قال لي أبي : كنتُ وصديق عمري الأستاذ الفاضل القاضي بن عبد الجبار المدني رحمه الله تعالى في رحلة سفر سياحيّة قديمة جداً إلى بلاد الشام،حيثُ ذهبنا في وسائل المواصلات المتوفرة في ذلك الوقت وهي تلك السيارات الكبيرة جداً التي تُدعى الواحدة منها "لوري" والمُعدّة أساساً لتحملَ البضائع والأغراض ..
وكم كانتْ مُتعتنا ونحنُ نبدأ في هذه المجازفة والمخاطرة التي عبرْنا خلالها صحراءَ الشمال الغربي بدايةً من المدينة المنورة ومروراً بقرى قوم صالح حتى وصلنا إلى "حالة عمار" ودلَفنا بعدَ غناءِ سفر وأُثرٍ غير قليل من وعثائه وغباره وإجهاده ومشقّته إلى الأردن ومن ثمّ إلى عاصمة سورية "دمشق" ..
ونحنُ هناكَ خالَفنا ما تعاهدنا عليه من الاقتصاد في الصرف ومحاولة الادخار حتى يكفينا ما حملناهُ من نقود لا تتعدّى "المائة دولار" لقضاء فترة في أجواءَ باردة وعالمٍ آخر غير الذي ألِفْناه في "الحجاز" وصرَفْنا كلّ ما لدينا في يومين اثنين بينَ عشاءٍ فاخر ورحلات هنا وهناك ولم يتّبَقَ لدينا غير "خمسةِ دولارت" ..
في يومٍ استيقظنا ولم نجدْ لدينا غير هذا المبلغ الذي أضاقَ صدرَ صاحبي وضاقَتْ عليه الأرضُ بما رحُبَتْ وظنَّ أنّنا والحالة هكذا لا شكّ ميّتون أو واقعون في مشكلة لن تعيدَنا إلى أهلينا عاجلاً ونحنُ الذين خرجنا للنُّزهة والترويح عن النّفس لنجدَ أنفسنا كما ـ هي في مخيّلة صديقي ـ من أبناء السبيل ..
قرَّرْتُ قراراً بالأصالة عن نفسي ونيابةً عن رفيقي وهو أن نعودَ أدراجنا إلى المدينة المنورة ونُلغي تلك الخطط الهلاميّة والأحلام الوردية أن نبلُغَ "بيروت" بل ونتخطّاها إلى بلاد "العثمانيّين" ونصولَ ونجولَ لنرى كلّ ما كنّا نقرأُ عنه ونسمعه ممّن جاءَ إلى هذه البقاع ارائعة الجمال المليئة بالحضارة ..
ذهَبنا إلى المكان الذي يتجمّعُ فيها سائقوا "سيارات الشحن" الكبيرة لنختار واحدةً منها مناسبةً لما نحملُه من "نقودٍ" قليلة قد لا تكفي لمجرّد نصف المسافة،وفي طريقنا إلى ذلك المكان مَرَرْنا برجلٍ في مقتبل العمر وعليه علاماتُ الخلقُ ويمتلك لساناً رطباً بالترحيب والدعاية "للكاميرا" التي يحملُها ..
وحينَ لمَحَ في هيئتنا سُمرَةَ أهل "الحجاز" ونُحولَ الحائرين عرَضَ علينا أن يلتقِطَ لنا صورةً بثمنٍ زهيدٍ في نظره ولكنّه في وجخة نظر أخي الذي معي قاصمةُ الظهر وفاجعةُ العُمر نظراً لمصيبةٍ اسمُها الانقطاع نعيشُها نحنُ الاثنان،فابتسَمْتُ أنا والتفتُّ إلى صديقي الذي خارَتْ قواه بسببِ التفكير وقلتُ لهُ "تعالَ نأخذ صورةً للذكرى" ولم أُكملْ هذه العبارة حتى صبَّ عليّ جامَ غضبه وكلَّ انتقاده ..
قالَ يا سيّدي ألا ترى بأنّنا في وضعٍ لا يليقُ بنا أن نُفكّرَ في مثل هذه الأفعال التافهة وهذه المَمَارسات الزائدة عن الحاجة التي لا ينشغلُ بها إلا من كانَ خَليَّ البالِ مستريحَ "الجَيب" ليسَ كأحدنا ونحنُ نتضوَّرُ جوعا ونتلوّى قلقاً؟ ثمّ نهَرَني أنّني دوماً لا أترُكَ عادَةَ طلب الأشياءِ في غير وقتِها ..
قلتُ لهُ إنّ هذه اللحظات التي نمرُّ علينا لن تتكرّر ولو تكرّرت لن تكونَ بنفس المواصفات التي هي عليها الآن،خاصّةً وهي ظاهرةٌ باديةٌ على لباسنا الرّث ووجوهنا الشاحبة ونظراتنا الشاردة،ولو ترَكْناها بدون أن نلتقطَ صورة تذكّرنا بها لذهبت أدراجَ الرياح وقد لا نستفيدَ من خطأ وقعنا فيها بتبذيرٍ سبَقَ هذا المبلغ الذي تستكثرُه أنتَ على صورةٍ تجمعني بك هنا ..
وافقَ صديقي على مَضّض وأخذْنا الصورة وأنا مبتسمٌ وهو مجبورٌ ولم أنسَ طيلة حياتي هذا الموقف وتلك الصورة التي لا زلتُ أحتفظُ بها منذ خمسين سنة،أنظرُ إليها وأسترجعُ تفاصيل رحلة اكتسبنا منها فوائدَ لم نجدها في رحلات بالطائرة ولا بالسيارات المكيّفة بعد حضارةٍ عشناها وأَلِفْناها ..
فاعلم يا بني : أنّ في الحياة لحظات مؤلمة وقد تكونُ قاسية وحرجة ولكنّ تأثيرها وحدّتَها يهونُ إذا استَطعْتَ كَسْرَ تواصلها وقطعَ إيلامها بشيءٍ من الأمور الخارجة عن المألوف،وفي ذاتِ الوقت لا تعجلْ يا بُني أن تأخذَ من تلك اللحظات قسطاً من التدوين والتسجيل والتوثيق لتستطيعَ أن تسترجعَ الماضي فائدةً ونُضجاً ..
التعليقات (0)