هؤلاء ، هم فقط نماذج وأمثلة لواقع يعيشه المجتمع السعودي ، وهو مؤشر خطير للأزمة المسكوت عنها في السعودية فلا يشعر بصداها وأثرها المدمر إلا من اكتوى بنارها . لكن السؤال الذي طرحه الوطن في يومه الوطني هو : هل يدخل عامل الوقت في انتظار (الموافقة والأمر) شريك فاعل في هذه الأزمة وهذا المنزلق الخطير ؟!
- في غياب الإسعاف والمسعفين المدربين نقل المصاب من موقع الحادث مجموعة من المارة على "متن هايلكس مقربع" إلى مستشفى يبعد عن موقع الحادث 120 كم . وهناك ، مكث المصاب لفترة على ذمة الأخذ والرد ! وكانت "البرقيات" تُبرق الواحدة تلو الأخرى لاستصدار أمر بالموافقة على نقل المصاب بواسطة طائرة إخلاء طبي إلى مستشفى آخر يستطيع الأطباء فيه إجراء العملية اللازمة للمصاب ، وبعد ستة أيام جاءت إحدى "البرقيات" بالموافقة ! ونقل المصاب إلى المستشفى وأجريت له العملية الجراحية اللازمة . ولكنه وبعد هذا المشوار ، وأيام الانتظار ، والفزعة ، والهايلكس ، والبرقيات ، والأخذ والرد خرج من المستشفى بإعاقة مستديمة .. شلل نصفي . لتبدأ المرحلة الثانية بإبراق البرقيات للحصول على "أمر" بالعلاج الطبيعي في أحد مراكز العلاج الطبيعي المتخصصة على نفقة وزارة الصحة أو على نفقة أحد الشخصيات !!
- منصور الذي دخل في غيبوبة تامة إثر حادث سير قبل بضعة أشهر على طريق بيشة ، المعروف بطريق الموت ، وتم نقله إلى مستشفى الملك عبد الله في بيشة .
والد منصور الجندي المتقاعد يقيم في الدمام بالمنطقة الشرقية .
ولبعد المسافة بين الدمام وبيشة "1400" كم ، ولعدم استطاعة أم منصور رؤيته وزيارته كلما دعتها إلى ذلك لوعة مصابها .
ولأن العلاج واحد في كل المستشفيات في مثل حالة منصور – كما يقول الأطباء – أراد والد منصور أن ينقل أبنه إلى مستشفى الدمام ليكون قريبا منه ومن والدته ، وليس له من وسيلة إلى ذلك سوى نقله بطائرة إخلاء طبي نظرا لخطورة نقله بأي وسيلة أخرى . لكن هذه الوسيلة تحتاج إلى موافقة مسبقة من المستشفى المطلوب نقل المريض إليه ، وفي كثير من هذه الحالات موافقة مسؤول كبير ، وليس أمام "أبو منصور" والحال كذلك ، سوى "البرقيات" أو "المعروض" .. وسيلة "التخاطب" حتى الآن بين المواطن والمسؤول . فقرر أبو منصور "الإبراق" .. وعلى مدى أشهر – لا حظ أشهر - أخذ يبرق ، ويبرق ، ويبرق حتى مات منصور رحم الله قبل أن تعود برقيات والده حاملة الأمر أو الموافقة على نقله واستقباله في مستشفى الدمام وذلك قبل موعد اليوم الوطني لهذا العام بثلاثة أيام .. !!
- في بعض مراكز العلاج الطبيعي وإعادة التأهيل المتخصصة - التي
لا يعالج فيها إلا من حصل على (أمر) بالعلاج من وزارة الصحة
أو من شخصية ثرية وعلى نفقته الخاصة حيث تبلغ تكلفة اليوم الواحد ما يقارب 1350 ريالا سعوديا – بعد انتظار و"برقيات" تلو البرقيات و(واسطات واستجداءات) .. في تلك المراكز المحدودة العدد والإمكانيات ترى شبابا في مقتبل العمر ، هم جزء من زهرة الوطن وأبنائه ، وهم جزء من موارده وطاقاته المهدرة ..
وبما أن هذه الحالات لم تكن سوى مثالا فأن هناك كثيرون ممن تعود "برقياته" بخفي حنين ! .
وهناك الكثير ممن يموت أو يصاب بإعاقة مستديمة في انتظار "الموافقة" أو (الأمر!!)
على/بـ :-
- نقل مصاب من موقع حادث .
- نقل مريض من مستشفى إلى مستشفى آخر أما للعلاج أو لضرورة اجتماعية وإنسانية كما في حالة منصور .
- علاج مريض في مستشفى تتوافر فيه إمكانية علاجه .
- علاج مريض على نفقة وزارة الصحة .
- إيجاد سرير "أبيض" لمريض يضرب له موعدا لا " يضرب"
إلا لطالب (منحة!) ، أو (لطالب قرب !!) من فتاة ما تزال قاصرة
فيقال له : انتظر !!
- والمصيبة الأكبر .. طلب العلاج لمواطن على نفقة أمير أو وزير !!
ورغم ضرورة "الموافقة" باعتبارها إشعارا بجاهزية الجهة لاستقبال المريض إلا أن الإشكال المقلق للوطن هو في سؤال من شقين :
الشق الأول من السؤال : ما الذي يدفع المواطن ويجبره مكرها ومرغما لاستدرار عطف المسؤول والتوسط عنده وطلب (الجاهة) و(حب الخشوم) لاستصدار أمره أو موافقته بنقل المريض أو المصاب ، أو بالعلاج في /وعلى نفقة جهة ما وهي مصيبة كبرى"! ، أو بالعلاج على نفقته الخاصة " وهي المصيبة الأكبر " ؟!! ..
هل هي (المهايطة) ؟!! كأن يقول أحدهم بتفاخر : أبرقت للمسؤول الفلاني ...!
أم أن ابنك يا وطني مجبر لا (مهايطا) ؟!
الشق الثاني من السؤال : لماذا لا تزال – حتى الآن – وسيلة المواطن للحصول على (الموافقة) هي البرقية أو المعروض ؟!
ألم يخترع لنا العالم المتقدم وسائل أخرى تقنية ، سهلة ، سريعة ، منظمة ، متقدمة ، وخاضعة للضبط ؟!
أم أن هذه الوسائل في حالة تقنينها واعتمادها بشكل رسمي ونموذجي قد لا تتسع حقولها لكلمات الرجاء والاستجداء بعد المديح والثناء وسرد الفضائل على طريقة كثير من الشعراء النبطيون المستمنحون تسولا !!
كذلك ، ولسرعة هذه الوسائل وميزتها في القضاء على الروتين والإجراءات العقيمة فلا تترك مجالا لتولد اللا مبالاة بسبب طول وقت الإجراءات التقليدية ، ولا تترك مجالا لانتظار (حبة خشم) أو (.....!!)
على أية حال ، هنا "شق" (مخفي) للسؤال في خاطر الوطن الذي يرانا نرقص فحسب ! في يومه الوطني ، وهو :
لماذا نحتاج في الأساس لمثل هذه الموافقات والأوامر ؟
هل نحن عاجزون ماديا أو تنظيميا عن جعل صحة الإنسان أولوية تنساب إجراءات أمنها وسلامتها بسلاسة وديناميكية وتلقائية ؟!!
ومن المؤكد أن الأمر ليس كذلك ولكن ....
إذن ، هناك خلل .. والوطن الذي يرانا نحتفل ونرقص في يومه الوطني لا يُتوقع أنه ربما يعتقد أن كل شيء "على ما يرام" فالواقع ليس كذلك ! ومن هذا الواقع : الإجراءات المتجذرة في الوعي وفي الثقافة والتي تبدأ بمعروض أو برقية وتنتهي بولادة هيكل ضخم من الورق قد يكون مشوها وفي أحيان تتعسر ولادته من رحم بيروقراطيتنا .
وعلى الرغم من أن هذه الإجراءات المطولة والممطوطة هي قنوات التواصل بين حق المواطن وواجب الوطن إلا أن التحول إلى مبادئ الإدارة الحديثة وهذا ضرب من ضروب الخيال ما بقي كل ما يمسُ أساسيات الحياة كصحة الإنسان ومعيشته وسكناه وتعلمه وبنائيات كل ذلك الأساسية على الأمر بالموافقة وعلى المنحة والعطية والمكرمة ، وما توقف سير إجراءاتها على (تكفى) واستجداء القائم عليها وقد يموت الطالب قبل إنجاز المطلوب !..
إذا .. احتفلنا ورقصنا للوطن ونثرنا الورود وغنينا الأهازيج في يوم الوطن ، فهل هذا كل ما يريد الوطن ؟! .. وبالرقص هل يطمئن الوطن في ظل معوقات تنمية إنسان الوطن وتفجير طاقاته ؟!!
فاصلة :
لست ضد الأحتفال باليوم الوطني ولكني "أرى" أن النظر إلى كل إشكالات المواطن بعين "الحل" جزء من الوطنية أن لم يكن الوطنية ذاتها ...
تركي سليم الأكلبي
التعليقات (0)