوبي ، وملمح آخر من ملامح قصيدة فتحي عبد السميع : بروز المكان بشكل سافر لا مواربة فيه ، المكان خاصة الجنوب بقسوته وصلابته وغلظته وشدة وطأته على الروح ، رغم أنه وطن يأسرنا يبدو الشاعر معتقلا بحبه : ما الحرام في الرغيف الذي تنزعينه من فمي / وأنت تصرخين أمام الأنقاض :
عاركم يا عرب ؟! / ألانه أمريكي ؟/ ألا تعلمين أني دفعت خصيتي ثمنا له ! من قصيدة العراقية العجوز ـ لاحظ أن العجوز مستخدمة هنا بمعناها المعجمي لعدم تعارضها مع الدلالة الشعرية .
ويقول فتحي في قصيدة العراقي سحقا لك أيها العراقي ! لقد أخرتني ..الخرابة رغم كل شيء ليست بأكملها في العتمة هكذا نتعلل بأن ثمة أملا في الخرابة / الخريطة وبأن مصالحنا الآنية دون أنانية أولي ! ولقد حفل الديوان بعدد غير قليل من القصائد القصيرة والتي تسجل كل واحدة منها لحظة هي نفسها موقف ! وتمثل صرخة هي نفسها صورة شعرية ولنقرأ قصيدته : ملامحي كيف لم تتهشم المرآة
حين رميتها بملامحي أو قصيدة النيل
اندفع (من أقصي) الجنوب
وعلى رأسي قفة
مملوءة بأسناني المخلوعة ؟
تحية وتهنئة للشاعر فتحي عبد السميع على ديوانه الجميل تقطيبة المحارب والذي يسعد المكتبة العربية أن تحتضنه وتحتفظ به للمستقبل ـ في اعتقادي ـ أخيرا لنقرأ مع فتحي قوله :
من لا بندقية له لا حبيبة له
من لا بندقية له لا وطن له
محمود الأزهري
مصر
التعليقات (0)