تغيير الأحكام الشرعية . للمفكر/ إبراهيم أبو عواد .
إن القرآن الكريم هو الْحَكَم الحاكِم . قد جاء بالأحكام الشرعية لما فيه خير البشرية ، ولم يجيء ليوضع على الرفوف أو يصبح منظراً فلكلورياً للزينة. إنه الكلام الإلهي المقدّس المشتمل على سُبل إسعاد الوجود .
لذلك ينبغي الالتزام بحُكْم القرآن في كل الحالات، وإخضاع الهوى للشريعة الإلهية كي يتحرر المرءُ من الخطيئة والقلق ، ويغدوَ فرداً صالحاً لإعمار مجتمعه الكَوْني بالفضائل والمحبة وفق المنظور الإسلامي المعصوم .
وقد نهى اللهُ تعالى عن تحريم الطيبات لما في ذلك من تغيير حُكم الله ، والاعتداءِ على شريعته الكاملة التي جاءت لإصلاح الفرد والجماعة .
قال الله تعالى: (( يا أيها الذين آمنوا لا تُحرموا طَيباتِ ما أَحَل اللهُ لكم ولا تعتدوا )) [ المائدة : 87] .
وهذا الأمرُ الإلهي الجليل بعدم تحريم اللذائذ التي تشتهيها النفس البشرية تقشّفاً وتزهّداً ، وعدم تجاوز الشريعة في تحريم الحلال والانتقالِ إلى الحرام . ويجب امتثال حُكم الله تعالى وعدم الاعتداء عليه بتجاوزه أو رفضه أو التحايل عليه .
وعن ابن عباس _ رضي الله عنهما _: أن رَجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إني إذا أَصبتُ اللحمَ انتشرتُ للنساء ، وأخذتني شهوتي ، فَحرمتُ علي اللحمَ ، فأنزل اللهُ : (( يا أيها الذين آمنوا لا تُحرموا طَيباتِ ما أَحَل اللهُ لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين )) .
[رواه الترمذي في سُننه ( 5/ 255 ) برقم ( 3054 ) وحسّنه .].
وهذه المنهجيةُ الإسلامية في التعامل مع الشهواتِ البشرية ، والأشواقِ الإنسانية الساعية إلى اللذة والمتعة ، مبنيةٌ على الوسطية بلا إفراط ولا تفريط . فالإسلامُ لم يجيء ليستأصل الشهواتِ والغرائز ويحظر الاستمتاع بالحلال ، وإنما قام بتنظيم الشهوات وجعلها في نصابها الصحيح ، بحيث يحصل الفردُ على متعته بالحلال ، وتكون هذه المتعةُ حافزاً له على استقبال أيامه بحيوية من أجل إعمار الأرض وإصلاحِ المجتمع .
وفي صحيح مسلم ( 2/ 1022 ) : عن عبد الله بن مسعود _ رضي الله عنه _ قال : (( كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لنا نساء ، فقلنا : ألا نستخصي ؟ ، فنهانا عن ذلك ، ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل )) ، ثم قرأ عبد الله : (( [ يا أيها الذين آمنوا لا تُحرموا طَيباتِ ما أَحَل اللهُ لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ] )) .
وهنا تتجلى رحمة الشريعة بالناس ، ومنعهم من تعذيب أنفسهم ، أو إيرادها المهالك . فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخِصاء ( قطع الذّكَر أو نزع الخصيتَيْن ) . وبالطبع ففي الحلال ما يُغني عن الحرام ، وقد جاءت الشريعةُ لرفع الحرج لا إحراج الناس . وإن الأمر كلما ضاق اتسع . وقد جاءت الشريعةُ لتحقيق مصالح العباد ، وتنظيم حياتهم عبر توجيه الشهوات في طريقها الصحيح الذي لا يُفضي إلى مشكلات اجتماعية تقصم العمودَ الفقري للجماعة الإنسانية .
وقال الحافظ في الفتح ( 9/ 119 ) : (( نهي تحريم بلا خلاف في بني آدم .. وفيه أيضاً من المفاسد تعذيب النفس ، والتشويه مع إدخال الضرر الذي قد يُفضي إلى الهلاك ، وفيه إبطال معنى الرجولية ، وتغيير خلق الله ، وكُفر النعمة ، لأن خلق الشخص رَجلاً من النعم العظيمة فإذا أزال ذلك فقد تشبّه بالمرأة )) اهـ .
وقوله : " ألا نستخصي ؟ " دليلٌ على أن نكاح المتعة كان محظوراً في الغزو ، فلو كان مباحاً لم يكن لهذا السؤال معنى . وقد حصل الترخيص بنكاح المرأة بالثوب أو أي شيء مما يحدث به التراضي إلى أجلٍ في نكاح المتعة .
وظاهر استشهاد ابن مسعود بالآية يوحي بأنه يرى جواز نكاح المتعة . وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن نسخ الحكم لم يبلغه في تلك الساعة ، وحين علم به رجع عنه . علماً بأن مفهوم الطيبات يحدده الشارعُ . فنكاحُ المتعة حينما كان مباحاً كان طيباً ، وعندما تم تحريمه صار خبيثاً . فالنصوصُ الشرعية هي التي تكشف مستوى الشيء من حيث نفعه وضره . وقد جاءت الشريعةُ تراعي الحاجاتِ البشرية في الظروف المختلفة ، فترفع عن الناس الحرجَ ، ولا تحشرهم في الزاوية . كما أن التدرج والتتابع منهجيةٌ إسلامية. فمثلاً كان تحريم الخمر على دفعات ضمن سياق تدريجي، ونكاحُ المتعة صار محرماً بعدما كان مباحاً . وهذا كله مراعاة للحاجات البشرية ، وعدم اضطرار الناس للدرب الضيق ، أو التضييق عليهم وتحميلهم فوق ما يحتملون . فاللهُ تعالى هو خالق النفس البشرية ، ويعلم مدخلاتِها ومخرجاتِها .
وعن مسروق قال : أُتِيَ عبد الله ( يعني ابن مسعود ) _ رضي الله عنه _ بضرع فقال للقوم : (( ادْنُوا )) ، فأَخذوا يطعمونه ، وكان رَجلٌ منهم في ناحية ، فقال عبد الله : (( أُدْنُ )) ، فقال : إني لا أريده ، فقال : (( لِمَ ؟ )) ، قال : لأني حَرمْتُ الضرعَ، فقال عبد الله : (( هذا من خطوات الشيطان )) ، فقال عبد الله : (( [ يا أيها الذين آمنوا لا تُحرموا طَيباتِ ما أَحَل اللهُ لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ] أُدْنُ فَكُلْ وكَفرْ عن يمينكَ فإن هذا من خطوات الشيطان )).
[رواه الحاكم في المستدرك ( 2/ 343 ) برقم ( 3223 ) وصحّحه ، ووافقه الذهبي .].
وقال الشاطبي في الاعتصام ( 1/ 251 ) : (( وعلى ذلك جَرَت الفُتيا في الإسلام : إن كل من حَرّم على نفسه شيئاً مما أحل اللهُ له فليس ذلك التحريم بشيء ، فليأكل إن كان مأكولاً ، وليشربْ إن كان مشروباً ، وليلبس إن كان ملبوساً ، وليملك إن كان مملوكاً . وكأنه إجماع منهم منقول عن مالك وأبي حنيفة والشافعي وغيرهم )) اهـ .
فالشيطانُ يحاول جاهداً أن يوقع الإنسانَ في دوائر تحليل الحرام وتحريمِ الحلال كي يبتعد عن تعاليم الشريعة ، ويسقط في أحكامه العقلية القاصرة ، وأهوائه المتضاربة . مما يؤدي إلى غياب المرجعية الشرعية في أحكام الحلال والحرام عن قلب الإنسان ، فيغدو تائهاً خاضعاً لنزواته وقراراته الشخصية النابعة من فهمٍ قاصر بعيد عن التعاليم الإيمانية السمحة التي توسِّع على الناس ، لكن البعض لا يرتاح إلا إذا ضَيّق على نفسه وحشرها في الزاوية ، واضطرها إلى أضيق السبل .
قال الله تعالى : [ قد خسر الذين قَتلوا أولادَهم سفهاً بغير عِلْم وحَرموا ما رزقهم اللهُ افتراءً على الله ][ الأنعام : 140] .
(( نَزلت في ربيعة ومضر وبعض العرب من غيرهم ، كانوا يدفنون البناتِ أحياء مخافة السبي والفقر )).
[تفسير البغوي ( 1/ 194 ) ، والكشاف للزمخشري ( 1/ 380 ) .].
أي إن هؤلاء الجهلة الذين قتلوا أولادَهم ( وأدوا بناتهم ) بكل طيش وسَفهٍ وقلة عقل ، وحرموا طيباتِ ما أحل اللهُ لهم من الأنعام كالبحيرة والسائبة كذباً على الله تعالى، واعتداءً على شريعته ، قد باؤوا بالخسران في الحياة الدنيا( قتلوا أولادهم وضيقوا على أنفسهم وحرموها من الاستمتاع بالحلال )، وخسروا الآخرةَ أيضاً حينما يُعذبون في الجحيم. فقد جعلوا عقولَهم الناقصة مصدرَ التشريع ، وراحوا يخترعون أحكاماً ما أنزل اللهُ بها من سلطان وألزموا أنفسهم بها جهلاً وعدواناً . وهذا الأمر يعكس جهلَ العرب الذين كانوا يئدون بناتهم ، ويَحرمون أنفسهم من الأولاد زينةِ الحياة الدنيا ، ويُدمِّرون حياتهم بأيديهم .
وفي صحيح البخاري ( 3/ 1297 ) : عن ابن عباس _ رضي الله عنهما _ قال : إذا سَركَ أن تعلم جهلَ العرب ، فاقرأْ ما فوق الثلاثين ومائة في سورة الأنعام [ قد خسر الذين قَتلوا أولادَهم سفهاً بغير عِلْم وحَرموا ما رزقهم اللهُ افتراءً على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ].
ويواصل القرآنُ بيانَ جهل العرب وتحكيمهم لأهوائهم وشبهاتهم ، وغياب المنهج الإيماني عن حياتهم .
قال الله تعالى : (( إنما النسيء زيادة في الكُفر يُضَل به الذين كفروا يُحِلونه عاماً ويُحرمونه عاماً )) [ التوبة : 37] .
قال ابن كثير في تفسيره ( 2/ 469 ) : (( هذا مما ذَم اللهُ تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة ، وتحليلهم ما حَرم اللهُ، وتحريمهم ما أحل اللهُ ، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامة والحمية ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد أَحدثوا قبل الإسلام
بمدة تحليل المحرم ، فأَخروه إلى صَفَر ، فيُحِلون الشهرَ الحرام ، ويُحرمون الشهرَ الحلال )) اهـ .
إن الأشهر الْحُرُم عند الله تعالى أربعة : ذو القعدة ، ذو الْحِجة ، المحرم ، رجب . فيحرم فيها القتالُ ، وهذا الأمرُ ثابتٌ في الجاهلية والإسلام بلا اختلاف . فقد كان العربُ في الجاهلية يُحرِّمون القتالَ في الأشهر الحرم، لكنهم كانوا يعيشون على الغارات والغزو فيما بينهم. فالاقتصادُ الجاهلي قائمٌ على أساس الإغارة على الآخرين ونهب ما يمكن نهبه . فإن احتاجوا إلى القتال في شهر حرام قاموا بتحليله والقتال فيه ، ثم تحريم شهر آخر مكانه. وبما أن هناك ثلاثة أشهر حُرُم متوالية ، وهي ذو القعدة ، ذو الحجة ، المحرّم . فإن هذه المدة الطويلة كانت تعيق مشاريعَ الغزو والنهب ، وهذا يعني انهيار عائداتهم المادية من الغارات ، لذلك لجأوا إلى التحايل باختراع النسيء ( التلاعب بتحريم وتحليل الأشهر ) . مما يشير إلى أن المنفعة الذاتية أدّت إلى قيام العرب بتغيير أحكام الأشهر الحرم ، يعني إخضاع الشريعة المتعارف عليها لسُلطة المصلحة المادية الدنيوية .
وفي الحديث المتفق عليه. البخاري ( 2/ 567) ومسلم( 2/ 909 ): عن ابن عباس _ رضي الله عنهما_ قال عن أهل الجاهلية : (( ويجعلون المحرم صَفَراً )) .
وقد كانوا يقومون بهذا الفعل القبيح لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر ، وهم ممنوعون من القتال . فاخترعوا هذه الحيلة لتحقيق مصالحهم الشخصية ، ولئلا تضيق أمورهم المادية التي يحصلون عليها من الغارات . (( وكانوا في الجاهلية على أنحاء ، منهم من يُسمِّي المحرّم صَفراً فَيُحِل فيه القتالَ ، ويُحرِّم القتالَ في صَفر ويُسَمِّيه المحرم . ومنهم من كان يجعل ذلك سنة هكذا وسنة هكذا ، ومنهم من يجعله سنتين هكذا وسنتين هكذا ، ومنهم من يُؤخِّر صَفراً إلى ربيع الأول وربيعاً إلى ما يليه ، وهكذا إلى أن يصير شوال ذا القعدة وذو القعدة ذا الحجة ثم يعود فيعيد العدد على الأصل)).
[فتح الباري لابن حجر ( 8/ 325 ) .].
http://www.facebook.com/abuawwad1982
التعليقات (0)