تساؤلات الذات الجريحة
Ø البشير عبيد
المكان غارق في الظلام و الفتيان الآتين من تخوم الذاكرة المشروخة، يبحثون عن أمكنة صالحة للإقامة، حيث الروح بإمكانها أن تسريح بعيدا عن صخب الدنيا و خيبات الأصدقاء الذين تناثروا هنا و هناك و توزعوا بين الخرائط و الأقاليم بحثا عن صباحات لا تغيب عنها ضحكات الصبية و أحلام الصبايا و دعاء العجائز وحدها الحدائق تمنع المرء نوافذ للنفوس المنكسرة و الأجساد الظامئة لعل الشوارع الخلفية للمدينة يباغتها السكون و تصير الرياح الحاملة لنواقيس الدهشة نبراسا للرجال الحالمين لم تكن القوافل وحدها تستقبل العائدين من مدن الثلج و لم تكن طيور الشمال واقفة على شجر السنديان للقرى و المدن المنسية ورقات الترحال و للفتيان الذاهبين إلى النبغ ضفافا صالحة للإقامة الدائمة. أحد الأطفال الآتين من هناك صاح في الجموع الغفيرة: دائما يذهبون إلى التخوم و ينسون دهشة الروح و الأقاليم غارقة في سبات عميق. لا أحد سيأتي غدا إلى قاعة الاحتفال محملا بالياسمين و الورقات المكتوبة بالأقلام المسكونة برائحة المكان القصي، من يمتلكه الخوف من المجهول لا يأتي إلى هنا حيث الحنين الخرافي إلى السفر الدائم و إنعاش الجسد المتعب بإخراجه من دائرة الإرباك و إدخاله إلى عتبات الهدوء، لا خوف على فتيان الفيافي من ضربات موجعة طالما نرى على الأرصفة و في الأزقة الضيقة رجالا يحملون اللافتات و يتساءلون عن جدوى التمعن في الورقات القديمة. إذن بإمكان هؤلاء القابعين في الدهاليز أن يرحلوا و يتوجهوا إلى بهاء اللغة الخارجة من سراديب اليقين، و الاطمئنان على صحة الأجساد المنهكة و الابتعاد و لو قليلا عن رمال الأماكن القصية ربما صار الرجل الأتي من زخم الحدث الساخن، بمثابة الهيكل الفاقد لديمومة البحث عن كائنات مغايرة و منفتحة على الآخرين. هذا الرجل الاستثنائي لم تربكه السنوات الطويلة باحثا عن " عن الفردوس المفقود " ممنيا النفس بامتطاء صهوة المغامرة و الذهاب كل صباح إلى مناخات الكلام العسير الظامئ الراكض وراء العبارة المتجاوزة لتداعيات المشهد. لم تكن أحلامه في التضحيات و لم تكن كلماته سوى قادحا لعشق سيرورة الخروج عن المألوف و الذهاب سريعا إلى حدائق المعنى، لعل الأيادي التي ساعدته على الخروج من الدهاليز تمنحه تأشيرة العبور إلى صخب الحياة و مفردات التحدي. هاهنا يكون القلم الساخن الحالم كالسفينة التي تعبر عباب البحر. مسافرة باتجاه المجهول و ذاهبة براكبيها إلى ضفاف الحيرة.
لا مكان هنا للذاهبين إلى سراديب الوهم
و لا وقت للقادمين من جزر الغيم
وحدها الكلمة تمنح الروح بهجة الارتواء
من مياه التساؤل
و لا خوف على نساء الضاحية من لهيب الحريق
الشارع مقفر هذا الصباح، و النوافذ مفتوحة بانتظار الرياح اللواقح .. لا مكان للصوص و الرجال الباحثين عن عتبات الإقامة الدائمة. ربما باغتتهم غيوم المدينة، لكن الذاكرة أسعفتهم و صارت الجدران مزهوة بانفتاح الوردة على كائنات الذهول، لم تكن الحناجر مستعدة لإعلان النشيد و لم تكن السواعد في حالة تأهب لحمل الرايات على الأعناق، الكلمات المكتوبة بجمر الأسئلة لم تتصفحها الأيادي و غاب عن المكان ألق الانتباه. المدن هي المدن و القلاع هي القلاع و الأقلام هي الأقلام، و لكن لماذا تصير الصباحات قريبة من حائط الغيم و تهرب المفردات من قواميس اللغة؟.. لا أحد قريب الآن من حياض الأسئلة و كل ما في الحكاية أن أولادا هاربين من جحيم الفلوات، تأخذهم خطاهم إلى تراب الينابيع حاملين الجرائد و الكتب و الياسمين و لم ينسوا أن وراء شفق الغروب فتيانا ينتظرون الشاحنات المحملة بالمياه ورقات الرؤى، لكن البحر لم يخن عشاقه الخلص، بل صار غاية في الهدوء و مرحبا بكل الآتين من هنا و هناك ليس حبا فيهم بل احتراما لقدراتهم الفائقة في المناورة و تحدي الصعاب. للأشرعة إضاءات الحبر و للكلام الطالع من منعطفات الجرح أمكنة لا يقترب منها النبلاء و العسس و الحالمون بيوم لا جمر فيه و لا انكسار. لا وقت الآن للإفلات من قبضة الذاهبين إلى التلال و الصحاري و بإمكان القلم أن يخط الرسائل لعشاق الجزر القديمة و السفن العتيقة و أحلام الرعاة. لا خوف بعد الآن من إعلان النشيد و إرباك الأجساد المتعبة و العقول الباهتة و النفوس المنكسرة لا خوف من ذهاب العبارة الفائقة المشاكسة لتداعيات الحدث و ليس في الحقيبة ما نخاف عليه سوى ما تدعيه الألسن. المكان القريب من لهيب الغيم صار باهتا و المدن التي غاب عنها الضوء و الماء و باغتا الظلام من كل اتجاه لها الله و الذاكرة و دعاء امرأة في السبعين. و لأنهم يفقهون جيدا دروس التاريخ و يتملكهم حنين خرافي لإنهاك الجسد و سفك الدماء، فإنهم حتما لا يتورعون عن قتل الصبية و الصبايا و الجنين و يغلقون المعاير و يحطمون الجسور و لا أحد بإمكانه أن يصيح .. و من تسعفه الذاكرة بأسماء الضحايا و تعطيه القدرة على النفاذ إلى مكان الصراخ العتيد فإن ماله الإقصاء من المشهد و إخراجه من دائرة الفعل الإنساني و استبعاد صوته المشاغب نهائيا و إلى الأبد. هكذا إذن تتشكل الصورة و تأخذ ملامحها شكلها الأخاذ و يصير المكان مراوحا بين اليقين و الحيرة. هل الأصوات الطالعة من رحم السؤال الحارق، بإمكانها أن تعطي تصوراتها المثالية لمدينة خارقة و فاتنة و استثنائية و ذاهبة بأولادها إلى فضاءات البهاء.
أحفاد البحر لا يخافون من النار
و نساء الضاحية لا يبتعدن عن شظايا
الجدار القديم
كلنا ذاهبون إلى غيوم السراب
و القرى غارقة في ضباب الوعود
ها قد توضحت المسافة الفاصلة بين الكلام المكتوي بنيران الحيرة و اللحظة التي يترقبها المرء لبدء مسيرته المعلنة باتجاه الخروج من النفق و التعبير جماليا عن تغريبته الموجعة بغية الإفلات من حصار السماسرة و العابثين بالطفولة و الصباحات و الورقات المكتوب عليها أناشيد الذهول. ألم نقل أنه لا خوف من إعلان العبارة المتحدية لغيوم الزمان و الاقتراب رويدا رويدا من ضفاف السكينة. وحدها الكلمة الطالعة من أنين الجسد تأخذ مكانها الطبيعي و تعبر طرقات القرى و المدن المنسية لعل أولادا فاتنين يباغتون الظلام بالشموع و الأقلام و الأوتار و الكتب و تساؤلات الذات الجريحة.
التعليقات (0)