مواضيع اليوم

تعال نغنّ.. مرة ثانية

عمادالدين رائف

2009-09-07 11:03:41

0

رسمت بعض الأغنيات تاريخنا الحديث بشكل أكثر صدقاً من كتب التاريخ التي يتم تلقينها للتلامذة على مقاعدهم المدرسية، عبّرت تلك الأغنيات عن الوجه الاجتماعي للتاريخ بشكل أقرب للواقع، وأمسّ بالحياة اليومية، وباتت اليوم خير مرجع لتلمس حقبات مختلفة. فإن كان الشكل الرسمي للتاريخ محفوظاً في كتاب يمكن تناوله ورقياً أو الكترونياً، وقد خطت كلماته أياد حريصة على نظام تلك اللحظة، وعلى مشاعر هذا الزعيم أو ذاك، فإن الفن بأنواعه المتعددة، ومنها الشعر الغنائي، والقصة، والرواية والمسرح، قد تعدى الرسمي وانطلق إلى أفق أرحب للتعريف باللحظة واحتضانها مخرجاً أبهى ما فيها على علاته، ومصائبه.

بيتي اتاجكا (ذات الطوابق الخمسة) = الخرتشوفيةستينات القرن الماضي، فترة باتت شبه منسية في روسيا الحديثة، ومن كان شاباً في تلك الفترة غدا، في أحسن الظروف، مودعاً لدنيانا بعد خمسين عاماً.. وصفت تلك الفترة بأنها آخر الحقبات التي كان المجتمع السوفياتي فيها ينظر إلى الغد بشكل متفائل، يستشرف مستقبلاً زاهراً تعززه البرابوغاندا بشكل مضطرد.. لا هوادة فيه. لكنها فترة ازدهار اجتماعي- علاقاتي في المدن الكبرى كموسكو ولينينغراد (سانبيتربورغ - حالياً)، إذ إن نهضة عمرانية ضخمة شملت البلاد، سميت بالنهضة الخرتشوفية، نسبة إلى السكرتير الأول في الحزب آنذاك، نيكيتا خرتشوف، وحتى تلك الأبنية ذات الطبقات الخمس، المتشابهة حتى التماثل، المثورة قرب الطرق في كافة أرجاء روسيا، ما زالت تسمى حتى اليوم بـ "بيتي اتاجكا"، أو بالخرتشوفية.

كثيرون انتقلوا اليها، ملايين البشر، لتنشأ علاقات جديدة فيها قدر كاف من الحرية وحيز مكاني خاص لكل عائلة على حدة، بعد أن كانت عائلات العمال والموظفين تعيش في نوعين مختلفين من المساكن المشتركة الضخمة، "أوبشيجيتي" = السكن الجماعي؛ أو "كامونالكا" = الشقة المشتركة. بعد انتقالهم إلى تلك الشقق الجديدة، واستمتاعهم بغرفة كبيرة، ممر، وحدة صحية، مطبخ، وشرفة صغيرة؛ بات لدى كثيرين من سوفيات المدن هوية نفسية – اجتماعية جديدة، زادت من تفاؤلهم.

قدّر لي، أنا كذلك في بداية التسعينات، أن أعيش لفترة لا بأس بها في شقة خرتشوفية، تقع على الطابق الخامس – الأخير، في مبنى طويل يتضمن أربعة مداخل، وعلى كل طابق شقتان، ليضم المبنى أربعين وحدة سكنية. شقة صغيرة جميلة، تطل على شارع اللينينا على بداية الطرف الغربي لمدينة روستوف على الدون. وقد عشت مشاكل تلك الشقة بروح التسعينات لا الستينات، فما كان رائعاً فيما مضى من انعتاق من السكن الجماعي، صار حرية مقيدة، مكشوفة الحركات الصوتية، ولم تكن لدي تلك الروح المتفائلة الممتلئة ببهجة الحرية والتفاؤل الذي أحس به من عاش فيها قبل عقود.. جدران شقتي لا تحجب الصوت أبداً، يمكنك أن تستمع إلى مذياع جارك، ويسهر معك على صوت تلفازك، أما جارتي فلم تكن مهتمة سوى باسطوانة الكسيروفون السوداء الكبيرة، وبأغنية واحدة تعيدها على مسامعي من خلال الجدار مراراً وتكراراً، أغنية كانت رائجة في بداية التسعينات، "الضفة اليسرى للدون"، أغنية ما زالت تضج في ذاكرتي، جعلتني جارتي أكرهها رغم جمالية كلماتها، لكنني لن أتحدث عنها اليوم.

أغنيتنا تجسد تلك المرحلة البعيدة عنا.. هي بعنوان "جارنا"، ذلك الجار الذي يسمع كل شيء في الشقة المجاورة، ويسمع منه جيرانه كل ما يقوم به، كتب كلماتها ولحنها المبدع باتومكين، وغنتها فاتنة الستينات إديثا بياخا.


جارنا

كيف لا نستمتع؟
كيف نحزن من مآس مختلفة؟
وقد حلّ في مبنانا جار رائع،
ولم نعرف، نحن الجيران،
ولم نصدق آذاننا،
كيف يعزف على الكلارينت والترمبيت معاً.


----

منبه الجيران لا يهدأ..
أما أنا فلا حاجة لي به،
لأنني أثق بجارنا،
يوقظني باكراً في الصباح على عزفه.
فأتهيأ للنهوض إلى العمل..
أما هو، فلديه ما يهتم به.
لديه دروس عزف صباحية.

----

يمر يوم عملي، أعود في تمام الخامسة،
لأسمع ألحانه تصدح في الفناء،
هناك تتجمع حلقات المتقاعدين،
يستمعون ويتجادلون:
"أتراه يعزف على الكلارينت أم الترمبيت؟".

----

أولئك الذين لا يحبون الموسيقى،
يصابون بالجنون... لكن فلندعهم وشأنهم،
نحن في المقابل،
نحفظ أغانيه عن ظهر قلب..
وأنا، بدأت أعتاده، صدقوني، يا أصدقائي،
لم يعد بإمكاني أن أغفو..
بدون ألحانه.

كلمات وألحان: ب. باتومكين غناء: إديثا بياخا 1965

http://www.youtube.com/watch?v=Koegc-csvjI

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !