روى مغترب من ثقات الرواة , بان في زيارة له لبلده بعد عقود من الغياب, شاءت الصدفة ان يلتقى بأحد العاملين في الاعلام, مدير (الكل هناك يعرّف على نفسه بانه مدير). قدم المدير المذكور المغترب, الذي اصبح غريبا في وطنه فاقد الصلاحية فيه , لاحد معارفه الواقف الى جانبه, قد يكون هو ايضا مدير, فأجاب هذا الاخير بحركة مسرحية لقد سمعت بهذا الاسم ولكن أين؟ أين؟ وبعد استعادة غير سريعة للذاكرة صاح بصوت فيه ادانة اكثر مما فيه تعجب: ولكن هذا السيد من المتعاطين بالفكر الديمقراطي والمروجين لحقوق الانسان في الوطن العربي!! ! الست كذلك؟ الست أنت هو؟ لقد سمعت عنك, لقد قرأت لك شيئا من هذا القبيل, ولكن اين؟ أين؟. لم تسعفه الذاكرة هذه المرة, لحسن الحظ أو لسوئه ,على التذكر أين قرأ او سمع. يبدو أن قراءاته كثيرة وملاحقاته للكتابة والكتاب اكثر, وسمعه مرسل في كل اتجاه وحتى خارج اطار المكان.
لم يعلق المدير, او مدعي الادارة, بشيء, وكانه لم يسمع صاحبه ولم يسمع الاتهام, وذهب لدعوة المغترب الغريب في وطنه فاقد الصلاحية فيه, لكتابة ما يريد دون قيد او شرط, في وسائل الاعلام المفتوحة للجميع!!! المهنية جدا و الحرة بما فيه الكفاية !!!. المقروءة بشغف من الفها الى يائها في الوطن وخارجه !!! فالكلام كلام مدير وكلام المدير مدير الكلام.
ترك المغترب, الغريب, المدير وصاحبه بعد شكره على العرض السخي الذي لا يقدم بسهولة ودون مقابل حتى في ارسخ الديمقراطيات, وهو يسمع صاحب المدير يوبخ هذا الاخير على مجاملة مجانية لمن لا يستحقها, لمن هو من المتعاطين بالفكر الديمقراطي والمهربين له للوطن الحبيب. ادرك المغترب عندها انه كان في حضرة رجل مهم وان كانت لا تتلبسه مظاهر الاهمية ولا تظهر عليه علاماتها. فمن يوبخ مديرا لا بد ان يكون مدير + أو مدير أول, أو مدير مدراء. أو قد يكون كاتب وراوي حكايات. تختلف كتاباته وحكاياته عن كل الكتابات في مجال الادب اسلوبا ومضمونا. كتابات مواضيعها شؤون الرعية وأحوالها, وخفاياها واسرارها , ما تفكر به حاضرا, وما قد تبيته للمستقبل, وايصال كل هذا للراعي للاطلاع واخذ العلم والتصرف بمقتضاه ثم اصدار ما يلزم بشأنها وتقدير انواع الرد ـ البطش ـ ودرجاته وانواعه . وقد يكون قصاص اثر برتبة رقيب من يدري. فلا أمن او أمان دون رقيب لبيب صاحب ثراء ونفوذ وسلطان.
حسب رواية المغترب الغريب في وطنه فاقد الصلاحية فيه, انه " صفن" طويلا, بعد هذا الحادث العارض. صفنة استغرقت الليل ومعظم ساعات النهار. والصفن يختلف عن التفكير. ومثل هذه المواقف تحتاج للصفن وليس للتفكير. كما ان التفكير اختصاص المفكرين, المعبأين سلطويا, الذين تقدمهم للجماهير المحطات الفضائية والارضية بالمئات وفي كل المناسبات ــ غالبيتهم ان لم يكن كلهم بدرجة دكتور, أو دكتور مفكر, أو دكتور +, أو دكتور اول, اليس في الجيوش عماد اول او مشير اول !! ــ, فيقدمون فكرا خالصا لا يستطيع الصفن انتاجه.
لقد سمع وشاهد في بلاد الاغتراب ان اشد التهم ايذاء للإنسان وحطا من قيمته وكرامته هي تهمته بانه غير ديمقراطي, أو بانه معاد لحقوق الانسان, فلماذا الامور هنا معكوسة الى هذا الحد؟. لو كان في بلد اقامته في المهجر لشرفته تهمة صاحب المدير, ولكنها هنا في بلد المدير تهمة تحط به الى درجة ديمقراطي, او علماني, او ملحد, او مروج لفكر الغرب, او مخرب للوحدة الوطنية, والنظام العام, او موهن لنفسية الامة. وعلى هذا يترتب ما يترتب.
كان عليه, كما روى, ان يصفن صفنة اخرى تكون هذه المرة اطول مدة واعمق غوصا في بواطن الامور, عله يعرف لماذا الانسان المظلوم في اوطاننا والمستعبد من حكامها وحاشياتهم يكره الديمقراطية ويرتعب من ذكر حقوق الانسان, التي تعيد له الكرامة لمجرد كونه انسان؟.
وضع لذلك احتمالات, كان يشطب العديد منها لمعارضتها لمنطق الاشياء, ومع ذلك لم يصل لأجوبة مقنعة. ادرك بعد جهد, حسب روايته, خطأ منهجيته, فالسير هنا مع المنطق, والتحليل بموجبه, سوف لا يوصله لشيء . فقرر الانطلاق في التحليل من خلف المنطق والدوران حوله بعيدا عن قواعده واصوله. وبمنهجية لا علاقة لها بزمننا الحالي ومفاهيمه, عله يدرك بعض ما استعصى عليه فهمه. ومن هنا اهمية الصفن وضرورته.
كان عليه اعادة الاصغاء جيدا لما يسمع, ولكن بحذر شديد, ويحتك اكثر بالأخرين, في محيطهم, ويحلل التفكير الجمعي الناتج عن تكدس التجارب, وعن الثقافة التي سادت, اكراها, وعرفت طرقها للعقول والنفوس وترسخت بها بفعل الزمن وعواديه, كثقافة احادية جامعة مانعة , هجومية لا تسمح لغيرها الاقتراب منها, فما بالكم بالاحتكاك والانفتاح الذي فيه التآمر والهدم وزعزعة الامن والاستقرار والعودة بالاستعمار!!!.
حدد لنفسه محاولة معرفة الجواب على سؤال واحد فقط, فإقامته في الوطن محددة ومشروطة وقد تكون راحته خلالها غير مضمونة ان وسّع اهدافه او شعّبها, وهو: لماذا هذا الخوف من الديمقراطية والعداء لحقوق الانسان في هذه الاوطان؟.
ومع ادراكه بان هذا يحتاج لجهود كبيرة ومقالات عديدة قرر ان يقول شيئا عله يكون فيه بعض الفائدة , وعلّ محاولته تجد اخرين يبنون عليها بطريق التفكير السليم ووسائله وليس بمجرد الصفن وحده.
هل الامر اذا متعلق بالجغرافية و المكان ؟.
اي ان منطقتنا العربية مع تنوع تربتها ومناخها من محيطها الى خليجها لا توجد فيها بقعة صالحة لإنتاج او احتضان ديمقراطيات وحقوق, وبشكل خاص حقوق انسان, وان الانسان ابن بيئته يتأقلم فيها ويتأثر تكوينه بعواملها و بمناخها وظروفها القاسية, وبالتالي فان مثل هذا المكان لا تنتج الا قساة ليس للديمقراطية على عقولهم وقلوبهم من سلطان.
ولكنه استبعد فورا هذا الاحتمال لان الديمقراطية عاشت وتعيش في مناطق جغرافية متعددة. مناخاتها مختلفة. وشعوبها واعراقها متباينة, ودياناتها متناحرة, والعادات فيها والتقاليد متنوعة تنوعا كبيرا يصل الى التعارض. ــ اضافة الى ان الانسان عدّل كل المناخات وروض الطبيعة لتتلاءم مع حياة رغيدة له وكان هذا ديدنه منذ ظهور الانسان الاول وما زال ــ ومع ذلك سادت في غالبيتها الديمقراطية وعاشتها شعوبها(هل نذكر الهند مثلا). الم تتحول اماكن اخرى في عين المكان من دكتاتوريات وديمقراطيات شعبية الى ديمقراطيات ليبرالية, اي ان تربتها يمكنها انبات ما يزرع فيها وقبول ما يقام عليها. كما ان مناطق قريبة او بعيدة عن منطقتنا, مناخاتها مشابهة او مخالفة, لم تشهد بعد الديمقراطية, ولكنها لم تعاد الفكر الديمقراطي ولم تكفره, او تطارد المعجبين به مجرد اعجاب, على الاقل حياء من العصر ومن تطوره , واحتراما للإنسان المعاصر وكرامته.
مضيفا, في استبعاده للعامل الجغرافي ـ المكان ـ التساؤل: كيف مثلا في مكان ديمقراطي عريق يقر بفائدة ديمقراطيته كل ساكنيه, ولا يستبدلونها بكنوز سليمان, بقيت فيه اقليات من اصول مهاجرة من منطقتنا ــ ولدت واستقرت منذ اجيال وتفيأت بظلاله ــ تجاهر قولا وفعلا بالعداء للديمقراطيات المستفيدة منها ومن حقوق الانسان. لماذا لم يغيرها المكان؟ ومع انه يعتقد بان الكثير الكثير من افراد هذه الاقليات يعيشون جسديا فقط في المكان الديمقراطي, و نفسيا وثقافيا في المكان الذي هجروه, لأسبابهم المختلفة, جاءوا بثقافة من المكان الاخر المعادي لقيم الديمقراطية محمولة مع المهاجرين في الحقائب والنفوس والعقول, تحط معهم اينما حطوا الرحال, وتبقى محافظة على الشكل والجوهر الذي خرجت فيه مع حامليها, تورث, بحالتها, دون كبير تعديل, للأولاد والاحفاد. علما بان الديمقراطية نفسها لا تطالبهم بالتنكر لأصولهم وثقافاتهم, وترى في التنوع غنى, وانما تطالبهم فقط بفهمها وعدم العداء غير المؤسس لها احتراما للأكثرية, وهذه قاعدة من اسس الديمقراطية.
هل المكان وثقافته تنتقل مع الانسان الى كل مكان؟ لابد لمعرفة هذه الظاهرة من تحليل عميق ومتعدد التخصصات قد يعود لاحقا الى التطرق اليه كما وعد, ولكن دون تأكيد ذلك بيمين.
فرضية الجغرافية والمكان هذه , وان بدت له صحتها في العلوم الزراعية الى درجة كبيرة, فهي لا تصح كاملة في العلوم الانسانية بفروعها المتنوعة. وعليه اهملها المغترب اثناء الزيارة ليصفن فيها بعد عودته الى المهجر ,الوطن, الذي لا تنتهي صلاحيته فيه طالما بقي حيا يرزق.
اذا هل الامر متعلق بالتاريخ؟
تجهل منطقتنا العربية طيلة تاريخها والى يومنا هذا شيئا اسمه ديمقراطية او ما يقاربها. لم يراكم التاريخ فيها فكرا ديمقراطيا, او حتى تجارب فيها تقاليد وعادات ديمقراطية. لم تصدر فيها افكار وكتابات تقترب في وصفها و ومحتوياتها من الديمقراطية, ولو لم تستعمل نفس المصطلح المعروف منذ 25 قرنا, رغم فخر العرب بنقل الكثير من الفكر اليوناني للغرب بفضل ترجماتهم.
لم يعرف خلال مسيرته الطويلة الحريات الفردية ويخصص لها مكانة محترمة في الوعي الفردي والجمعي. فبقي الفرد مجرد جزء مدمج في المجموع ان خالفه ارتكب جريمة الخروج عن فكر وعادات واخلاق القطيع.
هل انا الا من غزية ان غوت غويت وان ترشد غزية أرشد ( دريد ابن الصمة)
القطيع الذي تبلور لا حقا بمجتمعات تؤطره الدولة. الفرد ضمن القطيع تحكمه عقلية القطيع, وعقلية القطيع ليست مجموع عقليات افرادها. وانما لها طبيعة وخصائص مختلفة اخرى ينتجها الكيان الجمعي, يلتزم بها ويلزم كل مكوناته بأحكامها.
الحرية الفردية هي فقط لقائد القطيع المنفصل عنه وغير المرتبط به باي عقد, اجتماعي, أو غيره. يفكر عنه ويقرر عنه وله, ويرشده بتعاليمه في امور دينه ودنياه. قائد القطيع هذا اصبح حسب المصطلحات الحديثة , حاكم المجتمع والدولة بمكوناتها. وانتقلت قدسيته, غالبا, من دينية لتصبح دنيوية. حرية مطلقة لحاكم مطلق, لا تقيدها قيود و لا ترضى حتى بفكرة ان تجاورها حرية اخرى ــ فما بالكم بان تطاولها ـ حريات حاشيته والمقربين, فكيف بالبعيدين والمبعدين؟. المؤسسات ان وجدت, تقام للنزول, قبل كل شيء, على متطلبات واحتياجات إدارة الدولة ولتسهيل رضوخها لإرادة حاكم هذه الدولة, لا لتحددها أو تراقبها. مؤسسات منفذة غير مبادرة مهما كانت تسميتها تركيبها. استمراريتها يتوقف على مدى نفعيتها للحاكم الدائم, او على الاقل المعتقد بالدوام والخلود.
لم يتغير شيء عبر تاريخ هذه المنطقة الا اعادة التسميات لمواكبة العصر في تطور الانظمة السياسية والقانونية وهيكلة الدول, فأقيمت دول فيها, بغض النظر عن احجامها وتوافر العناصر التي يفرضها القانون الدولي لنشوء الدول. انشئت انظمة امارتية , وسلطنات, و مشيخات, و ملكيات, و جمهوريات, و جماهريات, والمحتوى واحد: راع ورعية. وعداء وتكفير للديمقراطية.
وربما كاد المغترب ان يقول: طالما بقي الفرد غير معترف به كفرد, وانما كمجرد جزء مندمج في المجموع لا يمكن فصله عنه, ولا يمكنه التفكير خارج تفكيره, وطالما بقيت مجموعة الجزئيات هذه المكونة للمجتمعات تدار وتحكم ككل, وتساق بعصا فرد واحد, طاعته واجبة بكل المعايير, واردته نافذة بقوة الحكم وادوات القمع, وطالما بقيت فكرة طاعة اولياء الامور ( ولو على عماها) مسيطرة في الاذهان , ستبقى الديمقراطية ملاحقة ومُجرّمة كملاحقة المتعاطين بالممنوعات ومجرمي القانون العام. ويبقى الداعون لها عرضة لمطاردات لا تنهي من مدراء ومدراء المدراء ورجال الامن , امن الوطن من اعتداءات محتملة قد ترتكبها الديمقراطية أو الداعون لها.
وعليه طرح صاحبنا, كما روى بنفسه, السؤال على نفسه بعد صحوته من صفنته:
هل في مثل هذه الظروف من المحتمل ان يحبل المكان, الارض العربية, ويلد مولودا اسمه ديمقراطية؟. وان حصل هل سيكون فعلا من صُلب التاريخ المذكور؟ وفي افتراض حالة العقم, ورفض التاريخ رفضا قاطعا لذرية من هذا النوع, هل يمكن اللجوء لتبني ديمقراطية من صلب الغير؟, علما بان التبني محرم شرعا وقانونا وعرفا؟. ومع ذلك يبقى امل واحد وهو فتح باب الكفالة واسعا, وهذه غير محرمة, وتبيح تسهيل حياة و شؤون المكفول.
لم يجزم الصافن, بصحة كل ما نتج عن صفنه من تحليل, وهو بحكم اقامته في بلدان ترى الشك طريقا للمعرفة, تشك وتبقى تشك الى ان تقطع الشك باليقين بوسائل البحث العلمي والتجارب المختبرية, وليس المخابراتية. ترك الامر كما روى, لصفنة قادمة, تعقب زيارة قادمة للوطن الأم, قد يخرج منها ــ ان خرج سالما ــ من الصفن الى مرحلة التفكير والتجريب, ثم الاستنتاج والتأكيد. خاصة وانه يعلم علم اليقين بان انساننا العربي, كغيره, مجبولة فيه وكامنة كل مكونات الانسانية, وكل امالها و طموحاتها. ومنطقتنا, شاءت ام أبت, جزء من كوكب كل ما عليه متغير. وان الزمن كفيل بكل تحول وتغيير. ويبقى من طبيعة الانسان, الديمقراطي بشكل خاص, التفاؤل. الى حين يباح التعاطي بالفكر الديمقراطي ويفرض انسانيته الانسان.
د.هايل نصر
التعليقات (0)