ثلاثون عاما مضت بمرارة كالعلقم ، ثلاثون عاما من الوقوف على بوابة الانتظار . ثلاثون عاما من الحصار داخل جدران كلمة لاجئ في مخيم بائس للاجئين أمثالي .. بعد زمن أصبح المخيم يحمل أسماء عدة ..إلا أن أهم ما يميز هذه الأسماء .. اضافة كلمة للعائدين خلف كل أسم .. كانت ثلاثون سنة من الشعور المزري بالتساقط ..قبل يومين فقط تمكنت من الحصول على تصريح زيارة للقدس حيث يقيم الشق الثاني من ذاتي .. كنت منذ زمن موزع على بقاع شتى .. أنا هنا ، أما زوجتي وأبنائي فكانوا في رام الله ..بينما كان أحد أخوتي يقيم ويعمل في الرياض .. والأصغر في بيروت مجهول المصير ... والديّ في القدس … اليوم كأني أبحث عن ذاتي من جديد أواجه نفسي .. أقف أمام مصيري .. استعرض تاريخي العريض الطويل بكل السقطات والانكسارات
والهزائم ..بحثت مطولا عن نصر .. عبثا كانت ذاكرتي تسقط دائما في بحر من الانكسارات . على الجسر الطويل الممتد كانت تمتد روحي يرتمي عمري أمامي ..أرى بعين المهزوم الذي يبحث عن نصر في مستنقع الهزائم أحس بطعم المرارة أكثر كلما تقدم الطابور خطوة بأتجاه الفتاة الشقراء وهي تعتمر القبعة الخضراء .. كنت تتفرس الوجوه .. كنت أقرأ في عينيها وفي تفاصيل وجهها ما كانت تضمره في سرها .. ألقت بجواز السفر إلى العجوز الذي أحنت هامته هموم كثيرة قبل أن تحنيها السنون …. عبثت بجهاز الكمبيوتر أمامها .. تلفتت يمينا وشمالا .. أخذت علبة من الشراب المبرد .. مسحت جبينها المتعرق .. نهرت الشاب الذي كان ينحني على الطاقة الصغيرة .. تناهى إلى مسمعي :
أرافيم مولوخلخايم .
تجرعت مرارة كانت تغص بحلقي .. الشمس كتلة من اللهب تكاد تلامس الأرض .. الجسد أصبح دبقا لزجا كحلزونة تحت حجر.. فتاة تقف خلفي تحمل صغيرها على صدرها همهمت:
الآن مضت أكثر من خمس ساعات .. ربما ملوا الانتظار على الجانب الآخر ..
جندي مدجج بالسلاح يرافقه مجموعة من الرجال مروا بجانبي ..عبروا ممرا صغيرا لعله يفضي إلى كشك صغير يقف أمامه جندي يحمل جهازا للإرسال ..تكلموا قليلا ثم عادوا ..هرع الجندي الذي يحمل جهاز الإرسال إلى رتل من الحافلات المتوقفة :
أشار بيده إشارة العودة والتراجع .. أخذت الحافلات بالتراجع للخلف حتى تلاشت من الطريق وهو يتبعها بعيون المراقب ، هممهت الفتاة التي تقف خلفي :
عليهم العودة غدا .. ربما بعد غد ..تجاوزنا العدد المسموح به لهذا اليوم .
نظرت خلفي كانت قد أصبحت حمراء كأنها محروقة .. همست :
هل يمكن أن احمل الطفل عنك . ومددت يدي . تناولت الطفل الذي كان يغرق بالعرق وهو نائم .
إلى أين ؟
الجواب يخنقني .. ماذا أقول ؟ تلعثمت قليلا ثم بهدوء :
مجرد زيارة .
أحدهم كان قد حمل حقيبته وهو يهم بالعودة شرقا .. دمع حائر في عينيه.. غضب محبوس على محياه .. وتعب بادي من الإنهاك ..
تلحق به فتاة صغيرة تمسك بثوب والدتها التي كانت تنشج وهي تعصر عينيها بمنديل ورقي أبيض . مروا بقربي.. أوراقهم وجوازات سفرهم بأيديهم..
تلفت صوب والدة الطفل .. قرأت ما يدور في رأسي :
كثيرا ما يحصل هذا .. فقط هو نوع من الإذلال .. ليس بالضرورة أن يكون هناك سبب .. ممكن أن يجدوا مليون سبب.
الرجل الذي كان أمامي قدم جواز سفره .. قدم ورقة صفراء ..الفتاة الشقراء تدقق بجهاز الكمبيوتر أمامها .. ناولته جواز السفر ، حمل حقيبته اليدوية الصغيرة وهم باتجاه الغرب نحو الحافلات المتوقفة .
ناولت الطفل لوالدته .. قدمت جواز سفري الأخضر .. قدمت ورقتي البيضاء ..تصنعت الالتفات للطفل الصغير ..كانت أصوات ضربات لوحة المفاتيح هي كل ما أسمع .. كانت تضرب بقلبي .. ثلاثين عاما من الانتظار .. لا يهم دقائق قليلة أخرى ..
صوت الشقراء :
أنت ممنوع من الدخول .. أنت مطلوب .. تقدمت بطلب لم شمل .. كنت مبعدا .. نظرت ناحيتها كانت تشرب علبة من العصير المبرد وقد تكاثفت عليها قطرات الماء من الخارج ..ناولتني جواز السفر وهي تتصنع الابتسام ..قلت وأنا أتميز من الغيظ :
ولكني احمل تصريحا بالدخول .
الآن التصريح تنتهي صلاحيته ..أنت غير مرغوب بك ..مدت رأسها تنظر إلى من يقف خلفي تناولت أوراق المرأة والدة الطفل ، وتجاهلتني .. نظرت نحو الغرب كانت الشمس في طريقها للغروب . . وظلال الأشياء تتطاول ..حملت حقيبتي وأنا أغادر باتجاه الشرق حيث موقف الحافلات .
( عربي قذر بالعبرية )
التعليقات (0)