في ما مضى، نجحت الثورة المضادة التي قادها الرئيس المصري الأسبق أنور السادات في قلب أوضاع مصر والأمة العربية في اتجاه معاكس تماماً للاتجاه الذي وضعت عليه مصر ومعها الأمة العربية، ثورة الضباط الأحرار في 23 يوليو، قبل واحد وستين عاماً في مثل هذه الأيام، وذلك عندما بدأ يضرب الإنجازات الاجتماعية والاقتصادية التي حققها عصر جمال عبد الناصر، وتابع باستكمال حلقاتها بضرب الإنجازات السياسية والقومية، بتوقيع اتفاقيات “كامب ديفيد”، تنازلاً عن دور مصر في مسار القضية الفلسطينية، وذلك كله استناداً إلى الإنجاز العسكري الذي حققته في العام ،1973 القوات المسلحة المصرية التي أعاد بناءها العصري وتجهيزها جمال عبد الناصر، للرد على نتائج هزيمة 1967 .
ومع أن عهد حسني مبارك عمّق في ثلاثين عاماً مسارات الثورة المضادة التي أرساها أنور السادات، فقد جاءت ثورة الخامس والعشرين من يناير في العام 2011 تعطي مصر وأمتها العربية، أملاً في إنتاج مرحلة الرد على الثورة المضادة بعد أن تحركت ملايين المصريين هذه المرة، لأخذ زمام المبادرة بأيديها، تعميقاً لمسار ثورة يوليو التي نابت فيها القوات المسلحة عن جماهير الشعب في إنجاز المهمة .
غير أن جماعة الإخوان المسلمين التي كانت متحالفة بعمق مع عهد حسني مبارك، ومتفاهمة مع أجهزته الأمنية، جاءت لتنقضّ على الثورة وتدعي الالتحاق بها بعد النجاح في الإنجاز الباهر بخلع حسني مبارك من موقعه، في خلال ثمانية عشر يوماً فقط من تحركات الثورة الشعبية .
لكن جماهير مصر أثبتت أنها المارد الذي خرج هذه المرة من القمقم، إذ لم يمض سوى عام واحد على تنصيب الإخواني محمد مرسي رئيساً لمصر، وانقضاض جماعة الإخوان على أوضاع مصر الداخلية والخارجية بشهوة غريبة للسلطة اعتماداً على الانصياع الكامل لرغبات المشروع الأمريكي في المنطقة، وتسوّلاً للحماية الأمريكية، من أي احتمالات لتجدد الحركة الشعبية المصرية، حتى أعادت جماهير مصر، وبكثافة تجاوزت الثلاثين مليوناً، وهو حشد لا سابق له في تاريخ البشرية وفقاً للمصادر الأوروبية والأمريكية، تصحيح مسار 23 يوليو و25 يناير، في حركة واحدة، أو وضعت قطار الأوضاع في مصر، على سكة تعميق مسار الثورتين السابقتين .
لا شك في أن المرحلة الانتقالية في مصر ستكون هذه المرة أصعب من سابقاتها، فالتحديات ثقيلة جداً، يزيد من ثقلها تهافت جماعة الإخوان على استعادة السلطة بأي ثمن، حتى لو بتدمير كل قواعد الأمن القومي لمصر، ولجوارها العربي، وحتى لو توسّلت إلى ذلك بأن يثيروا ضد مصر، كل مطامع القوى الغربية .
كل ذلك يشير إلى أن تصحيح المسار سيكون شاقاً وعسيراً، وقد يكون غير قصير، لكن القاعدة التي تعطي أملاً أشد وضوحاً بمستقبل مصر وأمتها العربية، هي أن جماهير مصر الشعبية، مدعومة بقواتها المسلحة، هي التي تتولى الأمور هذه المرة مباشرة، ولا يبدو أنها ستترك مجالاً لمن ينوب عنها في أداء المهمة، بعد أن لدغت أكثر من مرة، ودفعت أثماناً باهظة، وعذابات طويلة المدى، لتقاعسها في المرات السابقة، عن النهوض بالمهمات الجسيمة مباشرة، وبلا أي وكيل .
لقد أمسكت جماهير مصر العربية بأيديها هذه المرة زمام صناعة مستقبل مصر وهذه المنطقة، بإرساء قواعد ديمقراطية راسخة، يتعلم منها العالم هذه المرة، ولا تنسخ عنه نسخاً . وهو حدث سيتجاوز حدود مصر حتماً، ليشمل بآثاره المنطقة العربية بأسرها .
التعليقات (0)