النظم الاستبدادية تربط مصيرها دائما بالقوى الاستعمارية التي تؤيدها وتحرص على بقاءها في الحكم، استمرارا لمصالحها في دولها المنكوبة بها، وهم في سبيل البقاء، والبقاء وحده، مستعدون بلا أدنى تردد لتنفيذ أجندة القوى الاستعمارية، حتى ولو كان فيه إضرارا بالمصالح العليا لأوطانهم وأمنها القومي.
وخير مثال على ذلك: ما قامت به الحكومات العسكرية المتعاقبة على حكم مصر، بعد الانقلاب المشؤم، المسمى زورا وبهتانا ثورة يوليو في الثالث والعشرين من شهر يوليو لعام 1952 من تنفيذ لمؤامرة القوى الاستعمارية لتقسيم السودان، بدءا بفصل السودان عن توأم روحها مصر، وانتهاء بما يدبر الآن لفصل جنوب السودان عن شماله، والذي يقع ضمن مخطط كبير لتفتيت المنطقة العربية، أو ما يسمى مشروع الشرق الأوسط الجديد، خدمة للصهيونية، وتمكينا لها في بلاد العرب والمسلمين.
والحقيقة أن مخطط فصل جنوب السودان عن شماله بدأ بفصل السودان عن مصر، ذلك الفصل الذي شكل صدمة في حينه لكل القوى السياسية والشعبية في كلا البلدين، لما تربت الشعوب فيهما على وحدة البلدين كجسد واحد، لا يمكن تصور فصل أعضائه عن بعضها البعض، وليس أدل على ذلك مما قاله نجيب محفوظ كما ورد في كتاب " نجيب محفوظ:صفحات من مذكراته وأضواء جديدة علي أدبه و حياته" لرجاء النقاش حيث قال:" لا يوجد أحد من جيلي إلا وشعر بصدمة شديدة بسبب انفصال السودان، ذلك أننا عشنا كما عاشت أجيال سبقتنا ولدينا إيمان راسخ بأن السودان جزء من مصر، وأنهما لا يتجزآن، وطالما هتفنا لوحدة وادي النيل، وضاعف من الصدمة معرفتنا برغبة الشعب السوداني في الوحدة إذا استمر محمد نجيب في الحكم، ولكن عندما تمت إزاحة نجيب طلبوا الحصول على الاستقلال من مصر".
بل يمكن القول إن الثمن المدفوع لتأييد الأمريكان للانقلاب المشئوم هو فصل السودان عن مصر، حيث استطاع الأمريكان أن يحققوا ما عجز الإنجليز عنه، منذ أن دبروا لذلك ونفذوا، بدءا باتفاقية السودان 1899م التي جعلت السودان تحت حكم ثنائي رسمي بين مصر وبريطانيا، وحكم فعلى لبريطانيا على أرض الواقع.
ولم تجرؤ حكومة أيا كان انتماؤها قبل الثورة الموافقة على فصل السودان، لما كانوا يدركون من خطر هذا الانفصال على مصالح مصر العليا، وحتى محمد نجيب نفسه قائد الثورة، كان يدرك تلك الخطورة، بل نبه إليها في كتابه " رسالة من السودان" الذي كتبه عام 1943م وفيه حذر من المؤامرات على السودان وتقسيمه، واستصرخ العالم العربي لحراسة وحدة السودان.
ولذلك بعد أن أصبح رئيسا للجمهورية، لم يكن محمد نجيب مرغوبا فيه لدى الدوائر الغربية، فكان الثمن القضاء على محمد نجيب لصالح عبد الناصر، الذي وضع مخطط تقسيم السودان قيد التنفيذ.
يقول خالد محي الدين في كتابه " الآن أتكلم"- مركز الأهرام للترجمة والنشر-: " أود أن أشير إلى واقعة محيرة بل لعلها ظلت تحيرني لأمد طويل ففي هذه الأيام المليئة بأحداث مضطربة وغامضة قابلني صحفي فرنسي مرموق ينتمي إلى الحزب الاشتراكي الفرنسي هو"روجيه استفان" وكان بالقاهرة ممثلا لجريدة "فرانس أوبزير فاتور". قابلني ليجري حديثا معي وأثناء الحديث همس في أذني قائلا: سأبلغك بنبأ هام، الدوائر الحاكمة في الغرب قررت مساندة جمال ضد نجيب، إنهم الآن يفضلون جمال لأنه سيكون حاكما قويا ومتفهما للأوضاع في آن واحد، أما نجيب فهو حاكم ضعيف وأمثاله سرعان ما يخضعون لضغط الجماهير.
وقد كان عبد الناصر – الذي لم يكن يشغله إلا السلطة والبقاء فيها- عند حسن ظنهم، وكانت الإجراءات التالية:
أولا:- في أعقاب محاولة اغتياله - وكان رئيسا للوزراء- فيما يعرف بحادث المنشية بالإسكندرية يوم26 أكتوبر عام 1954م قام مجلس قيادة الثورة في 14 نوفمبر بإصدار قرار بإعفاء محمد نجيب من منصب رئيس الجمهورية، وكان الهدف إبعاد رمز الوحدة عن سدة الحكم، يقول محمد نجيب في كتابه: "كنت رئيسا لمصر": "وعندما دخل عبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم. ليبلغاني يوم 14 نوفمبر، بقرار إعفائي من رئاسة الجمهورية، قلت لهما في وضوح: بصراحة أنا لن أستقيل.
فسأل عبد الحكيم عامر : لماذا؟.
قلت :حتى لا ينسب إلى يوما أنني كنت السبب في انفصال مصر عن السودان.
وفى الحقيقة أنا تحملت كل ما جرى لي بعد تمكن عبد الناصر من السلطة، بعد أزمة مارس، حتى لا تؤثر استقالتي على نتيجة الاستفتاء حول الوحدة مع مصرفي السودان، خاصة أن الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يؤيد الاتحاد والوحدة مع مصر، قد فاز في الانتخابات.
لكن عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن ليشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان، كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلص منى. ولست هنا أعطى لنفسي أهمية في ارتباط السودان بي، بحيث ينفصل عن مصر، إذا أنا تركت الحكم، لكنني أقرر حقيقة يعرفها الجميع في البلدين- ومازالوا- فأنا جزء من السودان والسودان جزء منى، وبيني وبين شعبه وزعمائه علاقات دم وصداقة وارتباط قوى، كما أن السودانيين بطبيعتهم لا يميلون إلى الديكتاتورية، ويصرون على ممارسة حقوقهم السياسية مهما كلفهم الأمر، وهذا ما جعلهم يشعرون بالخطر على أنفسهم وعلى بلادهم بعد أن نشبت واشتعلت أزمة مارس في مصر، وأحسوا أن هناك حاجزا من الديكتاتورية يقف حائلا بين الوحدة مع مصر،ولأنني كنت أقف مع الديمقراطية؛ كانوا يقفون معي، ولأن عبد الناصر كان يتجه بالبلاد إلى الديكتاتورية كانوا يخشون الوحدة مع مصر، لذلك كان قرار تنحيتي عن رئاسة الجمهورية هو في نفس الوقت قرار انفصال السودان عن مصر".
يقول اللواء جمال حماد: "لو بقي محمد نجيب رئيسا لمصر لما انفصلت السودان عنها على الإطلاق بل، إن السبب الرئيسي للانفصال، هو عزل محمد نجيب، حيث شعر السودانيون بالخطر وقالوا : إذا كان المصريون فعلوا ذلك مع رئيسهم وقائد ثورتهم فما بالهم بنا ؟!!".
ثانيا:- قام بإعلان مبدأ حق تقرير المصير، الذي كان مبدأ حق أريد به باطل، حيث كان يعلم تماما أن السودانيين لن يوافقوا على الوحدة، في ظل بوادر الدكتاتورية التي بدأت تلوح في الأفق، بعد ما فعل بنجيب والقوى الوطنية. يذكر خالد محي الدين في كتابه" الآن أتكلم" أن عبد الناصر واجه مجموعة من الطلبة السودانيين الشيوعيين المعترضين على حق تقرير المصير خوفا من أن يؤدي ذلك إلى انفصال السودان، قال لهم عبد الناصر: ولماذا ترفضون الاتفاقية؟ هل نسيتم أن الماركسية تدافع عن حق تقرير المصير للشعوب؟ وأنا أعطيت لكم حق تقرير المصير.
وكانت نتيجة هذه الممارسات وغيرها أن قرر البرلمان السوداني في جلسته أول يناير1956 استقلال السودان، وقام رئيس الوزراء السوداني إسماعيل الأزهري بإخطار أعضاء البرلمان أنه قد تلقي اعترافا بهذا الاستقلال من جمال عبد الناصر.
والآن وبعد أكثر من خمسين عاما يأتي النظام المصري لينهى الفصل الأخير في تفتيت السودان، بقيامه بمساعدة حكومة جنوب السودان بمبالغ طائلة قبيل إجراء الاستفتاء العام على الانفصال في يناير المقبل. "فقد أعلن وزير الري المصري محمد نصر الدين علام أن الحكومة قررت منح مساعدات مالية لحكومة جنوب السودان بقيمة 300 مليون دولار، وأوضح الوزير أن هذا المبلغ سيصرف على مشاريع المياه والكهرباء في جنوب السودان الذي يستعد لإجراء استفتاء على مصيره بحلول أوائل العام المقبل، وتواجه مصر والسودان توترا مع الدول التي ينبع منها نهر النيل أو المارة عبره بسبب نية هذه الدول إبرام اتفاقية جديدة لتقاسم مياه النيل بدل الاتفاقية الحالية.
وأوضح علام "أن هذه المساعدة هي استمرار للتحركات المصرية الناجحة نحو دول حوض النيل وخاصة السودان".
والغريب أن ما قررت الحكومة المصرية إعطائه لجنوب السودان لم تحاول أن تعطى نصفه أو ربعه لدول المنبع، والتي تشكل الخطر الحقيقي على مياه النيل حيث أن النيل الأزرق الذي يشكل 85 % من موارد مياه النيل لا يمر في جنوب السودان وإنما النيل الأبيض فقط .
ثم ما دلالة قول الوزير:" أن هذه المساعدة هي استمرار للتحركات المصرية الناجحة نحو دول حوض النيل وخاصة السودان" فهل جنوب السودان أصبح يمثل دولة من دول حوض النيل في عرف السياسة المصرية، حتى قبل انفصاله؟ وهل يمكن اعتبار ذلك إلا أنه اعتراف رسمي من النظام المصري باستقلال جنوب السودان عن شماله؟
يقول مساعد وزير خارجية مصر الأسبق الدكتور عبد الله الأشعل معلقا على اتجاه مصر إلى جوبا- عاصمة جنوب السودان- :"يبدوا لي أن الحكومة المصرية والحكومة السودانية اتفقتا على انفصال جنوب السودان".
فهل يمكن اعتبار ذلك إلا استكمالا لمشروع التفتيت بأيد عربية لا تعي ما يدور حولها، أو تعي وتدرك إلا أن البقاء والبقاء وحده في كراسي السلطة هو الأولى.
التعليقات (0)