الشرق الأوسط الجديد..من الفكرة الى التنفيذ [6/11]
تقسيم السودان نموذج يراد تعميمه
يُعتبر السودان بلدًا ذا ثروات معدنية ونفطية هائلة، كما يتمتع بأرض خصبة ومساحات شاسعة، وموارد مائية، ما يجعل منه إن تمكن من استغلالها دولة قوية، قادرة على إطعام العالم العربي بأكمله، وقوة اقتصادية وربما عسكرية عملاقة في المنطقة. حيال ذلك، كان من الطبيعي أن تتوجه أنظار أميركا وإسرائيل إلى هذا البلد من أجل ثنيه عن استخدام قدراته والاستفادة منها، والمسارعة الى تقسيمه تطبيقًا "للشرق الأوسط الجديد" أولا، وسعيًا وراء وضع اليد على ما يحتوي عليه السودان من ثروات ثانيًا.
يقوم "مشروع الشرق الأوسط الجديد" في السودان وفقًا لتقسيم "برنارد لويس"، على تفتيت هذا البلد الى أربع دويلات موزعة على الشكل التالي: "دويلة النوبة" المتكاملة مع "دويلة النوبة" في الأراضي المصرية وعاصمتها "أسوان". و"دويلة الشمال السوداني الإسلامي"، و"دويلة الجنوب السوداني المسيحي"، و"دويلة دارفور" غربي السودان.
من الواضح أن تقسيم "لويس" الموضوع للسودان، إنما يرتكز على أسس طائفية كما في شمال السودان وجنوبه، وعلى أسس عرقية أو قبلية كما في "دارفور" و"النوبة"، ولا سبيل لإنجاز هذا المخطط سوى استغلال الخلافات أو الحساسيات أو الإنقسامات بين تلك المجموعات المنضوية تحت سلطة دولة واحدة رغبًا أو رهبًا، أو العمل على إيجاد تلك الخلافات إن كانت معدومة، وتغذيتها، سواء بحروب أهلية أو فتن أو نزاعات تنتهي بالتقسيم المنشود.
هذا ما حصل في السودان ليكون المحرّك الأول نحو المطالبة بالتقسيم. فقد اشتعلت حرب أهلية بين جنوب السودان ذي الغالبية المسيحية وشماله المسلم والذي تتمثل به السلطة الحاكمة، وقد قتل في تلك الحرب التي استمرت من عام 1983 حتى 2005، أكثر من مليوني شخص، واضطر أكثر من مليون مسلم إلى الهجرة من الجنوب إلى الشمال. وقد ساهمت كل من بريطانيا والولايات المتحدة وإسرائيل، في تسليح وتدريب وتمويل الشباب المسيحي في جنوب السودان وقبائله، بغية تسعير الاقتتال والوصول الى الغاية المطلوبة.
وفي سياق حديثنا عن الأسباب التي استخدمت لتفتيت السودان، يجب أن لا نغفل دور سياسات أنظمة الحكم السودانية المتعاقبة حتى قبل وصول الرئيس الحالي "عمر البشير" الى سدة الرئاسة، في العمل عن قصد أو غير قصد في تأجيج تلك الحساسيات، فقد كانت تلك السياسات الخاطئة في التعامل مع الجماعات العرقية والقبلية في الجنوب ومع مسألة التعدد الديني، مسؤولة بشكل مباشر عن إنشاء بيئة مناسبة لتوليد الانقسامات والعصبيات، وإفساح المجال أمام التدخلات الإسرائيلية والغربية في جنوب السودان، وأمام أحداث العنف التي استتبعتها.
هذا بالنسبة للشمال والجنوب، أما فيما يتعلق بإقليم "دارفور" غربي السودان، فقد شب فيه نزاع مسلح نشب منذ عام 2003، على خلفيات عرقية وقبلية، لا طائفية كما في حالة حرب الجنوب، ما شكل نواة صراع عنصري عربي-افريقي(قبيلة "الفور" وسواها)، مع العلم أن جميع قبائل دارفور تدين بالإسلام. وقد نجم عن ذلك النزاع في تلك المنطقة عمليات قتل وإبادة، لا يمكن تجاهل مسؤولية "حكومة الخرطوم" ونظام الرئيس "عمر البشير" عن التورط فيها.
وتشير بعض التقارير إلى أن عمليات القتل طالت ما بين 200ألف إلى 400 ألف من سكان "دارفور" على يد ميليشيات "الجنجويد" القاطنين في الإقليم والمتعاونين مع الجيش السوداني لبسط سلطة الحكومة على الإقليم، وتشريد نحو 2،5 مليون آخرين، منذ بدء الصراع رسميًا في إقليم "دارفور" عام 2003، إلا أن الحكومة السودانية نفت ذلك وقالت إن أقل من عشرة آلاف شخص فقط هم من قتلوا في دارفور!
وضعت الحرب الأهلية في جنوب السودان أوزارها في 9/1/2005 أي بعد نحو 21 عامًا على اندلاعها، مع توقيع اتفاقية سلام شامل سميت بـ"اتفاقية نيفاشا"، وتم توقيعها في "كينيا" بين "الجيش الشعبي" في الجنوب أو "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ممثلة بـ"جون قرنق"، والحكومة السودانية، وكان من أهم وأخطر ما جاء في هذه الاتفاقية، بند ينص على تحديد فترة انتقالية مدتها ست سنوات تبدأ من تاريخ توقيع الاتفاقية، يحق لأهالي جنوب السودان خلالها ادارة شؤون منطقتهم والاشتراك على حد سواء في الحكومة الوطنية، على أن يحق لجنوب السودان بعد انتهاء الفترة الإنتقالية أي في 9/1/2011، التصويت في استفتاء شعبي برقابة دولية لتحديد خيارهم في إبقاء السودان وطنًا موحدًا أو الانفصال وإعلان جنوب السودان دولة مستقلة. وجرى تثبيت هذا الاتفاق دوليًا في الأمم المتحدة.
وقد أعاد هذا السيناريو الى الأذهان، ما حدث في 20/5/1999، حين تم الإعلان رسميًا عن استقلال "تيمور الشرقية" وانضمامها تاليًا إلى الأمم المتحدة، بعد صراع طويل بين حركات التمرد في هذا الإقليم وبين الجيش الاندونيسي والحكومة، التي لم تستطع تحمل الضغوط الغربية والأميركية، فقبلت بفرض مبدأ الاستفتاء الذي قسم أندوسيا.
وضعت "الولايات المتحدة الأميركية" قضية جنوب السودان ضمن أولوياتها لأسباب عدة، منها أن نتائج الانفصال إن جرى تسهيله من الحكومة السودانية لحصوله في موعده، سيمكّن أميركا من السيطرة على منابع النفط المتدفق في الدولة الجديدة بشروط أفضل من تلك التي كانت ستحصل بها على ذات النفط لو أن الجنوب لم ينفصل. كما أن الدولة الوليدة ستكون مركزًا لقيادة القوات الأميركية في إفريقيا (أفريكوم) التي رفضت كثير من دول الجوار استضافتها. هذا فضلا على أن نجاح الاستفتاء وحصول الانفصال، إنما يعني فيما يعنيه، إقامة دولة مسيحية سوف يستخدمها الغرب لكي تكون مجرد بداية لتفتيت كامل السودان، حيث سيتلوه ارتفاع أصوات أقاليم أخرى مثل "دارفور" داعية إلى إعطاء حق الاستفتاء لأقاليمها. كما سيتم استخدامها ضد الدول العربية الأخرى، خاصة مصرالتي سيكشف ظهرها وأمنها المائي، وهي الدولة التي دخل مخطط تفتيتها دائرة التنفيذ.
والأهم والأخطر من ذلك كله، أن نجاح ذلك الاستفتاء بالنسبة للسياسة الصهيو-أميركية التقسيمية، سيمثل نموذجًا مبهرًا بالنسبة للأقليات المضطهدة أو التي تراودها أحلام تأسيس كيانات خاصة بها في المنطقة، وبارقة أمل ستدغدغ مشاعرها وتستفز عصبيتها للمطالبة باستفتاءات مماثلة في البلدان التي تنوي الانفصال عنها تحت شعار "حق الشعوب في تقرير مصيرها".
هذا، ولم تكتف أميركا بتلك الاتفاقية (اتفاقية السلام الشامل) والمناخ الدموي الذي هيّأته لتوقيعها، بل سارعت الى استغلال البعد الإنساني للمآسي والآلام التي خلفتها المذابح والإبادات التي تخللت تلك الحروب والنزاعات في "دارفور" و سائر أنحاء السودان، بهدف إخضاع "الخرطوم" لمنطق تقسيم السودان من جهة أولى، وانتزاع امتيازات للشركات الأميركية في شطري السودان الشمالي والجنوبي من جهة ثانية.
وفي هذا السياق، شكّل الأمين العام للأمم المتحدة عام 2004 "لجنة تحقيق دولية" حول دارفور، وذلك على خلفية "انتهاك أطراف النزاع في "دارفور" للقانون الدولي الانساني و قانون حقوق الانسان"، كما ورد في نص القرار. وما لبثت "لجنة التحقيق الدولية" أن أشارت في توصية بأن القضاء السوداني غير راغب و غير قادر على محاكمة المتسببين في الجرائم التي وقعت في "دارفور"، فقرر مجلس الأمن إحالة الأوضاع في "دارفور" إلى "المحكمة الجنائية الدولية" تحت الفصل السابع وبموجب قراره رقم 1593 الصادر في 31/3/2005.
باشرت "لجنة التحقيق الدولية" عملها بدقة ومهنية ونزاهة، واستطاعت جمع أدلة دامغة تفيد وتثبت تورط نظام الرئيس السوداني "عمر البشير" بالجرائم التي شهدها إقليم "دارفور"، وأحالت معطياتها الى المحكمة الدولية.
وفي 4/3/2009، أصدر المدعي العام لدى "المحكمة الجنائية الدولية" "لويس مورينو أوكامبو" مذكرة توقيف بحق "البشير" في قضية "دارفور"، بعد أن وجهت له تهمة ارتكاب جرائم حرب في الإقليم وجرائم ضد الإنسانية، وطلب تقديمه للمحاكمة.
رفض "البشير" قرار المحكمة وتسليم نفسه للعدالة الدولية، وظلت "المحكمة الجنائية الدولية" تتابع عملها وتحقيقاتها، فأصدرت في 12/7/2010 مذكرة توقيف ثانية بحق الرئيس السوداني مضيفة إليه تهمة "الإبادة الجماعية"، حيث رأت أن "هنالك أسبابًا معقولة للاعتقاد بأنه مسؤول جنائيًا عن ثلاث جرائم إبادة جماعية بحق الجماعات الاثنية للفور والمساليت والزغاوة"، الذين يقطنون في إقليم "دارفور". اعترض "البشير" على هذا القرار، واعتبره "جزءا من مؤامرة غربية".
عملت الولايات المتحدة على استثمار ثبوت تورط الرئيس السوداني بجرائم حرب، فاستغلت الحكم الذي صدر عن المحكمة الجنائية الدولية بأدلة دامغة، للضغط على "البشير" في اتجاه انجاح الاستفتاء المنتظر، بعدما لاحظت منه عدم الرغبة في التقسيم وبالتالي إمكان إقدامه على عرقلة الاستفتاء والحفاظ على وحدة السودان.
رضخ الرئيس السوداني لمشروع تقسيم السودان للمرة الثانية بعد اتفاقية السلام، واختار المشاركة فيه مفضلا التشبث بالمنصب وتقديم مصلحته الشخصية والفئوية على مصلحة بلاده ووحدتها، وربما اقترف ذلك الفعل عن طريق "المقايضة" أملاً منه بتجاهل أميركا أو مجلس الأمن الجرائم التي ارتكبها في الجنوب و"دارفور"، فأعلن موافقته على إجراء الاستفتاء وذلك في خطاب ألقاه من عاصمة إقليم الجنوب "جوبا" التي زارها في 5/1/2011، موضحا أنه "على الرغم من أنني على المستوى الشخصي سأكون حزينًا إذا اختار الجنوب الانفصال، لكنني سأكون سعيدًا لأننا حققنا السلام للسودان بطرفيه"!
لم يتأخر الجواب الأميركي، فقد جاء بلسان السيناتور الأميركي "جون كيري" الذي زار السودان في 6/1/2011 للإشراف على الاستفتاء، فقال: "إن تصريحات الرئيس السوداني عمر البشير الأخيرة حول احترام حكومة الخرطوم النتائج أيًّا كانت، تصريحات إيجابية ومشجعة"، مشيرًا إلى أن "واشنطن قد ترفع اسم السودان من قائمتها للدول الراعية للإرهاب في حال تم الاستفتاء كما هو مقرر له، مع ابقاء العقوبات المفروضة على البلاد بسبب أزمة دارفور".
في 9/1/2011، جرى الاستفتاء في جنوب السودان على الانفصال في موعده المحدد، وأعلنت نتيجته النهائية في 7/2/2011، مبينة أن 98.83 في المئة من الجنوبيين السودانيين، اختاروا أن تكون لهم دولة مستقلة تدخل فعلاً نادي الدول في تموز 2011.
وبُعَيد إعلان نتائج الاستفتاء، عمت موجات فرحة عارمة جنوب السودان، ورفعت أعلام جنوب السودان جنباً الى جنب مع الأعلام الاسرائيلية! أما الموقف الدولي الأول، فقد صدر عن الرئيس الأميركي "باراك أوباما" من خلال في بيان جاء فيه: "نيابة عن شعب الولايات المتحدة أبعث بتهاني الى شعب جنوب السودان بالاستفتاء الناجح الذي اختارت فيه غالبية كاسحة من الناخبين الاستقلال. ومن ثم يسعدني أن أعلن عزم الولايات المتحدة على أن تعترف رسمياً بجنوب السودان دولة مستقلة ذات سيادة في تموز 2011". وأضاف انه "إذا وفى السودان بالتزاماته"، فإن واشنطن مستعدة لمراجعة وضعه كدولة راعية للارهاب. كما ان اتفاق السلام في السودان يجب تنفيذه كاملاً، وان تتوقف الهجمات على المدنيين في إقليم دارفور". وصرح الناطق باسم البيت الأبيض "روبرت غيبس" بأن نتائج الاستفتاء "تشكل بداية يوم جديد في المنطقة".
لم تمض سوى سويعات قليلة على إعلان نتيجة الاستفتاء حتى بدأت تتوضّح معالم "اليوم الجديد في المنطقة" الذي قصده "روبرت غيبس" في تصريحه الأخير الذي يراد له أن يضاء بظلمة استفتاء جنوب السودان؛ فقد شجع فصل جنوب السودان برعاية صهيو-أميركية المسيحيين في نيجيريا ومصر إلى المطالبة بالاستقلال عن الدولة، ففي مصر دعا زعماء الأقباط إلى إقامة دولة مستقلة قبطية على نموذج "الفاتيكان"، وقد كان "عوديد ينون"، الصحفي الأميركي اليهودي، أول من أوحى لقادة الأقباط عام 1982 بهذا التطلع، ففي الورقة التي نشرها بعنوان "إستراتيجية لإسرائيل في الثمانينات من القرن" قال فيها: "مصر مقسمة وممزقة بين بؤر عديدة للسلطة، وإذا تقسمت مصر فإنّ دولا مثل ليبيا والسودان أو حتى الدول الأبعد لن تستمر في توحدها في شكلها الحالي، إنّ رؤية دولة قبطية مسيحية في صعيد مصر إلى جانب عدد من الدول التي تعاني من ضعف السلطة وبدون حكومة مركزية كما هي عليه الآن هو مفتاح للتنمية التاريخية التي كان من المقرر العودة إليها بموجب اتفاق السلام، ويبدو أنّ ذلك لا مفر من ذلك على المدى البعيد ".
ومع عدم استخفافنا بخطورة تلك المطالب في مصر ونيجيريا، يبقى الخطر الأكبر متمثلا في مطالبة الأكراد بدولة خاصة بهم، وهو أمر لا يقتصر على تقسيم العراق الذي تم فعلا وان تحت غطاء الفيدرالية، بل يعني تقسيم سوريا وتركيا وربما جزء من إيران، لكون الأكراد ينتشرون في بقعة تتقاسمها بنسب متفاوتة تلك الدول.
ففي أواخر عام 2010 واستغلالا منه للتسويق الإعلامي والإعلاني لاستفتاء جنوب السودان، طالب "مسعود برزاني" -رئيس إقليم كردستان- بتنظيم استفتاء لتقرير مصير "كردستان العراق"، واعتبار عاصمته محافظة "كركوك" الغنية بالنفط، وقد نال مباركة أميركية وعراقية لطلبه ودعمًا اسرائيليا كبيرا. ولم يذهب الزعيم الكردي الى الوعد بالسير على طريق انفصال "كردستان العراق" فحسب، ولكن ايضا وعَد الجماعات الأخرى التي ترغب في الاقتداء بالمثال الكردي بتقديم العون لها ومساندتها حتى يتاح لها أن تحقق أهدافها.
وجريًا على المخطط نفسه، وصف الرئيس العراقي "جلال طالباني" الذي يشغل منصب رئيس "حزب الاتحاد الكردستاني" أيضًا، وصف في 6/3/2011 مدينة "كركوك" النفطية بـ"قدس كردستان" أي عاصمة الدولة الكردية المحتلة، كما هو حال القدس الشريف في فلسطين المغتصبة، وذلك في كلمة له بمناسبة إحياء ذكرى انتفاضة محافظة السليمانية ضد النظام السابق خلال عام 1991، حيث قال: "يجب أن لا ننسى أن هناك مناطق لم تعد الى الآن إلى أحضان الإقليم مثل كركوك، قدس كردستان، ونحن بحاجة إلى النضال المشترك". وتعتبر محافظة كركوك(250 كم شمال العاصمة بغداد)، والتي يقطنها خليط سكاني من العرب والكرد والتركمان والمسيحيين والصابئة، من أبرز المناطق المتنازع عليها، وفي الوقت الذي يدفع العرب والتركمان باتجاه المطالبة بإدارة مشتركة للمحافظة، يسعى الكرد ليس فقط إلى إلحاقها بإقليم كردستان العراق، بل الى جعلها عاصمة دولتهم بعد الانفصال التام عن العراق المقسم فيدراليًا! هذا مع الإشارة الى ان الدستور العراقي وتحديدا في المادة 140 منه، أكد على ضرورة اجراء استفتاء شعبي في "كركوك" برعاية أممية، "طالباني" بتصريحه ذاك حسم النتيجة لصالح الأكراد، ولا بل أوحى بدعوته الى النضال لاسترجاع "كركوك" وتشبيهه إياها بمدينة "القدس"، بأن سكان تلك المدينة الأصليون من العرب وسواهم هم مستوطنون دخلاء ومحتلون، والأكراد أصحاب النزعة الانفصالية هم أهل المنطقة الحقيقيون ومالكوها الأصليون!
وبالعودة الى السودان، لا شك أن "دولة جنوب السودان المسيحي" ستكون طفلا مدللا لدى أميركا وإسرائيل، وزعماء تلك الدولة الوليدة لم يخفوا استعدادهم للاعتراف بإسرائيل وتبادل السفراء وتطبيع العلاقات فيما بينهما، لكن ماذا عن "دولة شمال السودان المسلم"؟
"شمال السودان المسلم" برئاسة "عمر البشير" محسوب على دول ما يسمى بالممانعة التي تدور في فلك إيران، أي دول المتاجرة بالقضية الفلسطينة، وفي طليعتها بعد الدولة الفارسية إيران وحزبها في لبنان، سوريا الأسد، المقاومة الأولى في الجولان المحتل! أما ممانعة "البشير" فقد تجلت في موافقته على تفتيت بلاده برعاية صهيو-أميركية.
فقد حظي السودان باهتمام إيراني خاص، ليس فقط لأنه دولة عربية كبيرة هامة، ولكن أيضا لتعويض تعثر علاقات إيران مع مصر "مبارك" الذي كان واعيًا للأطماع والأحقاد الإيرانية وسدًا في وجه تمددها. وقد انضم السودان الى دول ما يسمى بالـ"ممانعة" بعدما استغلت إيران الحصار الغربي والأميركي خصوصًا الذي فرض على ذلك البلد لكي تتسلل إليه (كما تسللت الى "حركة حماس" عام 2006) وتوطد علاقاتها معه تحت شعار مساندته في وجه الاستكبار العالمي، ولذلك ظلت العلاقات الإيرانية ـ السودانية متطورة دومًا وأقامت إيران العديد من المشروعات هناك، وبدأ الانتقال من العلاقات السياسية والتجارية فقط إلى التعاون الثقافي الذي تمثل بفتح مراكز ثقافية إيرانية في السودان .
وقد ساعد علي هذا التغلغل الثقافي الإيراني المخادع والمسيّر بأخبث أساليب "التقية" التعاطف السوداني مع الثورة الخمينية عمومًا، ومساندة إيران لـ"حكومة الإنقاذ السودانية" التي تشكو من الحصار الغربي، وأدى تعميق العلاقات بين البلدين لنوع من بداية نشر المذهب الشيعي في السودان. وقد تزايد النفوذ الشيعي أكثر في السودان بسبب التعاطف الشعبي مع "حزب ولاية الفقيه" في لبنان، الذي نشأ على خلفية مسرحية "حرب تموز 2006"، التي أراد فيها العدو الصهيوني إظاهر ذلك الحزب بدور البطل المقدام والمقاوم الهُمام على مدى 33 يومًا، علمًا أن القضاء على ترسانته العسكرية لا يحتاج بالنسبة لإسرائيل إلا ساعات قليلة! فانتشرت نتيجة لتلك "الحرب" الدعائية أعلام الحزب وصور زعيمه "حسن نصر الله" في السودان، ما أغرى الإيرانيين بالتوسع في مد نفوذهم الى ذلك البلد، فبدأت تتواتر الأنباء عن انتشار الوجود الشيعي بشكل واضح في حسينيات وزوايا شيعية في "الخرطوم" وفي مدينة "كردفان" .
ومع انكشاف نشاط "شيعة ولاية الفقيه" المنظم في السودان حيث لا توجد إحصائيات دقيقة عن نسبة الشيعة أو المتشيعين، عقد علماء الدين السودانيون عدة مؤتمرات يطالبون فيها بمواقف حكومية لحصار هذا التمدد الشيعي، وطالب عدد كبير منهم في 17/12/2006 السلطات السودانية بإغلاق "المركز الثقافي الإيراني" في "الخرطوم"، لما يقوم به من "أنشطة مثيرة للفتن" على حد وصفهم، ووقف ما قالوا انه "النشاطات الشيعية المشبوهة "، وحذروا من انتشار "الفكر الرافضي" في السودان، كما طالبوا بفتح تحقيق فوري حول الطريقة التي وصلت بها كتب الشيعة من دور نشر لبنانية تابعة لـ"حزب ولاية الفقيه" في لبنان، وأخرى صادرة عن دور إيرانية، إلى "معرض الخرطوم الدولي للكتاب"، "رغم مخالفتها للوائح المنظمة للمعارض وطعنها في عقيدة الأمة".
وبشكل عام، تعتبر إيران ذات نشاط واسع ومنظم في الدول الإفريقية لنشر التشيّع وتصدير "الثورة الخمينية" والإفادة من ثروات تلك البلدان، ولهذا الغرض أنشأت إيران "المجلس الأعلى لشؤون أفريقيا" من أجل مركزية التعامل مع هذه القارة ، كما أنشأت بنكًا للمعلومات يتبع هذا المجلس لتوفير المعلومات عن هذه القارة لكل المتعاملين الإيرانيين معها من الحكومة أو القطاع الخاص، مع عقد اجتماعات أسبوعية لمتابعة نشاط هؤلاء المتعاملين. وفي هذا السياق أيضًا، تصدر وزارة الخارجية الإيرانية مجلة فصلية تضم دراسات علمية عن أفريقيا، كما تعقد مؤتمرًا دوليًا كل عام لبحث العلاقات مع دول هذه القارة.
هذا، وتتعامل إيران مع كافة المنظمات الإقليمية في القارة الإفريقية، ولها أعضاء مراقبون في بعض هذه المنظمات، حتى بلغ عدد مكاتب إيران في ظل الثورة الإيرانية في أفريقيا (حتى عام 2007) 26 مكتبًا، مقارنة بـ 9 فقط في عهد الشاه السابق. وهو ما بفسّر أسباب توالي زيارات المسؤولين الإيرانيين والرؤساء للدول الأفريقية، مثل زيارة الرئيس السابق "خاتمي" إلى سبع دول أفريقية عام 2005، وزيارة سلفه "رفسنجاني" لعدة دول أخرى، واستمرار الرئيس الحالي "نجاد" في نفس النهج مع التركيز بالتعاون مع "حزب ولاية الفقيه" في لبنان على دول إفريقية مهمة مثل مصر، وأخرى تتواجد فيها جاليات شيعية كبيرة نسبياً ولبنانية تحديدًا، وخصوصًا دول: مالي ونيجيريا والسنغال وسيراليون وبينين وزيمبابواي وأوغندا .
بإعلان نتيجة استفتاء جنوب السودان، تحقق الجزء الأهم من "مشروع الشرق الأوسط الجديد" في ذلك البلد الكبير بمساحته وقدراته وثرواته، مع ولادة "دولة جنوب السودان المسيحية"، الدولة الأفريقية الـ54 والدولة الـ193 في الأمم المتحدة، التي لن تكون اكثر من مشروع دولة عنصرية جديدة في افريقيا، في سياق مشروع صهيو-أميركي تاريخي، وبالتأكيد ستكون منطلقًا للعمل على مزيد من التفتيت في دول القارة الإفريقية والدول المستهدفة في العالمين العربي والإسلامي، وفي ما تبقى من السودان نفسه، تحت شعار "حق تقرير المصير" الذي يستفتى فيه الفريق المطالب بالانفصال فقط، لا شعب الدولة بأكمله!
عبدو شامي "الثورة التونسية" موضوع الحلقة السابعة من هذه السلسلة.
التعليقات (0)