مواضيع اليوم

تشويه وجه القمر

nasser damaj

2009-05-16 16:33:22

0

فضاء الكلمة:

بقلم: خليل إبراهيم الفزيع.

 

تشويه وجه القمر.

 

ليسمح لي القارئ العزيز أن أطوف معه حول القمر في هذه السطور وهي صدي لما تحفل به أجهزة الإعلام ومواقع البحث وأحاديث الناس من كلام لا أول له ولا آخر عن القمر، وغزوه، وإمكانية الحياة فوق سطحه.

ويمتد الكلام إلى الرحلات التي سوف تنظمها بعض وكالات السفر والسياحة في الغرب لأثرياء العالم الذين يرغبون في الوصول إلي القمر، أو الاكتفاء بجولات فضائية تكلف هواتها مبالغ طائلة لو تبرعوا بها للفقراء والمحتاجين لشد الفقر رحاله عن العالم، كما يكثر الكلام عن الأبحاث والدراسات التي تجريها مراكز البحث العلمي حول الاستفادة مما هو متوفر علي سطح القمر من معادن ومواد تعين البشر علي مواجهة أزماتهم الاقتصادية والبيئية الطاحنة، هروبا من حصار هذه الأزمات للإنسان علي وجه البسيطة، وكأن الإنسان لم يكتف بتشويه مظاهر الطبيعة في الأرض، فصمم علي تشويه مظاهر الطبيعة علي سطح القمر.

وقد ظل القمر لقرون طويلة محتفظا برومانسيته الحالمة، إلي أن ارتكب الإنسان حماقة تحويل تلك الرومانسية الحالمة إلي واقع متخم بالصخور والمواد المعدنية والوديان المظلمة والمناطق الداكنة فوق سطح القمر، ليختفي مع كل اكتشاف جديد في هذا المجال جزء من تلك الصور الشاعرية الجميلة التي نقلتها آداب وفنون العالم عن القمر قبل اكتشاف واقعه، وهو واقع وإن سر العلماء لكنه حتما لا يسر الشعراء الذين فقدوا مصدرا من مصادر إلهامهم بفقدان ذلك الحلم الجميل، الذي ظل بعيد المنال حتى قربه العلم أكثر مما كان منتظرا فيما مضي من الزمان.

يقول العلماء: انه منذ أربع مليارات سنة ونصف، كان القمر مغطي بالحمم البركانية المنصهرة والتي شكلت محيطات من الحمم علي سطحه، وتتكون قشرة القمر من عدة عناصر أولية غازية ومعدنية، وعندما تسقط الإشعاعات الكونية علي تلك العناصر الأولية، تعمل تلك العناصر علي انعكاس تلك الإشعاعات بخواص مختلفة تعتمد علي طبيعة العنصر الأول العاكس للإشعاع وبصورة خاصة إشعاعات جاما، كما أن بعض العناصر الأولية علي سطح القمر تصدر إشعاعات جاما دون الحاجة لتعرضها لأي نوع من الإشعاعات الكونية كاليورانيوم أو البوتاسيوم والثوريوم.

الإشعاعات الكونية بما فيها أشعة الشمس تعطي للقمر ضياءه ضمن دورة فلكية ثابتة، وقد ظلت هذه الحقائق غائبة عن الشعراء حتى بداية غزو الفضاء، وأول من قام باستكشاف الجانب المظلم من القمر كانت المركبة الفضائية السوفيتية لونا 2 في 15 سبتمبر 1959 وأعقب ذلك يوري جاجارين كأول إنسان يتمكن من الطيران إلي الفضاء الخارجي والدوران حول الأرض في 12 ابريل 1961 علي متن مركبة الفضاء السوفيتية فوستوك1 .

لكن سباق غزو الفضاء بين العملاقين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية دفع الأخيرة إلى إرسال نيل أرمسترونج إلى سطح القمر قائدا للمركبة الفضائية الأمريكية أبولو11 وهو أول من حط قدمه علي سطح القمر، في 20 يوليو 1969 وقد وضع أرمسترونج لوحة معدنية علي سطح القمر كتب فيها (هنا حطت أقدام رجال من كوكب الأرض في يوليو 1969 بعد الميلاد، لقد جئنا بسلام باسم البشرية) وقام ومن معه بالتوقيع علي اللوحة المعدنية، كما وقعها الرئيس الأمريكي آنذاك ريتشارد نيكسون.

وجاء مشروع المحطة الفضائية الدولية العملاقة، بداية لريادة آفاق جديدة يمكن للإنسان إنجازها وفي رحلات استجمامية ترقي فيها الخدمات لتتجاوز أرقي الفنادق العالمية.

ولأن ريادة الفضاء كثيرة التكاليف فقد قرر الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن اعتماد مبلغ 25 مليار دولار فقط للإنفاق علي المحطة الفضائية الدولية، بدلا من 64 مليار دولار طلبتها ناسا، وهذه المليارات لو أنفقت علي الدول الفقيرة لأمكن إنقاذها من مشكلات اقتصادية طاحنة، وأمراض فتاكة مستوطنة، وتخلف أفرزه الفقر والجهل والمرض، وما يخشاه العلماء هو ما قد ينجم عن الرحلات القمرية من تدمير للطبيعة علي سطح القمر كما حدث على سطح  الأرض.

ومن مظاهر اعتداء الإنسان علي الأرض قيامه بتدمير البيئة البحرية عن طريق دفن مساحات شاسعة من الشواطئ، لإرضاء نهم المهووسين بتجارة العقارات، وكذلك تجريف الغابات وإحالتها إلي صحراء قاحلة، وإبادة أنواع كثيرة من الحيوانات البرية لإشباع هوايات الصيد لدي المترفين، وتلويث مياه الأنهار والبحار بمخلفات المصانع والمواد السامة، والعمل علي زيادة التلوث البيئي والاحتباس الحراري، والهدر المتواصل لمصادر الطاقة، وسباق التسلح، وخلق بؤر التوتر المؤدية إلي الحروب والدمار وجرائم الإرهاب، في أكثر من بقعة من هذا العالم، وغير ذلك من الأخطاء التي ارتكبها الإنسان في حق كوكب الأرض.

وقد احتفت آداب وفنون العالم بالتغني بالقمر وإيحائه الرومانسي، وامتد ذلك إلي عامة الناس الذين يصورون وجه الحبيبة كالقمر، وفي هذا يقول المصريون: (وشك والا الأمر)؟ ومعناها أهذا وجهك أم هو القمر؟ وفي التراث العربي- شعره ونثره- الكثير من أدبيات القمر، واختلفت نظرات الشعراء له باختلاف ظروفهم، وتنازعتها المواقف التأملية أو الفلسفية أو الوجدانية أو الخيالية، وسيطرت عليها المشاعر تجاه الحبيب في بعده واستحالته وجماله وضيائه في ليالي تمامه، وكذلك تجاه قيم الأصالة والمجد عند بلوغ كمالها، ومن ذلك ما ذكره ابن مقرب العيوني عندما يري المجد في ذروته فيقول:

أعيذ مجدك من عين الجمال فقد

أراه في التم يحكي هالة القمر

ونظرة ابن حمديس إلي القمر لا تخفي فلسفته حول قمره عندما يحيي الهوى ويميته، كما هو حال القمر بطلوعه وغروبه:

وبنفسي القمر الذي أحيا الهوى

وأماته بطلوعه وغروبه

أما أبو تمام فهو لا يري وجه الحبيب بمكنون جوهره سوي نسخة من القمر وهو تشبيه لم يعد مقبولاً في هذا العصر، ولو عاش في هذا الزمن لأعاد النظر في قوله:

ما إن أرى وجهك المكنون جوهره

يا أملح الناس إلا نسخة القمر

وكعادة الرومانسيين في نظرتهم إلي الطبيعة، وربط مواطن الجمال بها، يقول علي محمود طه:

إذا داعب الماء ظل الشجر

وغازلت السحب ضوء القمر

ولأن القمر لا يخفي على أحد فقد قيل لكل متسائل عن شيء معلوم وهل يخفي القمر! وهذا ما تمثل به عمر ابن أبي ربيعة علي لسان إحداهن:

قالت الصغرى وقد تيمتها

قد عرفناه وهل يخفي القمر

ومن الشعراء من استهان بالقمر وخاطب الليل غير مكترث بقمره، ومنهم ابن زيدون الذي قال:

لو بات عندي قمري

ما بت أرعى قمرك

ومثله قال ابن زهير الحفيد والششتري وابن الوردي، ومن المتأخرين عمر اليافي، وجميعهم ذكروا هذا نصاً أو قريباً منه.

أما ابن زريق البغدادي فيقول في رائعته المعروفة لا تعذليه:

استودع الله في بغداد لي قمراً

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

وجمع ابن رزيق العماني بعضاً من أسماء القمر في أبياته التالية:

سرح الألفاظ في روض الفكر

بين من لقبته بدر البشر

وهلال الأفق أما شمسه

أي بدر راق حسناً للنظر

إنني قلت لك الله وما

كذب القلب وما زاغ البصر

أيها البدر تواري إن لي

     إن تواريت عن الطرف قمر

لقد آن للشعراء أن يبحثوا عن ملهم جديد غير القمر وهو أمر لن يعجزهم على كل حال.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات