لو اريد لنا ان ننظر لعوامل مشتركة تجمع منطلقات ومآلات ثورات الربيع العربي..لأمكننا ان نضع عدة خطوط لكونها جميعا تنتظم في كونها ردود افعال شعبية تجاه التقادم الملح لسياسات القمع والإستبداد وخنق الحريات..والاهم انها كانت ضد الحكم الفردي التسلطي الدموي الذي مارسته انظمة اجرامية في حق شعوبها لعقود..والاكثر اهمية هو انها كانت استجابة لرفض معتق متخمر لتغييب الارادة الشعبية وسلب المجتمع لوسائل التعبير عن خياراته الحرة والفرض القسري لرؤى الحكم ومتبنياته على الشعب كخيار اوحد ونهائي منتحل القداسة والصوابية المطلقة..
وهذا الاستنتاج يقودنا مباشرةً الى ان تلك الثورات المجيدة –ومنها الثورة الليبية-رغم اختلافها في المقدمات والوسائل والخواتيم الا انها تشترك في كونها مشروعا وطنيا تحقيقا لاحلام الجماهير في بناء المجتمع المدني الحر والمترجم لتطلعات الشعب والمعبر عن ارادته من خلال الوسائل الديمقراطية التي تحترم التعددية الثقافية والفكرية للمجتمع وتعلي من حقوق الانسان في المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية وحق التعبير الحر..
ومن هنا نجد ان السيد مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الانتقالي الليبي قد مارس حقه في التعبير عندما أطر خطابه الاول الى الشعب بكلمات الحمد والثناء والسجود شكرا لله على نصره استنادا الى خلفيته السياسية الاسلامية وخياراته الايديولوجية..ولكننا لا نجده محقا في قفزه على نضالات الشعب الليبي واستباقه لنتائج المرحلة الانتقالية من خلال الاعلان عن شكل الدولة وهويتها اعتمادا على معتنقاته ومتبنيات جماعته الفكرية والسياسية دون الرجوع الى الشعب والاحتكام لرأيه المعبر عنه بصناديق الاقتراع في انتخابات حرة ونزيهة وشفافة مستندة على نظام انتخابي منبثق من دستور حاصل على تأييد شعبي واضح وصريح..
لقد دخل الشعب الليبي في نفق معتم من ممارسات الدولة البوليسية لسنين من خلال خطاب آخر وان كان بعبارات مختلفة..وتحت متبنيات اخرى عاشوا عقودا من مكابدة النزوات الذهانية لزعيم اوحد وجد الكثير ممن يلاقون كلماته بالهتاف والتهليل..ويبدو انه لن يكون من العدل ان يجبروا على مقاساة عقودا اخرى من التهميش والاقصاء تحت شعارات جديدة ..
كما ان الترويج الزائف لفكرة الاسلام الوسطي لن تقوى على الصمود امام فوضى التأويلات المتكاثرة لمفهوم الوسطية والتي يتزاحم على انتحالها بون واسع من الجماعات يتأرجح ما بين قاطعي رؤوس المخالفين الى المبشرين بسيكارة السعادة والنبيذ الحلال..والسيد عبد الجليل مطالب قبل ان يمارس الهواية التقليدية للمتأسلمين في القفز على المسارات النضالية للشعوب ان يحدد اي الوسطيات يعني خصوصا مع الزعيق المتصاعد من العديد من المنابر الجهادية
إلى "التعجيل في بسط السيطرة على المدن ذات الموارد الاقتصادية والمواقع الإستراتيجية وإقامة المحاكم الإسلامية فيها"وهل يكفي ان يبدل ربيب الزرقاوي والقيادي السابق في الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة أبو عبد الله الصديق اسمه الى عبد الحكيم الخويلد بلحاج لكي ينعت بالوسطية..
ثم ما هذه الخفة والتهوين من نضالات الشعب الليبي ودماء شهدائه لكي يكون اول قرار يتخذه المجلس الانتقالي وهو يعلن عن تحرير البلاد من الديكتاتورية هو ايقاف العمل بقوانين الاحوال الشخصية مبشرا باطلاق تعدد الزوجات.. واي احتكام للعدل والقانون هو كل ذلك النثر للاعطيات والمكارم على فئة المقاتلين تمييزا لهم عن باقي الشعب..واي قيمة بقيت للانتخابات التأسيسية والدستور اذا كان شكل الدولة ونظامها قد حدد من الآن ولم يبق الا دعوة"اهل الحل والعقد"لاختيار الخليفة ودعوة الناس لبيعته على السمع والطاعة..
ان على الشعب الليبي البطل وهو يتنسم نفحات الحرية ويتحسس طعم النصر الناجز لثورته العظيمة ان يكون واعيا جدا لمفصلية احترام حقوق الانسان والتمسك بالمبادىء الديمقراطية وقيم الحرية والعدالة والمساواة كضامن وحيد لمستقبل المجتمع ورفاهه..كما يجب ان لا تغيب عن ذهنه اهمية التنوع الثقافي والديني في بناء المجتمع المعافى المتصالح مع قيمه ومفاهيمه الانسانية..وان شكل الدولة ونظامها وهويتها يحدد فقط من خلال الشعب وعن طريق الآليات الديمقراطية المقننة دستوريا..
كما ان صوت الشعب يجب ان يصل الى السيد عبد الجليل ومن والاه بان الجماهير الغاضبة قاتلت من اجل التعددية..ولكنها تعددية الافكار والانتماءات السياسية والفلسفية وحرية التعبير عنها..وليس تعددية الزوجات وما ملكت الايمان..والمجلس الانتقالي يجب ان يعي الى خطورة القفز على الارادة الشعبية رغم الطرب والنشوة التي توفرها هتافات التهليل والحمد والتكبير..
التعليقات (0)