د.ازهار رحيم
ــــــــــــــــــــــ
تمنيت ان احلق… لم اجنِ من امنياتي سوى كوابيس. رائحة الدم، البارود، الدخان تغطي المكان، سيارات محترقة، قطع لحم بشرية تناثرت على الارض، قدم مقطوعة، جسد فقد اطرافه، رأس تائه يبحث عن صاحبه في فوضى الصراخ و الخوف …كابوس اخر لقيلولة متأخرة.
البيت خاويا الا مني، لم تعهد امي ان تترك البيت دون تخبرني، الساعة تجاوزت السادسة مساءا...
القلق لا يتعبني… ولا يقربني منذ ان تعودت فقدان كل الاشياء التي احبها… والاحباب الذين تعلقت باطراف انفاسهم.
ابي…. لم يمهلني ان اكمل الجامعة، غادر مسرعا نحو قبره.
مرت ثلاث شهور على رحيله...
كان يوم عاديا لم يكدره سوى ألمه المفاجئ، وبول ملوث بدماء قانية، ارتمى على الفراش ، شاكيا…
استنجد بأمي التي قالت :
_ لعلها حصاة في المثانة أو الحالب.
الحصى كثيرة.. حصى تسد فوهات البلاعات فتغرقنا بالعفن.. حصى تملأ افواهنا ، لكتم غضبنا الجريح من ضربات الاقرباء احتراما لصلة الرحم .. حصى كلمات جارات السوء وهي ترقب خروجنا من البيت الى الجامعة.
حصى ابي، صغيرة، ناتئة تمطره دماء ،قرأت عنها في مجلة تتحدث عن هذا الموضوع، قليل من الاعشاب، وجرعات مياه كثيرة ستسقطها من ثنايا ابي ، استمرت الالامه، استغرب الطبيب من اهمالنا لغول كبير اسمه سرطان المثانة .
كان وجهه خاليا من تعابير.. تجاعيد.. زوايا متقلصة قد تبدي تعاطفه معنا، بلهجة مسرحية لممثل فاشل ،قال:
خذوه للبيت، دعوه، يكمل رحلته بين احضانكم حتى يصل قبره بسلام…
رحلة السلام تلك قطعت اوصالي، تحولت ايامي لمرارة... علقم ...تجرعته برضا، كي لا يرى ابي نضارتي.. احلامي.. تذوي ، تتهيأ لرحلة الموت معه.
طلقت امي نفسها من ابي…. انزوت عنه وعنا، هاج دمها ليطوحها بجلطة في الدماغ، لولا قوتها، و بقايا دفق الحياة في خضرة روحها، لاسكتت الجلطة نصف جسدها ، انكفئت وحيدة ،مترعة بالحزن ترقب موت ابي، وتستعجل احتضار روحها المبكر ،كنمرة استكانت في زاوية كهف تلعق جراحها بأنتظار الخلاص.
لن استسلم ،سمعت عن معجزات ..عن اناس احبوا الحياة وقهروا السرطان ،لم ادع احدهم يسرب الخبر اليه، اخبرته:
- انها الحصى كما توقعت، تحتاج وقتا طويلا كي تتخلص منها.
رسمت له على الورقة اشكالها ..مسننة.. حادة.. تمزق طرقها كي تخرج من جسده. عليه ان يصبر حتى تطلقه حرا، ويستعيد صحته.
حملت سريره لغرفة الجلوس كي اجعله يعيش اليوم بكل تفاصيله معنا، التلفاز يزعق طوال النهار، والراديو يكمل مشواره في الليل، الهاتف يرن بالقرب منه، كنت اتبادل النكات مع رفيقات الدراسة، واضحك بصوت عالٍ بالقرب من رأسه ، هاج ذات مرة لكلماتي البذيئة معهن، و لعن نفسه على بذرته ..
لم اترك تفصيلا عن يومي في الجامعة الا ورويته ،بدءاً بتعليقات الطلاب الساخرة.. الى نظراتهم الجائعة التي تلتهم سيقاننا ونحن نصعد السلالم لقاعة المحاضرة…. رويت له قصص الحب الماجنة والرومانسية التي تحدث في الكلية، كنت احاول ان اشده للحياة، ابقيه بكل جوارحه معنا، واملأ مساحات خاوية من افكاره بعد ان ترك العمل لشريكه ، حتى اصدقائه اعتقدوا ان عارضاً لازمه… وسيزول لذا لم يلحوا كثيرا في زيارته.
… لم اعي اني كنت ادفن رأسي تحت التراب كي اهرب من التراب
الذي سيحتوي ابي.
بدأت حالته تسوء ..يأست معدته من الطعام، اصبح شاحبا، هشاً.. الح الطبيب على رفد وريده بالماء المغذي …
كان أبي يفخر ببشرته البيضاء المحمرة، شبهوني به، كان يزداد احمرارا عندما يغضب، أو يشم رائحة أنثى جميلة تمر بالقرب منه، او عندما تداعبه امي بدلال ومكر، فيجيبها بعتاب:
- ان صغيرتينا كبرتا، لا يجوز ان تدلي بهذا الحديث امامهن.
لم يكن يعلم ان الصغيرتين الفتا كلمات الغزل، والحديث الناعم، من شباب الجامعة.
تجعدت بشرته وتحولت الى جدران سمراء، ثخينة، حتى اوردتها اصبحت عصية على الثقب، بعد عدة محاولات، استطاع الطبيب ان يغرز الابرة .. صاح ابي متوجعا، كطفل سقط توا من سلم عالٍ تسلقه لاول مرة…. ابكاني وجعه، خرجت من الغرفة كي لا يرى دمعي.. انيني.. لون الدم المشتعل في جلدي… كان يثقب في كل اوردتي ،شراييني ، اعصابي ، في تاريخي الذي تصدع قبل ان تبدأ سنواته.
ظل ايام ..وايام يتغذى من الكيس المدلى بجانب سريره ،فوق رأسه ، اتعبته الابرة في يديه، تورمت كفه، كان علي ان ادلكها كلما وجدتها منتفخة، توسل الي مرارا ان اخلع عنه هذه الابرة اللعينة… كانت الحبل الذي يربطه بالحياة والذي سيلتف رويدا.. رويدا حول رقبته ليخطف منه الحياة.
احسست ان الموت يدنو مني كل يوم، يهيم فوق سريري، قررت ان اسحقه تحت قدمي، ادميه ضربا، اخنقه حتى الموت ..و لم لا… أليس الموت كائنا يسلب منا الذين نحبهم ؟ سأنتزع حربته واكسرها كي يكف عن التهامنا، لن ادعه يسرق روح ابي، سأظل ارقبه ليل، نهار.
كان ابي يتنفس عبري، يبتسم، يتأوه، يحلم من خلالي… انام الليل على وقع انفاسه، عندما كان زفيره يتأخر، يأبى الهواء الخروج من رئتي حتى يتحرر زفير رئتيه المعلولتين... اصبحت انظم انفاسي، ودقات قلبي مع انفاسه و قلبه ،ازداد وهناً… وتكسرت مرايا الأمل فيّ .
لن تخذلني قواي سأحقن جسده بدفق الحياة مني، توقع له الطبيب الغبي، ثلاثة شهور، امتدت ايامه لشهرين اخرين .
مددته بحب الحياة، اجبرته ان يردد معي اثنتا عشر مرة في اليوم ،مرة كل ساعتين:
(سأشفى، سأهزم مرضي، وأتسابق معك نحو شجرة النبق الذكر في الحديقة سنلقمها بانثى كي تثمر).
كنت اهدده بانني سأغادره الى غرفتي ولن اشاركه النوم ، عندما يتعب و يستسلم لألمه كان يرتعب من فكرة تركي له، رفضت ان يخدمه سواي، تحمست اختي وامي للفكرة، وتجاوبوا معي كي تتخلصا من عبء رجل مريض ، مهترئ ..
تركت الجامعة واستمرت اختي بعملها في الشركة.
لم ادع عمتي تقرب بيتنا بعد ان سقط ابي في الفراش ... لم تحل في بيت مريضٍ، الا ورحل بعد يومين الى القبر،ادمنت البكاء والنعيق على الموتى، دفنت ولديها وزوجها وكل اقاربنا في سردابها الذي اشترته في وادي السلام بعد ان باعت كل حليها، ومارست مهنتها بأعتقال اجساد الموتى في حضنها،اصاب العقم غددها الدمعية منذ رحيل ولدها الثاني.
صفت شباب العائلة من الذي قضوا في حرب الثمان سنوات في قبور متجاورة في السرداب وبنت فوق السرداب غرفة كبيرة وجهزتها بكل متطلبات الحياة ،سرير كبير ،طقم ارائك وملحق صغير استخدمته كمطبخ لاعداد وجبات الطعام لكل من يمر لزيارة القبور في النجف ويتعب من السلام على الاحباب المتوفين ليكمل رحلته بالجلوس وتناول وجبة غذاء او فطور بالقرب من حصن الموت ، الذي احتفلت فيه مرارا بأعياد ميلادهم واعياد رأس السنة ودعت زوار القبور اليها، ليتناولوا الكيك الذي كان يفضله ابنها البكر ،لم تنسىابدا ان تزين شجرة عيد الميلاد لترضي رغبة ولدها الثاني في قبره .
قضت عمتي الفرعونة في هرمها المربع ما تبقى من حياتها وما كانت تتركه الا لتجري طقوسها مع من يختارهم الموت لقائمته.
تجرأت بشراسة لمنعها من زيارة ابي… غضب الغراب الناعق بالسوء، البومة المشؤومة، التي ينثر حضورها النواح والبكاء لكل بيت تدخله.
طلب عمي ان يزوره، سمحت له ان يراه مرة واحدة وكانت الاخيرة…. دخل الى الغرفة واضعا منديلا على نصف وجهه، جازما ان السرطان مرض معدي، لم يُقبل ابي ، جلس بعيدا عنه ، كان يبكي وكأنه آتٍ لوداعه الاخير.
انتكست حالة ابي بعد ساعتين من رحيله، وبدأت رحلة عذابي وعذابه الجديد . اصبح التبول في الفراش سكينا قطعته ، وهما جديدا الهب ظهري ألما ، تهرئت جلدة اكفي من غسل شراشف الفراش.
احضرت لي جارتنا من السوق نايلون كبير الحجم نصحتني كي اغلف فراشه، اتى الطبيب بكيس للتبول، علمني كيف ادخل الكيس المطاطي الصغير في قضيب والدي، ادرك الطبيب خجلي، سألني عن امي، فاخبرته:
- انها عاطلة عن الحياة واخي الوحيد خارج البلد .
لأول مرة رأيت سحابة لمشاعر عطف مرت على وجهه لثواني ، اخبرني ان علي ان اقوم بهذا العمل لوحدي.. بكى ابي.. رفس يد الطبيب، حاول الوقوف فلم يستطع، اغضبه الخجل ، طردنا من الغرفة صارخا :
- انا بخير وسترون كيف سأشفى وانهض غدا من فراشي وأقضي حاجتي.
لم ارى اعضاء ذكورية، سوى مرة واحدة وعلى عجل بعد ان الحت علي صديقتي ،لاشاهد معها فلم استلته من درج اخيها، هربت من بيت صديقتي بعد ان رأيت مشهدين لمخلوقين عاريين يتقلبان في الفراش انيناً.
علي الان ان المس لاول مرة الحربة التي اسقطت بذورها في رحم امي، ورمتني طفلة بائسة تتصارع وحيدة مع الحياة…
لم آبه لرفض ابي،نهرته بغضب:
- لم اعد اطيق رائحة سوائلك القذرة، عليك ان تساعدني،ان لم تفعل، سأتركك تتعفن في قاذوراتك.
كان داخلي يعوي كذئبة في ليل بهيم، فقدت غريزتها.. رائحة صغارها، فاكلتهم دون ان تعي انهم صغارها… ركضت الكلمات هادرة سريعة عبر لساني واطلقتها سهاما موجعة حادة اليه… لاول مرة في حياتي، اهين رجولة ابي، خناجر مزقتني من الداخل…. بكيت لألهي:
كم انت قاس ايها الرب لتريني وجه ابي مذهولا من سياط ابنته الحبيبة…
حاول الطبيب ان يلطف الجو، وبهدوء شرح لأبي فائدة هذا الكيس كي يجنبه كثرة الحركة التي تؤخر في شفائه .
استسلم ابي..
لا خيار امامه سواي، توسلت اليه ان يطيعني، كما اطعته صغيرة، علينا ان نهزم خذلاننا، كي نقهر المرض ،وافق بانكسار، وضع ساعده على عينيه وسلمني ما تبقى له من رجولة وكبرياء.
أزاح عني هذا الكيس هما كبيرا ،واقلق ظهر ابي، علي ان اجعله يتقلب عدة مرات في اليوم كي يتجنب قرحة الفراش.. بدأت ذاكرته تهزل.. اصبح ينسى الاسماء وينام لساعات طوال، قل كلامه دخل غيبوبة قصيرة، واستفاق بعدها يطلب حضور اقاربه ...كان ينادي الاموات اثناء نومه .
تسارعت الاحداث، تدخلت امي، طلبت مني ان اضع فراشها على الارض لتكون بجانب ابي.
اختلفنا كعادتنا، حاولت ان اجعلها تنام في سريري المقابل لسريره، وافترش انا الارض بجانبه، رفضت بشدة، علا صوتنا، كنت اريد ان اصبح اقرب.. اقرب اليه .. اقصتني بحكم سلطة الامومة، علي ان ارقب تنفسه وقلبه في الليل كي لا يختنق، حذرني الطبيب من نوبات الليل .
بدأت اليوريا ترتفع في دمه والسوائل تتجمع في فجوات جسده ،و خلايا دماغه تسقط تحت وطأة اليوريا الخبيثة... انهارت ذاكرته...
رفضت امي الطعام البسيط الذي كنت احمله لي ولها نتركه على الارض ونجلس القرفصاء ، نتأمل الطعام باشمئزاز.. قطرات الماء المغذي، تسقط بهدوء قطرة، قطرة.
فقدت 10 كيلو غرامات من وزني تحولت الى عجوز في العشرين، تأبطت ذراع الموت لتزف الى حضنه الأثير… لم اعد احتمل صمت امي، بذر سكونها في داخلي حدسا مرعبا بانفجارها فجأة، كانت ترتب شيء ما في داخلها… ربما سيناريو الجنازة، ايام العزاء، مصاريف الدفن ،عدد الخراف الذبيحة، وعشاء اليوم الثالث هو ما جعلها تصوم عن الكلام… او حرصها على ضغط الدم مخافة ان تهاجمها جلطة اخرى تطيح ما تبقى منها.
فيما مضى كانت امي ثرثارة لا تفوت مناسبة دون ان تفرض سطوتها على الحاضرات بالكلام، تصدرت دوما مجالس النساء، تعتليها بنكاتها وتعليقاتها اللاذعة التي تفتتحها بي وبشقيقتي وتنتهي ببائع النفط الذي يصر على تحسس اصابعها الجميلة في كل مرة تمنحه المال، ورثت عنها غرورها، وساقيها الجميلتين .
احب ابي امي بجنون، كنت اعلم انها لم تحبه يوما، تعاقبه بكلامها، تصرفاتها لم تأبه له كزوج، ذات مرة سمعته يتوسل اليها كي ينال حقه في الفراش، امرته ان يقبل قدميها، وان يضع ما يكفي من المال على الطاولة لشراء سوار ذهب اعجبها….
كرهت امي وهي تذل ابي ، توسلات ابي مزقتني....
هل منحني ابي كبرياء زائفة، نحرها اضحية حتى قبل ولادتي تحت قدمي امي؟
كرهت وجودها في الغرفة معنا، لم تكن تحسن سوى الانتظار ... نفث الحسرات، لتزيد فجيعتي برجلي الذي بدأت افقد خيوط تواصلي معه، بدأ حبل الحياة يذوي بيننا ، بللت اصابعي بلعابي كي ارطب شفتاه اليابستان، فتح عينيه وابتسم:
ـ ايه حبيبتي نامي قليلا كي ترتاحي، وجهك ذابل، عيناك غائرتان اين ابتسامتك… كنت احلم بك، صغيرة، هشة كما حملتك في يوم ولادتك,
اتعبت امك اثناء الولادة كانت تدفع بكل ما تملك كي تخرجك للحياة، اخبرتني الممرضة انك طفلة شقية، تهربين الى احشاء امك وترفضين النزول، لولا اصرار امك على لفظك دون عملية قيصرية، لكنت الان تدفعين كل يوم ثمن خطيئة تشويهك لبطن ، او شق رحمها بمشرط الجراح…
- لماذا كنتما تتجادلان في الليل؟…
ـ لكنك كنت نائما يا ابي…
ـ كنت معك طوال الوقت، دعي احشاءك الجافة تنعم بطراوة الطعام، اجلبي الشوربة كي تتناولها سوية…
جلبتُ صحن الحساء وانا اعلم انه لا يستطيع ان يأكلها،أغلقت احشائه بوابات الحياة …
ـ يا اغمسي قطع الخبز في الحساء، تناوليها الان، امامي…
اجبرت نفسي على اجتراع مرارة الطعام، كان يتمتع بمنظري، ويشجعني لأكل اكثر.. واكثر.. يستوقفني بهدوء ليعلمني كيف امضغ ببطء و اتلذذ بما يدخل جوفي، نفذت ما يقوله بجدية، وبعد عدة لقمات امرني بالتوقف لأرطب ما تناولته بعصير برتقال… فعلت ما اراد ، احسست انه ارتاح بعدها، وتألمت انا...
لم اكل بهذه الطريقة منذ زمن فقد ذاكرته .
نام بعدها ... استيقظ في الليل، ليطلب مني ان اتصل بزوجة عمي جميلة كي يراها،ثم طلب ان اهاتف اخي كي يتحدث معه، من تحت وسادته، استل كيسا مليئا بالمال واعطاني اياه مع نظرات احتجاج امي قائلا:
ـ هذا المال لك وحدك، اصرفيه فقط على نفسك…
انطوت ملامح امي بأسف، وفتحت القرآن على سورة آل ياسين لتقرأ بصوت عال، (ياء. سين. القرآن الحكيم…. ) .
اغلقتُ القرآن بغضب… همست في اذنها نحن لسنا في مقبرة… قرصتني ، كتمت صرختي… كي لا ازعج ابي .
لم اعلم سبب طلبه لزوجة اخيه جميلة، المشلولة، هاتفت ابن عمي الذي لم اكلمه منذ سنوات، اخبرته برغبة ابي .
تعجبت من استجابته لي بسرعة . دخل الغرفة حاملا اياها، تتبعهما نذير الشؤم، التي وكزتني بعكازتها هذه المرة باصرار، قائلة:
ان اعترضت سأرميك خارج البيت، هكذا حال البيوت التي تديرها النساء، ليس فيها احترام ولا تربية.
سكتُ على مضض.
زوجة عمي جميلة، اجمل نساء العائلة فرغم سنوات مرضها، كان جمالها كجمال آلهة عتيقة، سلب لون عينيها بعض من خضرة الجنة التي اتت منها لم تكن تحسن العربية بصورة جيدة، لكن كلماتها القليلة اوحت لي انها كانت امرأة فتنت كثير من قلوب الرجال، اردتهم صرعى تحت اقدامها، عندما جاء بها جدي من عيلام زوجة له، اعابوا عليه صغر سنها فتعارك ذكور العائلة من اجل الفاتنة القادمة من وراء الحدود، التي الهبت مشاعر شباب العائلة، حتى استأثر عمي الكبير بها…
كان غضب امي واضحا من وجودها… امسكت بيد والدي، قبل يدها، تكلمت معه بضع كلمات وبعدها رحلت دون ان تسلم علينا.
بدأت عمتي طقوسها الحزينة وهي تستذكر ذكرى ولديها وشباب العائلة وذكرى والديها واخوتها.. وابي ينتحر في نوم عميق… قررت ان انسحب من الغرفة لئلا تشتعل حربا جديدا مع عمتي المصرة على ارغامي لترك الساحة لها…
بعد ساعتين خرجت امي من الغرفة حاملة القرآن بيديها وهي تبكي… وبحنان قالت لي:
ـ ان والدك سيرحل… احتضنتني… منذ زمن طويل.. بعيد.. لم تمارس امومتها معي، احسست بقلبها ينبض في صدري…
ـ ارجوك دعيه يرحل.. اتركيه يغادرنا بسلام…
دفعتها الى الخلف بقوة، دخلت الغرفة... حصل ما توقعت، هذه البومة جاءت ورائحة الموت تفوح من ملابسها السود، عيناها الجافتان من كثرة الدموع… ها هي الان جاءت تسلم ابي للموت…. عقدت معاهدة صلح معه، تسلم له ارواح العائلة ليمنحها الخلود… كان ابي في كامل وعيه، وهي تلقنه الشهادتين…. كانت قد نجحت في حثه على تردديها، سحبتها من ذراعيها بقوة ،صفعتني بقوة شابة في العشرين، اذهلتني الصدمة، بكيت لاذلالها لي، امرتني بالسكوت فامتثلت، جرتني من شعر رأسي، همست في اذني:
انك تقطعين طريقه للغفران، اصمتي كي لا ينجح الشيطان في اثقال لحظات التوبة على لسانه… بعدها افعلي ما تشائين، لنجعل اخر كلمة يقولها هي الاستغفار كي يلحق جوار اجداده، مباركاً، خالياً من الذنوب، هيا معي لنوجه سريره باتجاه الكعبة.
ادخلتني اللعبة معها، فعلت لها ما ارادت، نادت على اختي كي تكمل قراءة القرآن… اراهن انها فعلت هذه الطقوس مع كل الموتى الذين صحبتهم الى بوابة الاخرة، ستنال مكافأة عزرائيل بمنحها سنة اخرى للحياة.
قالت لي:
ـ حاولي معي ان يردد (استغفر الله واتوب اليه) لا تدعي الشيطان يثقل لسانه.
بدأ يضيق بالكلمات التي رددها مراراً ..توقفت كما امرتني ليكون اخر كلامه، من روح الله، انقطع ابي عن الحياة… قالت عمتي انه بدأ يغرغر… وامرت امي ان تجهز بالملابس السود .
.. آن الاوان..
غبية انا.. الكل كان يعلم بخطوات الموت تدنو من بيتنا، الا انا، كنت احاربه بسيف من وهم .
نمت ورأسي بجانب قدميه، عند الفجر صحوت، اخرجتني عمتي بالقوة من الغرفة، قائلة:
لا يصح وانت عذراء ان تشهدي ما يحصل…
بهدوء طلبت ان ارافقه حتى القبر…
بعد ايام عدة كنت احضر الشاي ناداني بأعلى صوته، أجبته :
نعم يا ابي…. هرولت الى الغرفة. كان فراشه خاويا الا من رائحته… مضت الايام ثقيلة، سقطت سنة دراسية من عمري… نجح الجميع في الامتحانات.. نجحت انا في التقاط ثمار الحزن من شجرة الحياة.
كاتبه وصحفية عراقية
التعليقات (0)