تــاج ألكسندر الجديد
حين اختار ملك الضباب بداية العطلة الشتوية ليعلن عن بداية السنة المعرفية، تأكدت من حقيقة طالما راودتني الكتابة عنها لكنني تجنبت ذلك، و هي أنّ السلطة عند الإنسان لم تعد مرتبطة بالحاضر أو الزمن الراهن، و كأنها في زمن غير زماننا. إن الصدق الذي تقرب من هذا الملك لدرجة أن وشحه وزيرا على من كان لهم شرف الخيار و التوجيه إضافة إلى الرد في حين لا ينفع الرد، هو في الأصل وجه للسيطرة في أماكن و مواقيت مقيتة إلى درجة الازدراء. لكنها تبدوا من ذهب إذا صال الظلم بين أرجاء المغضوب عليهم من زاوية واحدة، فيبدوا أنّ ملك الضباب ما يزال متأثرا بأن تكون المملكة و شعوب ما وراء الضباب، و التي توافق بحرية سياسية أو علمية ممنهجة على جملة قوانين وثيقة انعدام القانون جزء كامل العضوية من مملكة الضباب العظيمة، و هذه الأخيرة تنظم و تضمن المساواة و التضامن بين بني آدم التي تتكوّن منها نفس الأقاليم الجديدة.
ففي يوم العزاء، يجلس الملك عادة في مقهى "الروداج" يدخن سيجارته و يرتشف فنجان القهوة، يتأمل عقارب الساعة المتثاقلة، ثمّ يسأل النادل إن تغيرت نسبة الثقافة خارج المقهى، فيقول: "لا" ، فيبصق في وجهه و يخرج مسرعا، و هو يصرخ في الناس: "يمكنكم أن تعودوا إلى التراث.....النهضة المعرفية ليست اليوم، و نهاية الضباب ليست غدا".
قد يكون هذا المشهد لقطة مبتورة من فيلم يضع أعصاب المشاهدين و المتتبعين على حافة انهيار عصبي يستمر حتى مساء المستقبل.
إنّ العرافين و المنجمين و باعة الوهم و الأكاذيب، في العالم يخرجون دائما من جحورهم في بداية كلّ عام ليطلقوا نبوءاتهم في كل الاتجاهات، و هي كما نعرفها، تبشر بكوارث و فواجع و مآسي، و ينتظر الناس عرافات القنوات الفضائية، و قارئات الكف ليعرفوا أيّ مصير يكون للفلسفة الفلانية و المذهب الفلاني، و الرياضي علان، و الأديبة علانة، و لا يسأل أحد عما سيحمل العام الجديد للفكر الصادق بعد أعوام من الغليان و المغالطة، و أي مفاجئات سيحملها لكل مفكر، و هل سيطلق الفكر لحية معارفه كما كان عليه الوضع في صناديق الفلسفة أم أنّ الفكر سيخرج شاهرا مقصه ليحلق اللحى، و يقرب النظريات من المعتقد، و يرفع شعار: "لا إكراه في الرأي" و لو كان مخطئا.
سيطلع علينا تجار الوهم و الخرافة و يلقون على مسامعنا آيات من القرآن، و أحاديث من السنة، و مأثورات عن السلف الصالح، يفسرونها على هوى إيديولوجياتهم الأنانية و يقولون: "إنه الحق" ثم يزفون لنا بعض تنبؤات نوسرداموس، فيقولون لقد تحدث عن النكبة الفلسفية، و انهيار الأنساق، و انعدام النتائج الفكرية بعد عمل و جهد عظيميْن من التفكير، مثلما تحدث عن النكسة العلمية و الحضارية، و انتشار الجهل و عدم الوعي على امتداد الخارطة الإنسانية و ما جاورها، و في اليوم الموالي يقولون: " مبروك .......... صار للفكر أصحاب، مهمنين و محترمين، و أنّ العقول الجامدة تحركت أخيرا بعد أن اعتقلت العقول المسيطرة و المتحالفة مع العقول الجاهلة، و أنّ العلم زار القلوب الميّتة سرا، و أنّ اليقين أرسل برقية تهنئة للاحتمالات معتقدا أنّ وزيره المتيقن ما زال يحكم... و أنّ الخير خرج من سجنه إلى ساحة الشر يدخن غليونا، و أنّ الإبداع زار العرب الجدد و تصالح مع عقولهم كما فعل مع أناملهم، و أنّ الصمت اقترح معرفة قبر والده مقابل اعترافه بالصوت الحر، و أنّ الإقصاء تعرض لإنزال جويّ حواريّ استهدف منشآته التعتيمية، و أنّ دولة المشاكل اقترحت على كتيبة الحلّ الوحدة بعد الاستقلال، و أنّ آسري التفكير دفنوا أسلحتهم في مقبرة السلطة الموحشة."، هكذا يقولون، و هم أكثر من متأكدين أنه لن يحدث، لأنهم لا يحبون أن يحدث و لو في أحلامهم.
هكذا هو عالم المعرفة، يفرح صباحا بميلاد قانون علميّ جديد يضاف إلى ترسانة القوانين الوضعية المقنعة، و يحتفي مساء باكتشاف حلّ للغز الجهل المؤقت.
فلماذا يستعجلون نهاية الكون؟ و يجعلون سيّد مملكة الضباب و وزرائه يهنئون بفرحهم، فقد انتظر الناس نهضة الجاهلين، لكن شيئا لم يحدث، و اعتذر ملك الضباب عن شطحته العلمية الفاشلة ليقول له العلماء: " من الأفضل أن تأتي بأكاذيب فاخرة على أن تأتي بمعارف ساخرة". فلا مزيد من القلق و الحيرة مادامت هناك نقطة في جزء بسيط من جهة أسفل المخ تعمل و تقود البشر.
لن نقلق بعد اليوم، لأننا مدركون أنّ هناك أغاني أندلسية تريح الضمير، و تزور المسامع من وقت لآخر، فالعلم هو مسيرة الإنسان المبهرة، و هو تاج الفلسفة الجميل.
فكثيرا ما تأذى هذا التاج عبر العصور، فقد سرقه اللصوص ثم باعوه لتاجر يشتري المسروقات الثمينة، أخذه هذا الشخص إلى صائغ ليتعرف على قيمته الحقيقية، و إذا به يأخذ نصف ثمانية أجزاء ثمنه الوافي، عرضه الصائغ معلقا إياه على واجهة متجره فلم يُعجب به المارون إلاّ متمرّدا يلبس بزة شرطي، فدخل و سأل عن ثمنه و وزنه و مدى نقائه، ثم اشتراه دافعا سعره ببطاقة ائتمانية مزيّفة، و وضعه في حقيبة سرقت من يده و هو يتجوّل في سوق العوام، أين وجد التاج نفسه هدية من محتال يطمع في فتات الإدارة و الحكم إلى أمير لا يفقه من الدنيا إلاّ اللباس الأنيق، العطر المبهج، و الحسناوات الخبيثات. أخذ الأمير التاج، و وضعه على رأسه لفترة قصيرة حتى يتمكن خادمه المطيع أن يأخذ له صورة بهاتفه المحمول، أين وضعها ذات الخادم بعد ذلك على صفحته الخاصة على الفايسبوك ، فلم يُعجب بها أحد، و مع ذلك تلقت عددا كبيرا من التعليقات المليئة سبا و تجريحا.
هذه هي حالة العلم الذي لم يجد من يحفظه من مؤامرات الخونة و كيد الزمان، إنه لشيء مؤسف لن يزيدنا إلاّ إصرارا على التمسك بنور هذا التاج اللامع، و الذي سيحميه شرفاء الجيل الجديد كما حفظه السابقون من الخالدين.
Mr. Viktor Dilavera
التعليقات (0)