ما أسهل الحديث عن الأشباح وتوجيه الاتهام للمجهول الغائب واطلاق تصريحات هلامية عن أهمية مقاومة هذا الذي لا نعرفه.
ماذا لو قام كل واحد منا برحلة قصيرة أو طويلة في أعماق النفس باحثا عن قطعة مختبئة من الإرهاب ولو كانت متخفية في صورة أخرى مثل الصمت تجاه الظلم.. التواطؤ مع طاغية .. الابتهاج لكارثة في مكان نختلف ونتخاصم مع قاطنيه .. التعاطف مع قوىَ مناهضة للسلام .. عدم الاكتراث لسيارة مفخخة .. تأييد ضمني لفتوىَ ملوثة بالدماء .. تفسير متطرف لنـَـصٍ ديني .. إلغاء حقوق آخرين .. إقصاء فكر مختلف .. كراهية بدون سبب .. الخ ؟
أغلب الظن أن قليلين فقط هم الذي سيعودون من الرحلة خاليي الوفاض ، فالحقيقة المؤلمة والمؤسفة أن كلمة ( الإرهاب ) يراها كل شخص من منظور صنعته ظروفه الخاصة، ورؤيته للعالم وقضاياه وهمومه، بل يحدث في كثير من الحالات أن يصبح نقيضُ الإرهاب إرهاباً، فالمشهد في الذهن لا يراه العقل من خلال الواقع، ولكن تصنعه علاقة الشخص بالعالم الخارجي ومصالحه المادية والمعنوية والوطنية وقدرته على توظيف الايديولوجية لحساب العمل الارهابي ذاته.
لذا يمكن رفع المصاحف فوق السيوف في أي وقت تتوفر فيه الرغبة في ليّ عنق النــَــصّ الديني لصالح فئة ما .
ألم يقل وليم شكسبير في تاجر البندقية : والشيطان يستطيع أن يستشهد بآيات من الكتاب المقدس؟
لو أنني الآن أملك القدرة على استدعاء المعنى الفوري الذي يتبادر إلى ذهن كل شخص من قرائي الكرام فستتجمع لدي حصيلة هائلة من المفردات سيكون من بينها: تفجير سيارات في مدنيين في العراق .. مذبحة قانا .. صبرا وشاتيلا .. معتقل جوانتانامو .. سجن أبو غريب في عهد صدام حسين .. سجن أبو غريب في عهد الاحتلال الأمريكي والوطني.. قتل الرئيس رفيق الحريري .. فنادق العاصمة الأردنية .. بيشاور والمدارس الدينية في باكستان .. الجيش الجمهوري الإيرلندي .. منظمة إيتا .. تحيّز قرارات المنظمات الدولية لصالح العدوان .. كراهية الغرب للاسلام .. حقوق الأقليات في العالم الاسلامي .. الحصار الأمريكي على العراق لأحد عشر عاما قبل غزوه .. حزب البعث العربي الاشتراكي .. تفجيرات مدريد .. المقاومة الوطنية في الدول التي تحتلها قوى أجنبية .. الحادي عشر من سبتمبر .. أسامة بن لادن .. الزرقاوي .. تفجيرات مجمع سكني في الرياض .. كتب مدرسية .. قتل مستوطنين إسرائيليين .. تدمير قرى فلسطينية بمجنزرات إسرائيلية .. الاستخبارات السورية في لبنان .. لجنة ميليس .. تاريخ الحركة الصهيونية .. دعم السي آي إي لحركات الانفصال والتمرد والارهاب في بقع كثيرة من العالم .. الاسلام .. الحروب الصليبية .. الهولوكوست .. العنصرية .. الفقر والظلم والمرض والمجاعات ..
قائمة لا تنتهي من المفردات التي تصف كل واحدة في ذهن المتلقي المشهد الإرهابي فكيف لنا أن نتحاور ونتلاقى ونتوحد ونوصي صناع القرار والتربويين بكل التناقضات للقضاء على الأشباح؟
عندما يختار المعجميون أو حتى صانعو الكلمات الجديدة في اللغة مرادفا لغويا لكلمة مترجمة لا يلتفتون للجوانب السياسية والثقافية التي قد تصنع لاحقا تصادما ما بين المعنى المراد من المرادف وما بين الواقع العملي الذي يتصادم معه.
المرة الأولى التي سمعت فيها كلمة ( الإرهاب ) بنفس المعنى المتداول الآن وهو الاعتداء المسلح على آمنين أو عمليات الاغتيال والقتل كانت في الواقع في سيناريو فيلم فرنسي يحمل عنوان (أيها الجاسوس استيقـِـظ) بطولة لينو فانتورا عام 1972 وكان يصف عمليات الاغتيال في سويسرا وألمانيا من جبهة وطنية سويسرية.
يستطيع السياسي أن يوظـِّـف كلمة الارهاب لصالح قضاياه الخاصة والمغرقة في المحلية، ويفعل مثله الوطني، ويتمكن الاسلامي بسهولة من اعتبار الكلمة مديحا يحمل له الفخر، ويستشهد بآية كريمة ( ترهبون به عدو الله وعدوكم ).
صناعة الإرهابي.
ليس من السهل توجيه السبّابة إلى مكان معين وفترة زمنية محددة للاشارة للبداية الحقيقية في صناعة الإرهابي.
قد تكون عملية معقدة يساهم فيها البيت والمدرسة والمجتمع والاعلام والجامعة ودار العبادة فيخرج المنتـّـج متقنا كالروموت كونترول ولا يحتاج لأكثر من لمسة واحدة فينفجر كما تنفجر السيارة المفخخة في سوق شعبي أو الطائرة في أحد البرجين التوأمين بنيويورك، أو الصاروخ الموجه آليا من مركز القيادة في القدس المحتلة فيحيل العربة الهدف في غزة إلى حزمة من الحديد المنصهر.
وقد تكون صناعة الارهابي عملية في غاية السهولة كأن تنتفض مشاعر الكراهية والمقت عندما يشاهد شاب غض غرير صورة المعتقلين في سجن جوانتانامو وهم يرتدون الملابس البرتقالية ويسير كل منهم في قيود حديدية تذكرنا بكونتاكنتي في رواية (جذور) ، ويحيط به رهط من الحرس المفتول العضلات، وهو محروم من أبسط حقوق الحشرات والحيوانات، فلا محاكمة ولا زيارة ولا عدالة أرضية في العالم الجديد ولا دعوة عاجلة من جامعة الدول العربية أو منظمة المؤتمر الاسلامي.
لذا عندما نبدأ في السعي لمعرفة بداية صناعة الارهابي ينبغي أن نأخذ في الاعتبار أن الحل الذي سنطرحه لاحقا لتجفيف بعض أو معظم منابع الارهاب سيرتكز على كل الاحتمالات، فتلك ليست فقط مهمة التربويين أو أولياء الأمور في البيت أو الهيمنة الاعلامية على العقل أو دور العبادة فكلنا منخرطون بطريقة أو بأخرى، عن وعي أو بدون قصد، في تلك الصناعة التي يشترك فيها صانعوها أيا كانت مواقعهم.
فتجّار الأسلحة في أمريكا، وصراع الميليشيات في أفغانستان، ومنتهكو حرمات المعتقلين في طول العالم وعرضه، وضيوف الفضائيات من الحمقى بائعي الضمائر، وعالم الفتاوى الذي خنق المسلمين وضيق عليهم مسراتهم وحبب إليهم كراهية الحياة، ونصف قرن من الدعم الغربي لاسرائيل، والعنصرية البغيضة التي تبحث عن عدو ليستمر نمط الحياة في الغرب الأوروبي والأمريكي فلم تجد غير الاسلام والمسلمين بديلا عن الستار الحديدي الشيوعي، فعثرت على الخطر الأخضر بعدما زال الأحمر لتحيل حياته إلى الأسود ...
كل هؤلاء يشتركون في صناعة الارهابي
لكن البذرة الأولى تبدأ في البيت حيث تحدد في كثير من الأحيان الحياة الأسرية ملامح مشهد مستقبلي قد تتأخر لظروف غير إرادية لكنها تظل تتفاعل داخل النفس، فتخرج للعلن مرات وتخفي وجهها مرات أخرى.
في داخل الأسرة الواحدة حيث تتشكل النواة الأولى للإرهابي يتوقف الأمر عند مستوى أدوات الصناعة في حد ذاتها، فهناك الأمية والجهل والخلافات الزوجية الحادة والتربية الدينية الصارمة والفشل التعليمي والهوة الواسعة بين الابن وباقي أفراد أسرته ولعب الأب دور الديكتاتور أو المستبد العائلي وانعدام التناغم بين أفراد الأسرة.
قد تجتمع معظم هذه الأدوات أو بعضها لتهيء للمجتمع إرهابيا قادما يحمل أهم المقومات وهي الكراهية.
إنه شخص يعلم مسبقا أن خط العودة للبيت مقطوع تماما، وأن هذه الأسرة التي صنعته لم تتمكن من شحنه بطاقة الاستمرار في حب الحياة والفن والطبيعة والتسامح والنجاح والعقل والمنطق.
إذا أردت التأكد من أنك قد أفلـّـت تماما من السقوط في هذا العالم الكريه فما عليك إلا أن تطل على ماضيك وطفولتك وبدايات شبابك في البيت محاولا البحث عن التصدع في البناء الأسري، فإذا لم تعثر عليه فابحث عن مساحة الحب التي منحتك إياها الحياة الأسرية وهل تظن حقا أن طفولتك كانت مشهدا من الزمن الجميل .
تلك هي الحصانة الأولى والأهم التي تحمي الشاب من أن يصبح في المستقبل قنبلة موقوتة تنتظر من يختار لها الموعد والمكان المناسبين.
البيئة ...
تتلقف البيئة المنتج نصف الارهابي الذي صدرته لها الحياة الأسرية، وهنا ينبغي معرفة أن قدرة البيئة على التقاط هذا الشاب بارعة وغالبا لا تخطيء.
إنها تعلم أن شابا فقيرا في مخيم ببشاور يسقط في يديها بأسرع مما يفعل منتج آخر لأسرة صنعته لكن البيئة التي تلقفته مثلا في مسقط أو صلالة أو ريكيافيك أو كيبك أو سيدني أو أدنبره هذبته وأخمدت نيران الكراهية وقدمت له صورة مغايرة تماماً لما ألفه في البيت.
والبيئة قد تكون محيطا هادئا، أو حرب شوارع أهلية، أو شواهد ظلم في أحياء عشش الصفيح المكتظة بعروضات الفقر والجريمة والمخدرات وكل ما له علاقة بالعالم السفلي.
بل قد تكون البيئة في أقصى درجات الالتزام الديني والأخلاقي لكنه يصنع كفنا بدلا من إبداع، ويقتل المواهب، ويقوم بتلوين الحياة بلون أسود قاتم، ويحتقرها ويزدريها من منطلق فهم سقيم بأن الآخرة خير وأبقى.
كان القادمون إلى النرويج من طالبي اللجوء السياسي يأتون في فترات معينة كموج البحر المتلاطم، فجاء لبنانيون بعد عدة سنوات من الحرب الأهلية وتعرض كثيرون منهم لأمراض نفسية وعصبية.
ثم قدم إلى النرويج فلسطينيون بُعيد الخروج من لبنان، والغزو الاسرائيلي في يونيو 1982 وهؤلاء كان من الممكن مشاهدة آثار البيئة الظالمة التي صنعتهم ، وأكثرهم كانوا عُرضة لأن يكونوا قنابل موقوتة في مجتمعاتهم.
ومع بدايات نهاية الحرب العراقية / الايرانية توافد لاجئون فقدوا كل رغبة في الحياة العادلة، واصطدم كثيرون منهم مع أهل البلد في النرويج خاصة وأنهم جاءوا حاملين عنفا، وخائفين من عيون النظام، فترك العنفُ السياسة والهموم الوطنية وانغمس في حوادث أخرى من مخدرات واغتصاب وغيرها.
وكان على القادم أن ينتظر عدة سنوات حتى يعتاد على حقوق من نوع آخر، ولا ينتظر زائر الفجر، ويشعر بآدميته.
أحد الشباب الذين قاموا بعمل انتحاري ضد مدنيين إسرائيليين اعترف بأن كل أفراد أسرته سقطوا شهداء في مخيم (جنين) من جراء القصف الوحشي الاسرائيلي!
هنا تتصادم التعريفات لهذا العمل فهي إرهاب وعمل فدائي واستشهاد وانتحار ويأس وقتل أبرياء وانتقام طبيعي من قتل أبرياء، لكن المتهم هي البيئة التي صنعته.
الأصدقاء ..
إنهم جزء من البيئة لكنهم يلعبون دورا خطيرا في ربط مصائرهم بفكر جماعي يكون نواة لإرهاب لاحق.
أذكر أنه منذ أربعين عاما كنا مجموعة من الأصدقاء المهتمين بعالم الثقافة والفن والفكر والقومية، ولكننا وضعنا أقدامنا في غير موضعها، وتعاطفنا مع أكبر جماعة سياسية دينية رغم أننا كنا خارجين لتونا من مرحلة الطفولة.
أهداني صديق كتاب (معالم على الطريق) في عيدي ميلادي الثامن عشر، ثم اشتريت بعده بفترة (جاهلية القرن العشرين)، وكم شعرت آنئذ بأن العالم كله تحت قدمي، وأن رسالة ربّانية تنتظرنا لنخرج الناس من الظلمات إلى النور.
ومررنا في احدى المرات( 1965) أمام محل ضخم لبيع المشروبات الروحية في مدينة الاسكندرية، فقال أحدنا بأن الشهادة الحقيقية لمن فجّر نفسه في هذا المحل، فرد الآخرون بالايجاب وباستحسان الفكرة.
لم تستمر هذه الفترة لعامين فقد كنا نقرأ في الفلسفة وعلم النفس والجمال، ونشترك في نادي السينما، ونتسابق لقراءة الفكر العالمي من كولن ولسون إلى هربرت ماكيوز ، وكنت أحفظ عن ظهر قلب رسائل الأحزان وأوراق الورد لمصطفى صادق الرافعي.
وخرجنا جميعا بسرعة فائقة من دائرة كانت ستكون لها عواقب وخيمة.
قل لي مَنْ تصاحب لأعرف مساحة الإرهاب في صدرك.
المدرسة...
إنها ذلك المكان المغلق الذي يتلقف الطفل من بيته ومن أولياء أمره ومن الأصدقاء والشارع ليــُـعـدّه شخصا ملائما للمجتمع، ملتزما بسياسة التعليم المنهجية التي تحقق هدف السلطة.
فقد تكون المدرسة في مجتمع مغلق، مكبوت، يكره الحوارات، ويخاصم المنطق والعقل، ويرى الاجتهاد صورة من صور الإباحية الفكرية التي تصنع المتمرد وليس المطيع.
مُدَرّسة تتعامل مع تلاميذها كأنهم قطيع ينبغي أن يراقب في الصفوف الدراسية عصا المعلم وهو يهش بها عليهم، وعلمه الخارج من ثوابت وملزمات لا يحق للتلميذ أن يقترب منها استفهاما أو نقدا أو تعجبا أو حتى ايضاحا أكثر.
مسافة كبيرة تفصل بين التلميذ والمعلم تبدو للأول كأنها سنوات ضوئية وللثاني كأنها بيان من التنزيل أو قبس من نور الذكر الحكيم يجب أن تتلقفه ذاكرة التلميذ ولو تعارض مع العقل والمسلـّـمات والمنطق.
عندما تفتقد المدرسة نهج التعليم وتستبدل به التلقين، ويختفي دور المعلم كمرشد ومثال حي على علاقة دافئة بين التلميذ وأستاذه يتعلم الأول منه كيفية استخدام العقل للوصول لقيم التسامح وقبول الآخر وافتراض خطأ المسلمات ورفع القداسة عن الثوابت ما لم تكن نصا موحى إلى نبي به فهو جزء من الإيمان، تــُــعــَـبـِّـد المدرسة عندئذ طريق التطرف الذي يتحول لاحقا لأرض خصبة للإرهاب العملي أو الارهاب النائم .. أعني ذلك النوع من الإرهاب الذي ينتظر فرصته ليقذف في المجتمع رفضه كل ما تعلمه من ثوابت في البيت والبيئة والمدرسة ودور العبادة.
المدرسة تستقبل الطفل في أخصب سنوات عمره، وتشكله جبانا خائفا من رجل الأمن والمدرس والناظر والسلطة، وتـُـعلــّـمه أن مهمته تقتصر على الانصات الجيد، وحفظ مقررات تم اختيارها مسبقا لتناسب توجهات المجتمع وتوجيهات السلطة.
وقد تستقبله مدرسة أخرى في مجتمع متقدم فتحثه على فتح آفاق جديدة للفكر، وتتكون حلقات نقاش، ولا ترهبه صرامة المعلم، ويصبح للتفكير الحر موقع مميز في الدراسة، ويتعلم التلميذ طرق البحث الحر عن مواد إضافية ومراجع أوسع وأشمل، ويدخل التعليم دائرة الثقافة، فيجتهد التلميذ ولا يقابل اجتهاده بلوم أو عتاب أو صدود من المدرس.
التلميذ في المدارس التي تمدّ المجتمع لاحقا بحاملي فيروسات الإرهاب ينظر إلى مُعلمه على أنه إمتداد طبيعي لكل السلطات المحيطة به، فهو ولي الأمر، وهو ممثل الدولة في المدرسة، وهو الذي يستطيع أن يتحكم في الدرجات النهائية عدلا أو ظلما، وأن طاعته ليست فقط واجبة لكنها الطريق الآمن للحصول على الشهادة.
ولكن ماذا لو اختلط الأمر على المعلم نفسه فلم يميّز بين التربية والتعليم وبين صناعة قنابل موقوتة في عقول وصدور من تم وضعهم بين يديه عدة أعوام لاعدادهم شبابا مستنيرين يطرقون أبواب الجامعات؟
هنا تصبح المعضلة أشد وأعمق واصعب حلا لأن إعداد المعلم تربويا وفكريا وثقافيا ومعلوماتيا يــُــدخلنا في المنطقة الأكثر غموضا وهي عن المسؤولية التي اضطلعت بها الدولة، في أي مكان، في عقدين أو ثلاثة عقود قبل أن تدفع للمدارس بالمدرسين والمعلمين والمناهج الدراسية.
إن الظروف التي يمر بها المعلم في المدارس التي تنتقل فيها بسهولة فيروسات الإرهاب غالبا ما تكون جزءا من منظومة فكر دولة وليس من السهل أن نــُـلقن مُعلما طرق تعليم التسامح والنقاش الحر وقبول الآخر وصناعة شباب المستقبل وهو أمام ستين تلميذا في فصل واحد، وتضغط عليه الظروف الاقتصادية، وتوجيهات المؤسسة الدينية، ومقررات دراسية جامدة تقتل الابداع.
كما أن المعلم التربوي يستطيع أن يساهم في انقاذ المجتمع لاحقا، وغربلة الفكر المتطرف قبل أخذ الشاب مكانه في مدرجات الجامعة، وأن يقوم بعمل ملتزما بسياسة التعليم المنهجية التي تحقق هدف السلطة.
الجامعة ...
إنها المركز الرئيس لفكر الطاعة أو التمرد، وهي السنوات القليلة التي تتولى مهمة الدفع بالشباب إلى الحياة العملية بكل قسوتها وغلظتها وتجاربها المريرة.
وهي أيضا المرحلة الرابعة بعد البيت والبيئة والمدرسة التي تشكل المشهد شبه النهائي والأكثر وضوحا لشباب المستقبل.
في الجامعة يقدم الطالب مع أوراق قبوله آماله وأحلامه وقدراته، ولأننا في عالمنا العربي، مثلا، لا نملك خبرة في الأجهزة الاستشارية من أساتذة ومشرفين لتوجيه النصح واعتماد صحة الخيار الطلابي، فإن الضغوطات الأسرية هي التي تــُـلمع المستقبل في عيون أبنائها ولو كان متناقضا مع الرغبات الدفينة التي لا يستطيع استخراجها إلا المتخصصون فقط.
في الجامعة يصطدم الطالب بعالم مختلف تماما ويحاول الكثيرون استقطابه في الفكر الجماعي المنظم أو البوهيمي على حد سواء.
في الجامعة إما أن تتبدد الحيرة ويعرف الطالب طريقه وتتكون علاقة صحية ودافئة بينه وبين الحرم الجامعي وأساتذته أو بعضهم والمقررات الدراسية، يساندها نضوج الشاب وتناغم أسري وعائلي وأصدقاء يسيرون في نفس الاتجاه وبيئة خصبة لهذا التطور ...
أو تبدأ المرحلة النهائية في صناعة الشاب المفخخ، أو القنبلة الموقوتة.
في الجامعة تستطيع أن تستشرف مستقبل الوطن لعقدين قادمين أو ثلاثة عقود في الجامعة، بل يمكنك أن ترى إن أردت غيبا كأنه حاضر، فتشاهد هؤلاء الطلاب .. صانعي القرار المستقبلي في السياسة والاقتصاد والاعلام والتعليم والادارة والزراعة والسياحة، ولا تحتاج لاختراق حجب السماء لتعرف عدد العاطلين عن العمل وحجم البطالة المقنعة ونسبة التطرف والصراع بين فئات المجتمع أو خلق فئات متصارعة من بيئة محبطة.
في الجامعة إما أن تشرق صورة مستقبل الوطن أو يتصدع بنيانه، وتلك مهمة إدارة التعليم العالي التي ينبغي أن تكون مستقلة تماما، وتملك حصانة لا تقل عن الحصانة البرلمانية، وليس لمؤسسات الدولة الأخرى، خاصة المؤسسة الدينية، سلطة عليها إلا بحُكم قانوني.
الإعلام ...
إنه الجهاز الضخم الذي ينزع الفتيل من القنابل الموقوتة أو يعيد توزيعها على المجتمع وفقا لقدرة كل جهة على تفجيرها.
يستطيع الاعلام أن يدخل البيت، ويتسلل لغرفة النوم، ويعيد صياغة المواطن فكرا وثقافة ومعلومات، ويزيف الصورة الحقيقية ويزور أوراق الوطن أو يفعل العكس فيكون عونا للتطور والتقدم والتسامح وحل قضايا المجتمع.
صحافة يومية تستأذن القصر في عالمنا العربي قبل أن تبث خبرها، وترتعش يدا أي محرر فيها إن قيل له بأن هاتفا من مقر الأمن أو قسم الشرطة يطلب استدعاءك لدقيقتين فقط لا ثالثة لهما..
صحافة يومية وأسبوعية تستضيف صُنــّـاع الإرهاب علىَ مرأىَ ومسمع منا جميعا، وتفتح صفحتين يعبث فيهما أباطرة الفتوى، ومحللو الدماء، ومكفـّـرو المفكرين.
قنوات أرضية وفضائية تستقبل أيضا صانعي الإرهاب، ومبرري القتل على الهوية، في الوقت الذي يكون التلفزيون مأوى لغير المتخصصين، وورشة عمل تدفع للشاشة الصغيرة المتخلفين ثقافيا والمعاقين ذهنيا لقيادة تلك الأجهزة.
الجنس ...
يرتبط الخيال الجنسي بالعنف والقسوة والغلظة والتطرف ارتباطا كبيرا، وفي أحايين كثيرة يصبح الجنس والتطرف توأمين سياميين لا ينفصلان.
في صناعة الإرهابي يعرف الصُنّاع المهرة أن الخيال الخصب لشخص محروم ومكبوت هو دعوة لهم للدخول لعالمه، ودغدغة مشاعره، والعزف على تحقيق أحلام من جراء الكبت الطويل، بل إن القدرة على الربط بين التديّن المتشدد والحرمان الجنسي المتطرف في كبته يمنح صانع الإرهابي كلمة السر للتسلل إلى نفس الشاب، واعادة تركيب أولوياته الفكرية والروحية والدنيوية والأخروية استعدادا لتقديم الشاب المفخخ إلى المجتمع.
الصناعات الثقيلة والمربحة في العالم ليس فقط الأسلحة والبغاء والمخدرات ومناطق النزاعات، لكنني أستطيع أيضا أن أضيف صناعة الإرهابي وصناعة التطرف.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو النرويج
التعليقات (0)