لم يكن (كريستوفر كولومبس) مكتشف أمريكا ليفكر يوما أن مكتشفه الجغرافي الجديد سيكون بعد ستة قرون مصدرا للإشعاع الحضاري والعلمي، كما لم يفكر أيضا انه سيكون مصدرا للقلق والإزعاج والغطرسة والتسلط والتمييز العنصري وهتك حرمة الإنسان كلما تعارض ذلك مع المصلحة العليا لأمريكا.
ما كشفه موقع ويكيليكس المتخصص في نشر الوثائق السرية وعلى وجه الخصوص العسكرية منها بشان الحرب في العراق أثار جدلا حادا حول أمور لم تجرح بمصداقية المعلومة المنشورة بقدر ما هو اعتراض على صلاحية النشر والإعلان لمعلومات تكاد تشكل خطرا على قوات الجيش الأمريكي المنتشر في العراق وأفغانستان وكذلك الأفراد المتعاونين معهم في هذين البلدين (المنكوبين) بحسب تصريح وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلينتون.
الوثائق كشفت عن أرقام مذهلة وغير معلنة سابقا حول الكثير من انتهاكات حقوق البشر جراء العمليات العسكرية التي قامت بها القوات الأمريكية على الأراضي العراقية منذ عام 2003 وحتى الآن وهذا ما أثار موجة إعلامية كبيرة تضاربت فيها الأقوال والتصريحات للكثير من المسؤولين سواء الأمريكان منهم أو البريطانيين أو قادة من حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحتى العراقيين والمثير في هذا الموضوع هو عدم نفي كل هذه الجهات للمعلومات الواردة في الوثائق ولكنهم تعاملوا معها من زاوية المصالح القومية أو الوطنية لتلك الدول وما سيتضرر منها في حال استكمال نشر ما بقي من الوثائق.
من خلال المطالعة للوثائق المنشورة يمكن تشخيص ثلاثة محاور مهمة:- الأول: انتهاكات حقوق الإنسان في العراق من خلال عمليات القتل والتعذيب الجسدي والاغتصاب للكثير من المدنيين الذين تصل نسبتهم إلى 63% من مجمل القتلى الذين بلغ عددهم 109 ألف قتيل جراء العمليات العسكرية التي قامت بها القوات الأمريكية وفي بعض الأحيان العراقية أيضا، وهذا ما يشير إلى مظلومية كبيرة طالت أبناء الشعب العراقي بحجة محاربة الإرهاب وتطهير المناطق السكنية من زمر القاعدة والميليشيات المسلحة الأخرى، وهو ما يدل أيضا على استخفاف كبير بكرامة ودم الإنسان العراقي الأمر الذي يفتح الباب واسعا للتساؤل عما إذا كانت تلك العمليات تستهدف (الأعداء) بحسب وصف الوثائق لهم أم أن هناك مخططا آخر يستهدف استكمال سحق الهوية العراقية الملتصقة بدينها الإسلامي، ولا أدل على ذلك الانتهاكات التي قامت بها الشركات الأمنية العاملة في العراق وعلى رأسها (بلاك ووتر) سيئة الصيت التي تتمتع بصلاحيات واسعة تكاد تفوق صلاحيات الجيش الأمريكي الرسمي نفسه، أما المحور الثاني فهو اتهام إيران بالتدخل في الشأن العراقي من خلال دعمها لجماعات مسلحة شيعية بحسب الوثائق، وهنا تحاول الوثائق الإشارة إلى أن العراق أصبح ساحة لتصفية الحسابات بين أمريكا وإيران والتركيز أيضا على أن إيران هي المعبر المناسب لاستقدام الأفراد المنتمين للقاعدة والقيام بتدريبهم في معسكرات تابعة لشركة بلاك ووتر على الحدود مع إيران، السؤال المثير هنا كيف يمكن أن يكون العراق ساحة نفوذ متصارع عليها بين أمريكا وإيران في حين تستخدم شركة بلاك ووتر الأراضي الإيرانية لاستقدام أفراد القاعدة من أفغانستان وهذا ما استطاع الإعلام الأمريكي ومن يسانده أشاعته في أذهان عامة الناس طيلة الفترة السابقة كما أن مثل هذه الاتهامات تعد ضربة إستباقية لكل الأحزاب المرتبطة أو لها تنسيق بمستوى معين مع إيران وهي تهمة قابلة للإثارة في أي وقت تراه أمريكا مناسبا لتقويض المساحة الجماهيرية لتلك الأحزاب والعمل على إدانتها حالما استشعرت تقاطعا أو خلافا معها حول السياسة الأمريكية في العراق. المحور الثالث وهو الأكثر إثارة في الأوساط العراقية إذ جاء في الوثائق إدانة صريحة لأحزاب السلطة باشتراكها مع القوات الأمريكية في انتهاكات لحقوق الإنسان في الكثير من مناطق العمليات العسكرية وكذلك السجون الأمر الذي أثار حفيظة البعض منها للرد على ما جاء في التقرير، فمنهم من استغل المعلومات الواردة ضد حزب رئيس الوزراء بإدانته وتضعيف موقفه وبالتالي الاستفادة القصوى من هذه الاتهامات التي وردت دونما دليل لتبرير مواقف الرفض لتجديد رئاسته لولاية ثانية، فقد دعت القائمة العراقية وعلى لسان ناطقها حيدر الملا إلى تحقيق دولي بشان الانتهاكات التي طالت المدنيين والسجناء في محاولة منها لإثبات التهم التي جاءت في التقارير مشيرة إلى أنها نوهت فيما مضى من الوقت إلى وجود انتهاكات لحقوق الإنسان تقوم بها قوات تابعة لرئاسة الوزراء ولا علاقة لها بوزارة الداخلية أو الدفاع تحت اسم (مكتب مكافحة الإرهاب).
كما تحاول أحزاب أخرى الاستفادة من هذه الاتهامات لإبعاد بعض المكونات عن ائتلاف دولة القانون وضمها إلى جانبها في محاولة منها لجمع اكبر عدد ممكن من المكونات السياسية لتشكيل الأغلبية وبالتالي تشكيل الحكومة بعيدا عن ائتلاف دولة القانون الذي فاز مرشحه (نوري المالكي) بتزكية التحالف الوطني له وتقديمه كرئيس للوزراء في أجواء سادها شيء من الغموض وغياب للشفافية.
من جانبه عبر ائتلاف دولة القانون وهو المعني الأول بهذه الاتهامات كونه يمثل راس السلطة الحالية في العراق، عبر عن استغرابه ودعوته للتحقيق فيما ورد من اتهامات تدين سلوكيات العاملين في القوات الأمنية لاسيما تلك المؤتمرة بأوامر رئيس الوزراء (نوري المالكي) بشكل مباشر.
الإثارات والتساؤلات التي يمكن أن تسجل حول المعلومات الواردة هي: من الذي ساعد على وصول هذه المعلومات إلى الإعلام والتي تعد سرية للغاية؟ هل هي جهات مخابراتية متنفذة داخل القوات الأمريكية تعمل لصالح دول أخرى؟ أم أن هناك من يعمل لدعم تنظيم القاعدة ومساعدته على تعزيز مكانته وقدراته إعلاميا؟ أم أن هناك من المسؤولين الجمهوريين في أمريكا والذين تقع على عاتقهم مسؤولية الحرب في العراق بزعامة (بوش الابن) هم الذين عملوا على نشر هذه المعلومات تمهيدا للانتخابات القادمة والإطاحة بالديمقراطيين الذين سعوا خلال تواجدهم في السلطة على إزالة أثار السمعة السيئة التي ألحقها الجمهوريون بأمريكا؟ أم أن هناك من بين المسؤولين العراقيين والذين كانت تصلهم المعلومات أولا بأول هم الذين قاموا بتسريبها في هذا الوقت؟ وذلك للإطاحة بإطراف أخرى والاستفادة من كل الأوراق سعيا للوصول إلى أهداف سياسية معروفة.
وسط كل هذه التكهنات يعلن موقع (ويكيليكس) نفسه أن الشكوك الأمريكية تحوم حول المحلل في شؤون الاستخبارات العسكرية الأمريكية (برادلي مانينغ) مما دعا إلى وضعه رهن الاعتقال العسكري حاليا من قبل قيادة القوات الأمريكية.
وسواء كانت التساؤلات السالفة أو ما صرح به الموقع الناشر للمعلومات مطابقا للواقع أم لا فقد صار من المعلوم أن الوثائق المنشورة وضعت الكثير من الحكومات لا سيما الأمريكية والعراقية على وجه الخصوص في دائرة الشك مما يستدعي العمل بجدية على إحاطة المعلومة العسكرية أو الأمنية أو غيرها من المعلومات بسياج من السرية غير قابل للاختراق، وهذا ما لا يمكن ضمانه 100% طالما أن جزءً كبيرا من الحروب في عالمنا اليوم تدار من قبل مراكز استخبارية ظاهرها شيء وباطنها شيء آخر قد لا يسمح الموقف في إيضاحها في هذا المقام.
التعليقات (0)