أخطر ما تصاب أمَّة هي تلك البلادة تجاه الكلمة، والذاكرة الضعيفة نحو استثارةِ مشاعر الخير والتمرّد، فالمصري بوجهٍ عام، إلا ما نـَـدَرَ، سعة ذاكرتِه مما يقع عليه من كوارث ومصائب لا تزيد عن دقيقتين!
وأخطر مراحل البلادة تلك التي تختلط بالاستعلاءِ فيشعر المرءُ أنَّ جمجمتـَه متضخمة بكنوز المعرفةِ ولو كان لا يعرف موقعَ بلدِه علىَ الخريطةِ، ويقرأ جملة صحيحة بشق الأنفس، ولم يدخل بيتـَه من الكتبِ إلا ما لقنته إياه وزارة التربية والتعليم فتورَّم به دماغـُه!
جرائمُ الرئيس مبارك في حق المصريين تحتاج لمجلداتٍ موسوعية تنوء بحَمْلها أولو العُصبةِ من الرجال.
أحيانا ينتابني إحساسٌ بأنه لو بعث اللهُ نبيّاً للمصريين فقط حاملاً رسالة سماوية من كلمةٍ واحدةٍ هي الدفاع عن الكرامة لرَجَمَه المصريون بكل حجارة جبل المقطم، وقالوا له: اذهب أنت وربك فقاتلا مبارك، إنا ها هنا قاعدون!
التركيبة النفسية والعصبية والعقلية والوجدانية للمصري في عهد مبارك تُسقط كلَّ النظريات التي توَصَّل إليها العلماءُ والمختصّون في كل المجالات، من سيكولوجية الجماهير إلى علم الاجتماع، ومن علم الوراثة إلى علم وظائف الأعضاء، ومن تاريخ الحضارات إلى الرسالات السماوية وتأثيرها.
حاولت ما وسعني الجهدُ الغوّصَ في التحليلات المختلفة لظاهرة المصري المعاصر فعدت إلى نقطة الصفر، وكلما عثرت على تفسير اصطدمتُ بعشرات الشواهد التي تؤكد عكسَه تماما!
لو اعتكف المصريُّ سبعين يوماً في مسجد أو في دير للرهبان، وشحن روحه بكل قوىَ الإيمان بالله وبالعدل والتسامح والحرية، وتأكد يقينه بأنه خليفة في الأرض وأنَّ فيه نفخة من روح الله، ثم خرج فستعود تركيبته التي صنعها العهد الأغبر لمبارك كما هي، وسيسمع المارة مفاصل ركبتيه وهما ترتعشان رعباً من السلطة ومن أشباح تقفز فوق أكتافها نياشين ونجوم ونسور كأنها كاميرات نصبها القصر ليؤكد للمصريين أن الوطن كله سجن رغم همهماتنا الخفيضة التي لا يدري المرءُ إنْ كانت احتجاجاً على استحياءٍ أو قبولا على استعذاب!
يمكنك أن تحرق جهازك العصبي مع كل مشهد تراه، وستنتهي حتماً إلى نهاية موجعة تخالفك فيها، ظاهريا، الأغلبية، لكنها تصفق من وراء ظهرك لهذا الاكتشاف الذي يعرفه فراعنة عهد مبارك.
إنها تلك الكراهية العميقة والمغلفة بمحبة مزيفة التي يحملها المصري لبلده ولأهله ولأبناء وطنه، وإلا فقولوا لي، رحمكم الله، كيف لا يخاصم النومُ عيونَ المصريين، وصيحات شياطين اللصوص والنهّابين والهبّارين والسجّانين والمنافقين والقبضايات تخترق الأذنَ والعقلَ والقلب؟
كيف تمكن المصريون من جعل الرسالات السماوية وأنبياءِ الله والكتب المقدسة في خدمة الطغيان والعبودية والغش والتخلف والتراجع؟
كيف يخرج المصري من باب المسجد والكنيسة بعدما طلب من العلي القدير أنْ يهديه صراطا مستقيما، ثم يرفض أوامرَ اللهِ بمجرد أنْ يترك دارَ العبادة فلا يدافع عن بلده، ولا يقاوم المتسلطين عليه، ولا يعترض على تزييف، ولا يكترث لتزوير، ولا تجرح إيمانه يدان يرفعهما لله ثم يُرشي بهما، أو يصفق لطاغية كاد يطلب صرحا لعله يطلع إلى إلـَه رقيقه؟
لقد بلغ القلمُ قمة جبل الصراخ والاحتجاح، وتكدست فصولُ عهد مبارك بما تتوارى منه خجلا كلُّ عصور الاستبداد منذ أن خلـّد الفراعنة أنفسهم محنـَطين لعلهم يعودون في عصر من العصور التي لا يستولى فيها طغاة على رقاب المصريين.
كل المصريين يبكون على اغتيال وطن، فمن هو القاتل؟
كل المصريين يكتبون عن جحيم مصر، فمن هو القاريء؟
كل المصريين يلوذون بالقرآن الكريم والعهدين القديم والجديد، لكنهم ينصتون لأنفسهم وليس لله!
أخشى اليوم الذي تغادر فيه آخر الملائكة أرض الكنانة ولا يبقى فيها غير صنفين: صاحب سوط يلسع به، وصاحب ظهر يُعَرّيه!
عندما يحكم نصفُ ميّتٍ شعباً نصفَ حيٍّ، فإنَّ تقسيمَ التركة يصبح تمزيقا، وتهشيما، وتدميراً، ومع ذلك فإن النصفَ الميَتَ من الشعب يُلقي اللومَ علىَ الدين، والنصف الحي من الطاغية يحكم ولو كان في غيبوبة.
في عصر تتقزم أمامه كل عصور الاستبداد والسُخرة والاذلال والنهب في أي مكان، يصبح تأييدُ المسبب الأول في كل الكوارث والمصائب والفواجع كفرا ولو كانت هناك ذرة إيمان بكتابك المقدس لعثرت على تفسير الكفر في تأييد شيطان القصر.
أعتذر لكل للذين أزعجتهم كتاباتي في ربع قرن رغم أنها لم تحرّك عضلة واحدة في وجه مصري يقرأها ويغضب لشرفه وكرامته، لكنني لم أعثر بعد على كلمة السِرّ التي تجعل المصريين يؤمنون أن الوقوف أمام الله عِزّةٌ تتناقض مع الخضوع للطاغية، وأن دخول الجنة مرهون برفض نظام الحُكم الجائر في بلدك، وأنك لو صليت لآخر يوم في حياتك وأنت صامت على مهانة، وراض بنزع كرامتك، وساكت على نهب خيرات بلدك، فلا حاجة لله في صلاتك، مسلما كنت أو مسيحياً!
استخدمتُ في كتاباتي لربع قرن كمناهض للطاغية ونظامِه العفن كل قواميس الغضب والشجب والتحريض والدعوة للعصيان المدني والانتفاضة الشعبية، وتأييد إنقلاب عسكري، وأخيرا دعم الدكتور البرادعي، لكنني لم أحرّك شعرة واحدة من موقعها، واكتشفت ما يحتاج لسرادق من العزاء عندما رأيت المعارضة المصرية تنام في فراش السلطة خوفا من الدكتور البرادعي، وترضى باستمرار اغتصاب مصر شريطة أن لا يحكم بلدَها قادمٌ من الخارج يحمل لها المنّ والسلوى و .. الديمقراطية.
أصابني إعياءٌ شديد وأنا ابحث لأقل قليلا من نصف عمري عن كلمة السر التي تجعل المصريين يغضبون، وينتفضون، ويبصقون على عهد الذل، ويسحبون لصوصاً من رقابهم إلى محكمة الشعب، لكن المصري يملك قدرة عجيبة في التهكم من أي شخص يُحذره من المستنقع، أو يبصره بحق الحياة الحرة الكريمة.
كيف تحولت الإهانة إلى خبز يومي لا يُشبع أحداً فيتمرد، ولا تؤثر في جائعه دساتير السماء والأرض مجتمعة، ولا تحركه نخوة تندفع إلى صدره فجأة بعد مشاهدة شعب من شعوب العالم يحمل كرامته ويتوجه إلى القصر فيزيل سيده كما تزيل مواد التنظيف أوساخاً تراكمت لوقت طويل؟
كل الأبواب طرقناها فلم نسمع إلا همساً!
حب الله، والوطن، ومستقبل الأولاد والأحفاد،والكرامة البشرية، والضمير، والكتب المقدسة، والمستقبل الكارثي لعملية إبادة المصريين التي يقوم بها مبارك منذ تولـّيه الحُكم، ومع ذلك فجيش الجائعين والعاطلين والصفوة وأبناء أبطال العبور والمتمسحون بالدينين الاسلامي والمسيحي وملايين المرضىَ ومثلهم من سكان العراء وعشش الصفيح والمقابر فضلا عن كل قوى التأثير في المجتمع من أساتذة الجامعات والقضاة والمحامين والإعلاميين ، ولم ننس ملايين العمال العبيد الذين سَخـَّرهم لصوصُ العهد لخدمةِ نظام الاستغلال البشع لم يتحركوا للدفاع عن حقوقهم المسلوبة!
كل الأنظمة الديكتاتورية في العالم وعلى مدىَ التاريخ يمكن أنْ تتهاوى بعد ثورة شعوبها لو تعرضت لرصاصة واحدة من وابل الرصاص الكثيف، المكتوب والمسموع والمشاهـَد، الذي تعرّض له نظامُ الطاغية مبارك، وبالرغم من ذلك فالنظامُ الوقح يضع أصابعـَه في عيوننا جميعا، ولو أتيت له بملء الأرض أدلة، على سبيل المثال، عن فساد إبراهيم سليمان، أو عن نهب خمسين ألف فدان، أو تهريب عدة مليارات، فسيضحك الرئيس حتى تنفجر مرارتـَك، ففاقدو الكرامة لا حقََّ لهم في الاحتجاج، ومن يُفـَرّط في وطنه عليه بتحَمـُل كل صنوف الإهانة.
الغريب أن القوى الدينية هي الأكثر دعماً لنظام البغي المباركي، وهي الأقل اكتراثاً للظلم الواقع على أعضائها واخوانها في سجون الطاغية، وهي الأشدّ رفضا لأيّ مظاهرات أو احتجاجات أو انتفاضات غضب، وهي الأسرع اشتراكاً في الانتخابات التي تمنح للمستبد شرعية من صناديق اقتراع تم تحديدها مُسبقا، ولو تحالف الأقباط مع الاخوان المسلمين حباً في مصر، وبعيدا عن الخلاف الديني فإن المشهد المصري سيتغير بالكامل.
أخشى أن يقتل المصريون الدكتور محمد البرادعي بالتجاهل، وأن يحبطهم هو بالصمت والسلحفاتية، ويحتفل ابن الطاغية ببداية نهاية كل العهود، فإذا حَكـَم جمال مبارك مِصْرَنا فلن تقوم لنا قائمة لقرون قادمة.
لازلت مؤيدا للدكتور البرادعي، لكنني أخاف عليه من لعبة أكبر منه يكتشف إثرها أن مبارك وابنه والمصريين والمعارضة تحالفوا جميعا ضده، وأنه قرر العودة إلى بيته الهاديء القريب من المعهد العالي للموسيقى بالعاصمة النمساوية.
طرحتُ من قبل موضوعاً تحت عنوان : لماذا يحتقرنا الرئيس مبارك؟، وأعيد الآن طرح السؤال بعدما عرفت الاجابة الصحيحة!
سامحوني، يرحمكم الله، على تفسيري الجديد لكلمة الكفر، فكل من يؤيد مبارك كمن يعلن الحربَ، سِـرّاً أو جَهراً، علىَ الله!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 23 مارس 2010
Taeralshmal@gmail.com
http://www.ahl-alquran.com/arabic/profile.php?main_id=948
http://taeralshmal.jeeran.com
http://www.ahewar.org/m.asp?i=461
http://www.youtube.com/results?search_query=%D8%B7%D8%A7%D8%A6%D8%B1+%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84&search_type=&aq=f
التعليقات (0)