تعريف مصطلح "منظمات المجتمع المدني"
عرف البعض منظمات المجتمع المدني بأنها :
الجماعات المجتمعية / المنظمات غير الحكومية / النقابات العمالية / منظمات الشعوب الأصلية / المنظمات الخيرية / المنظمات الدينية / الروابط والمؤسسات المهنية...... ومنهم من أدخل بعض المنظمات الدولية التي نشأت في الغرب داخل إطار هذا التعريف ومنها على سبيل المثال : منظمة العفو الدولية والصندوق العالمي لحماية الطبيعة.
هيئات الإغاثة الإسلامية من أنبل منظمات المجتمع المدني ولكن يعاب عليها أنها تتعامل مع المسئولين أكثر من التعامل مع عامة المنكوبين مباشرة وهو ما يقلل كثيرا من فاعلية خدماتها التي تذهب إلى جيوب ومخازن لصوص الإغاثات من المسئولين في الدول المتخلفة
....................
وفي دول العالم الثالث تعدد تعريف مصطلح " منظمات المجتمع المدني" الثالث كثيراً ؛ ولكن كانت أكبر الأخطاء هو زعم البعض أنها تشمل النقابات العمالية وإتحادات الطلاب .... فمثل هذه التنظيمات في دول العالم الثالث عادة ما تكون قياداتها وكوادرها العاملة مرتبطة إرتباطا وثيقا بالحكومات ولديها أجندة ومصالح وطموحات خاصة بها لا يشترط أن تكون متوافقة مع قناعات ومطالب ومصالح عامة الشعب من غير المنتمين إليها.
والطريف أن البعض قد أضاف الأحزاب السياسية إلى منظومة المجتمع المدني في العالم الثالث... ويبدو أن ذلك مؤداه إلى تدخل العسكر في السلطة وإمساكهم بتلابيبها بين كل فترة وأخرى في تاريخ شعوب هذا العالم الثالث المتخلف.
إن ممارسة النقابات المهنية (في السودان على سبيل المثال) دائما ما نراها تتركز على النواحي "المطلبية" للأعضاء وحل المشاكل التي تنشأ بين العضو أو المجموعة أو النقابة ؛ وبين الوزارة أو إدارة المرفق الذي يعمل بها هؤلاء... وحيث زيادة الرواتب والمهايا والأجور دائما ما تكون القاسم المشترك الأعظم للمطالب والجزء البارز والمخفي من جبل الجليد معا وفي آن واحد......
ولكن بالمقابل فإن كافة النقابات السودانية كانت ولا تزال عبر تاريخها نهبا للتيارات السياسية وسيطرة الأحزاب التقليدية الرئيسية أو الأنظمة العسكرية وأذرعها الحزبية الشمولية.
لكن ؛ ودون تطرق للتفاصيل وإستغراق في الفرعيات وحرصا على المسار العام لهذا المقال ؛ فإنه وطالما كانت النقابة ووفق دستورها تعنى بشكل أساسي على تحقيق الحقوق المطلبية لأعضائها وتتخذ مواقفها من السلطة وفق إنتماءات قادتها المنتخبين من القاعدة ، فإنه لا يمكن الزعم بأنها تنظيم مجتمع مدني بقدر ما يجب أن توصف بأنها "تنظيم مهني مطلبي" ..... وتمارس قياداته النشاط السياسي التبعـي كعمل إضافي مدفوع الأجر في جميع الأحوال السياسية حرية كانت أو ديكتاتورية شمولية.
...................
ولكن الطريف أننا وفي دول العالم الثالث ولأسباب خاصة بنا تتعلق بتدخل القوات النظامية من جيش وشرطة وأمن وإستخبارات في تولي زمام السلطة عبر الإنقلابات العسكرية . أو مشاركة السلطة في أنشطة الإعتقال السياسي وتكميم الأفواه وإطلاق يد الأجهزة الأمنية والبوليسية دون إعتبار لحقوق الإنسان أو حرص على تطبيق القانون المدني . بل وحيث نرى حتى النيابة العامة تتحول إلى أداة قمع ..... كل ذلك أدى بالمثقف والمنظر في دول العالم الثالث إلى تعريف منظمات المجتمع المدني على نحو خاطيء ، ودفعه بالتالي إلى أن يضع في سلتها النقابات المهنية والأحزاب السياسية والإتحادات الطلابية ...... أو كأنّه يريد أن يترجم الحالة العامة بالقول أن كل من يرتدي الزي المدني هو تنظيم مدني ؛ في مقابل كل من يرتدي الزي الرسمي العسكري الذي يسيطر على السلطة أو يشارك بدرجة من الدرجات في توجيه قراراتها وسياساتها . على عكس الحال في دول العالم المتقدم في غرب أوروبا والولايات المتحدة وكندا والدول الإسكندنافية وغيرها من جزر ديمقراطية في أماكن أخرى مثل أستراليا ونيوزيلاندا.
وعلى ضوء أن القوات النظامية في الغرب الأوروبي والولايات المتحدة لا يحق لها الإستيلاء على السلطة ؛ فلعل هذا ما يفسر التعريف المرادف لمصطلح "منظمات المجتمع المدني" بوصفها تمارس هناك العمل التطوعي الخيري كسلطة إجتماعية موازية للحزب السياسي الحاكم.
وربما لأجل ذلك افلح جون قرنق ومن بعده بعض حركات التمرد في دارفور .. افلحوا في لفت الأنظار نحوهم حين لجأوا إلى منظمات المجتمع المدني في الغرب والدول الإسكندنافية والولايات المتحدة عن قصد وسابق تدبير بدلا عن اللجوء للساسة مباشرة . وذلك بعد أن أدركوا وفهموا أن منظمات المجتمع المدني في تلك الدول تعتبر وسيلة الضغط المثلى والطريق الأقصر للوصول إلى عقل السلطة السياسية في تلك البلاد الديمقراطية التي لا يصل فيها الرئيس ونواب الحزب للسلطة التنفيذية والتشريعية إلا عبر الإنتخابات الحرة النزيهة ....
وكانت الشعارات المرفوعة من جانب منظمات المجتمع المدني هناك هي:
"إيقاف المجازر التي يتعرض لها المسيحيون في الحنوب على يد المسلمين الشماليين" ....
ثم "إيقاف المجازر والإبادة التي يتعرض لها الزنوج في دارفور على يد العرب" .....
إنها مطالب (وإن كان باطنها سياسي هنا في السودان ) . إلا أن ظاهرها المعلن هناك كان إنساني بحت، وبما يلبي طموحات ويتواءم مع التوجهات والقانون الذي يحكم عمل ونشاط منظمات المجتمع المدني في تلك الدول ... وبالتالي أصبح هذا المطلب الإنساني يشكل ضغطا لا يستهان به على الساسة في تلك الدول وبات جزءا من حملاتهم الإنتخابية سواء كأعضاء في إتحادات الطلاب أو البلديات ومجالس الشعب أو الرئاسة .....
ولعل ذلك ما يفسر ويفهم من خلاله الكلمات المختارة والتعابير المنتقاة بعناية للمبعوث الأمريكي في الخرطوم إسكوت غريشون حين يتحدث في داخل الولايات المتحدة بوجه خاص عن نتائج الإنتخابات والقبول بها بما يوحي بأنها جاءت ثمنا زهيدا لشراء أرواح أتباع المسيح في الجنوب ودرءاً لإهدار دماء المزيد من "الأفارقة" في دارفور.
.........................
وبالعودة مرة أخرى لبيت القصيد ؛ وإذا ذهبنا نتمشى الهوينى في بطاح عالمنا الثالث والمتخلف مع أصحاب التعريف المغلوط المشار إليه بأن الأحزاب السياسية هي جزء من منظمات المجتمع المدني . فإن من حق الأحزاب الشمولية الحاكمة هنا أن تدعي أيضا أنها منظمة من منظمات المجتمع المدني وتدخل بالتالي في عباءة البراءة .... فوجود حزب سياسي في السلطة لا يجب أن يحرمه من التمتع بمسمى التنظيم المدني .... تماما كما يحاول الحزب السياسي الآخر التحلي بهذا الوسام خلال تواجده في كراسي المعارضة..... وحيث نرى في حالة "حزب المؤتمر الشعبي" بقيادة حسن الترابي المثل الصارخ على هذا التناقض الميكانيكي بين حالتي التربع على السلطة وحين الخروج أو الطرد منها.
الأحزاب السياسية .. الأولوية في المنافع لمصلحة زعمائها ثم مموليها ثم لكوادرها العاملة ثم لأتباعها .... فإن تبقى شيء بعد أن يغرف ويتشبع كل هؤلاء يصب لمصلحة المواطن
......................
إن من أبرز مساخر الحال في دول العالم المتخلف ما نراه على سبيل المثال في تحركات وتكتيكات "الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان" التي تشارك الحزب الحاكم في السلطة شراكة كاملة ثم تنقلب إلى صفوف المعارضة فتدعي أنها جزءاً منها ........
إنها إذن المثال الصارخ على تكتيك اللعب على الحبلين وإمساك العصا من المنتصف والرقص على كل المسارح وشرب الأنخاب مع الجميع ومطارحة الغرام على أسرة النوم الحمراء تحت الكافة .....
وبالطبع فإنه تكتيك لا يخيل بالضرورة على الأحزاب السياسية المعارضة المنهكة القوى والمفلسة في الشمال ... ولكن وكما يقال فإن الغريق يتمسك بالقشة .... والظمآن يلهث خلف سراب بقيعة ......
والأحزاب السياسية الشمالية مشكلتها أن التقليدي منها يرفض التخلي عن الجبة والسديري والعمامة الطائفية والصفة والممارسة البيتية للسياسة ، وخداع البسطاء من الأتباع بأوهام عضوية الحضرة النبوية ، ومزاعم الدعاء المستجاب وأن ليس بينهم وبين الله حجاب . في حين تفتقد الأحزاب الناشئة والعلمانية منها للتمويل وحظوظ الإقبال الجماهيري وتنامي العضوية.
وفي الجانب النقابي ؛ فإننا لو أخذنا النقابات العمالية وتاريخها على وجه خاص . فإننا لا يمكن أو يعقل أن نقتنع بأنها تنظيمات مجتمع مدني. لأن هذه النقابات نشأ أغلبها وترعرع في حضن الشيوعية وشربت من كأس السياسة حتى الثمالة . وكانت النقابة العامة للعمال برئاسة الشيوعي الملتزم "الشفيع أحمد الشيخ" حصن الحزبية الحصين حتى إنقلاب الرائد هاشم العطا في 19 يوليو قبل أن يتم تقطيع أوصال الحزب الشيوعي على إثر فشل الإنقلاب المشار إليه وعودة الجنرال جعفر نميري للسلطة.
وبعد عودة نميري للحكم تم تدجين نقابات العمال وتحولت إلى جزء من الإتحاد الإشتراكي ، ثم تقاسمت الأحزاب تركتها بعد الإنتفاضة حتى آلت إلى حبل الإنقاذ أخيراً ولا ندري إلى من تؤول غداً أو بعد غد ..... وعلى نسق ذلك قس نقابات المزارعين والأطباء والمحامين والرعاة وإتحادات الطلاب ..... إلخ.
فكيف إذن ووفق هذا التدجين السياسي الصارخ يزعم البعض في بلدان العالم الثالث أن النقابات المهنية والإتحادات الطلابية جزء من منظمات المجتمع المدني ؟
ولأجل ذلك ومن مفارقات دول العالم الثالث أيضا ً؛ نلاحظ أنه وفي الوقت الذي تعتبر فيه وزارات الداخلية والدفاع ورئاسة جهاز الأمن والشرطة هي المناصب السيادية التي يطمح إليها الطامحون وتجبى لبيوت وحسابات متقلديها الثمرات من كل جانب ويشار إليهم بكل بنان ؛ فإننا نجد في دول العالم المتقدم في ألمانيا وكندا وتلك الإسكندنافية على سبيل المثال أن وزارة التنمية الإجتماعية والبيئة هي الوزارة الأكثر حظا من مخصصات الميزانية العامة للدولة ، والأهم والأكثر إلتصاقا بالحياة اليومية للشعب وأكثرها جلبا لأصوات الناخبين ، بإعتبارها الوزارة المسئولة عن رعاية وصيانة الحقوق والإشراف على منظمات العمل المدني.
وبرغم تمسك الغرب بالحرية والديمقراطية فإنه لا يفرط في حق الدولة الدستوري في مراقبة أنشطة منظمات المجتمع المدني والحيلولة دون جنوحها عن الخط الأهلي الذي أنشئت من أجله ووفق القانون والدستور بالطبع الذي ينظم العمل الديمقراطي الحر. وليس كما يظن بعض الهمج والبلهاء في دول العالم الثالث أن الديمقراطية والحرية تعني التخريب وخرق القوانين وممارسة الفساد في الأرض دون حسيب أو رقيب.
في دول العالم المتقدم التي نحاول إستيراد ممارسات تنظيمات المجتمع المدني منها كنا نسمع ولا نزال بمنظمات مجتمع مدنية من قبيل "أطباء بلا حدود" و "محامين بلا حدود" و "صحفيين بلا حدود" و "مهندسين بلا حدود" و "فنيين بلا حدود" و "مدرسين بلا حدود" بل وحتى "سباكين بلا حدود" ؛ لتقديم يد العون والمساعدة والخدمات الطبية والعدالة والصيانة في المنازل والتجمعات مجانا للفقراء والمظلومين .... هذه هي منظات المجتمع المدني الحقيقية التي تهدف لخدمة المجتمع وليس التهريج وبيع الولاءات في المزادات العامة لأقصى سعـر...
................
إن من حقنا هنا أن نتساءل عن الخدمات التي قدمتها أو تقدمها النقابات المهنية لشعوبها في دول العالم المتخلف ؟؟
كل الذي تمارسه النقابات في دول العالم الثالث المتخلف أنها تسعى لمصلحة أعضاءها في المقام الأول والأخير .... تحسين الأجور .... تحسين بيئة العمل وظروف الخدمة .... مزيد من الإجازات ... مزيد من الإمتيازات ... مزيد من البدلات ..... ومزيد ومزيد ..... وكل ذلك على الرغم من أن معظمهم تم إلحاقهم بالمدارس والجامعات الحكومية وحتى حين تخرجوا على حساب الضرائب التي يدفعها المواطن.
حتى الإتحادات الطلابية تستنكف أن تشارك بحملات جادة مثمرة متواترة لتنظيف الأحياء والطرقات والمجاري وإقامة التروس ، وإبتكار سبل متعددة لخدمة المجتمع .. أوْ كأنّ الغرض منها هو ممارسة السياسة وتنظيم الإحتجاجات والإضراب وتخريب قاعات الدرس وتحطيم المقاعد ومصابيح الإنارة وسيارات المواطنين وقذف المارة بالحجارة ....
فهل يعقل أن يطلق على مثل هكذا نقابات وإتحادات صاحبة هكذا قناعات ومفرزة هكذا ممارسات مصطلح منظمات مجتمع مدني ؟؟؟
بعيدا عن الأجندة السياسية الضيقة للنقابات ومماحكاتها ومغالطاتها الجوفاء إستطاعت هيئات الإغاثة الإسلامية تقديم الأفضل لمجتمعاتها
التعريف الأمثل لمنظمات المجتمع المدني في دول العالم الثالث:
في ظل وجود وزارة للتنمية الإجتماعية تضع السياسة العامة وفق القانون والدستور. وعلى نحو يكفل حرية الممارسة في إطار الأهداف العامة المعلنة لكل منظمة من منظمات العمل المدني ترغب في تسجيل نفسها للعمل ..... فإن التعريف الأمثل إنما يجب أن يتجه إلى أنها تلك الجمعيات الأهلية الطوعية الموازية بهدف النهوض بالمجتمع ومساعدة الدولة وإيصال صوت المواطن العادي للأجهزة الرسمية دون تبني أجندة حزبية سياسية أو جهوية أو فئوية أو مهنية مطلبية مسبقة ...
هذه المنظمات المدنية ينشئها أفراد من المجتمع بمحض إرادتهم الخاصة وينفقون عليها من مواردهم الشخصية ، أو التبرعات العلنية من عامة الشعب ... يتفق أعضاؤها على دستور ولائحة تنظم عمل المنظمة وصلاحيات قادتها وكوادرها المنتخبين لمدد محددة . بعد أن يتم تسجيلها رسميا وتعترف بها الدولة ؛ شريطة أن تصل أعداد المنتمين إليها إلى رقم محدد كحد أدنى . وأن تلتزم بتقديم ونشر بيانات مالية مدققة عن مصادر التمويل والنفقات عقب عقد إجتماع دوري سنوي مرة واحدة على الأقل لجمعيتها العمومية.
التعليقات (0)