مواضيع اليوم

ترهـاقــا.. ملك السودان ومصر

مصعب المشرّف

2010-11-17 13:04:00

0

 

الملـك ترهـاقــا

ملك السودان ومصر

(سلسلة رموز وهموم سودانية)

(حلقة 4)

من وحي تمثال الجرانيت الأسود النصفي للملك ترهاقا الموجود حاليا بالقاهرة ....... وبلونه الأسود الفاحم ..... وقسمات وجهه الزنجي المستدير وإتساع عينيه وإمتلاء خديه .... وأنفه الأفطس وشفتيه البارزتين مع انقلاب طفيف على نحو يجعلك لا تستطيع التملص من وصفهما بالشلاليف ؛ فإن هذا الملك السوداني يجعلك في حيرة من امرك ..... فهذه القسمات والملامح قد لا تجدها كثيرا في نوبي خامل أو ساطع من طراز أولئك الذين تشاهدهم في ميناء وادي حلفا أو المطرب محمد وردي ,والبلابل ومحمد منير أو النجمة التلفزيونية نسرين سوركتي .. بل ومستشار رئيس الجمهورية د. مصطفى عثمان إسماعيل ....
وحتى لو كنت منتعلا ((تموت تخللّي)) فقد يذوب شراك نعلك وتدمى قدميك وانت تواصل التجوال راكبا عربة او سائرا على ((خ11)) بين حلفا القديمة وحلفا الجديدة قاطعا ديار السكّوت والمحس وضواحي وأرياف دنقلا ومقاهي ومنتديات أبناء النوبة المنزوية والمنكفئة على نفسها ، بطول وعرض وادي النيل في عدم اندماج وعنصرية لافتة للنظر ...... فإنك وبرغم كل ما عانيت من ترحال وتجوال وتفرّس في الوجوه لن تجد مثل هذه القسمات في النوبيين الحاليين ......
فهل كان الملك ترهاقا نوبي إبن نوبي ؟؟؟ ام انه كان ينتمي عرقيا إلى قبيلة سودانية اخرى من مكونات مملكة نبتة ، ثم أصبح ملكا على دولة نوبية المنحى والثقافة ؟؟؟؟

 


ربما كان ترهاقا ينحدر من أم زنجية .... وربما لو كان الأب فيليب عباس غبوش حيا يرزق ، او سمع البعض من أعالي النيل الأزرق والرنك وملكال بأوصاف قسمات وجه ترهاقا . او شاهدوا تمثال راسه الجرانيتي الأسود في متحف القاهرة .... لربما اصطفوه لأنفسهم وجادلوا فيه ايما جدال ... وقد يكون لهم الحق في ذلك ....... فطبيعة الحياة الاجتماعية والتحالفات الداخلية بين ((القبائل السودانية)) التي تشكلت منها ((مملكة نبتة)) غير معروفة على نحو واضح ... وتكمن المشكلة في أن معظم المراجع التاريخية عن ممالك السودان نشات في الخارج، وعلى نحو جعل المؤرخين على سبيل المثال يؤرخون لمملكة سنار على اعتبار انها النوبة العليا ، وكذلك مملكة سوبا. ويطلقون على مملكة نبتة مسمى النوبة السفلى ... في حين أننا في السودان على العكس من ذلك ... فالنوبة السفلى لدينا هي النوبة الواقعة داخل حدود مصر الحالية... ولأجل ذلك تختلط الأمور كثيرا..... وعلى نحو جرى التأثير فيه حتى على مسميات التضاريس الجغرافية . فالشلال الأول مثلا يقع داخل حدود مصر والشلال الخامس يطل على شمال العاصمة المثلثة حاليا .. مما يعني ان الجغرافي كان يعد ويرصد من ((الإتجاه المعاكس)) لمجرى النيل، وليس إتساقا مع طبيعة جريان الماء من الجنوب نحو الشمال.... فالعلم والمنطق يقولان أن الجغرافي يبدأ رصده لأي نهر وظواهره ويدرس الإنسان والحيوان والزواحف والطيور والنبات على ضفتيه ، متجها من منبعه ويتابعه حثيثا نحو المصب وليس العكس...... ولأجل ذلك لا اجد مندوحة من التحذير بأنه لن يفلح قوم تولى غيرهم كتابة تاريخهم وترسيم حدودهم وجغرافيتهم.
ثم أنه وبالنظر إلى مساحة الرقعة الجغرافية التي سيطرت عليها مملكة نبتة ، وقوتها الاقتصادية والعسكرية وأعداد جيوشها التي واجهت جيوش 20 ولاية مصرية واخضعتها . وعلى ضوء ما قيل عن جيش الملك تفنخت مثلا وأن تعداده قد وصل إلى 800,000 جندي وضابط عشية مواجهته لجيوش الملك السوداني بعنخي .... وبالنظر إلى اعداد قبائل النوبة مجتمعة داخل السودان حاليا في عام 2010م من القرن الحادي والعشرين ... فإن لك ان تتخيل كم كان تعداد أبناء النوبة مواطني مملكة نبتة عام 1600 ق.م ؟؟؟؟؟
وعليه فإن من الواضح أن مملكتي نبتة ثم مملكة مروي من بعدها لم تكونا ممالك نوبية صرفة خالصة في تكوينها العرقي .... وإنما كانت وعاءا جمع عدة قبائل اخرى سودانية ، تحالفت فيما بينها تحت قيادة وريادة حضارة وثقافة نوبية سودانية .
ثم انه لا غرابة في ذلك والسودان بالفعل لا يحتمل غير ذلك .... وهو واقع لا يزال ساريا في عصرنا الحاضر ، فهو ليس دولة عربية او إسلامية خالصة محضة في تكوينها العرقي والثقافي ... وإنما وعاء جمع عدة قبائل سودانية أخرى تحالفت فيما بينها وبكامل الرضا تحت ريادة وحضارة وثقافة عربية إسلامية سودانية .


إن حدود مملكة نبتة كانت تمتد من الشلال الأول شمالا حتى جبال الحبشة جنوبا .... وعليه فليس هناك عاقل يستطيع الإدعاء أنها مملكة نوبية خالصة .... فأين ذهب هؤلاء النوبة لو كان الأمر كذلك ؟؟؟؟ اللهم إلا إذا كانوا قد تعرضوا لإبادة جماعية على نحو من تلك الإبادة التي تعرض لها الهنود الحمر في قارة امريكا الشمالية أو التهجير القسري لأبناء الشعب الفلسطيني على أيدي الصهاينة وآلتهم الحربية ... ولكن التاريخ لا يذكر لنا ذلك ، ولا يشير إليه ولا توجد علامات دالة على ذلك . لاسيما وان الهجرات العربية التي تداخلت فيما بعد لتملأ فراغ هذه المنطقة وتتزاوج مع سكانها الأصليين لم يعرف عنها تبنيها ((ثقافة القتل)) والإبادة ولم يكونوا من ((عتاة المجرمين)) ونزلاء السجون الذين حاولت بلدانهم الأصلية التخلص منهم بإرسالهم إلى ((العالم الجديد)) الذي اكتشفه كولمبوس .... بل جاء هؤلاء العرب وهم يحملون فوق ايديهم قرآنا سماويا ومبشرين بثقافة جديدة ، ودين جديد ومثل سامية على سنة وهـدي خيـر الأنام محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم..... يخرجون به الناس من الظلمات إلى النور ، ومن نيران الجحيم إلى جنات النعيم والفردوس الأعلى وحوره العين.

ترهاقا ملك السودان ومصر
حين تغوص في بطون الكتب تدرك أن تاريخ القادة والملوك الذين تشابكت سيرتهم مع العالم الخارجي ، وإن كان يكتب مرتين في كثير من الأحيان ؛ فإن تاريخ السودان وحضارة النوبة على نحو خاص تكتب ثلاث مرات على اقـل تقـديـر .....
نعم يكتب التاريخ مرتين دائما لأن بطلك القومي الذي تفخر به (وليكن المك نمر على سبيل المثال) ؛ فإنه لدى المؤرخ المصري يعتبر عكس ذلك ... وعلى هذا النسق أجعل قياسك ، وعدد سبل أمثلتك كما تشاء ، وبعديد حبّات المطر تحت سحابة تبكي في عز عينة الطرفة ..... ولأجل ذلك فلا املك سوى القول: (ويل لأمة لا تكتب تاريخها باقلام ابنائها)).
لكن الملفت للنظر أن الملك ترهاقا يعتبر مثالا مختلفا . بل هو أصدق مثال على تمسك اهله و((جيرانه)) على حد سواء بإنتمائه إليهم ، ثم حيرة الآخرين في أمره .... فهو كان ولا يزال مثارا للخلاف بين السوداني والمصري ، وكل طرف يريده لنفسه ويلحقه بنسبه واصله وتاريخه وفصله ...... فنحن نعتبره سودانيا لا يرقى إليه شك ... والمصري يعتبره مصريا نوبيا يفطر بالعسل الأسود ويرتدي الجلباب والعمامة ليمضي حياته خالي البال والمسئولية وهو يغني : ((الليلة يا سـمـره .... يا سـمـاره الليله يا سـمـره )) ....
والمؤرخ المصري لا يعترف في كتبه بما يطلق عليه تاريخ السودان القديم .... بل يرى وعلى نحو متشدد أن تاريخ السودان هو تاريخ مصر ..... ولا يكاد يعترف للسودان بتاريخ إلا بما جرى ويجري بعد يناير 1956م. ... ثم ان لدى المصري قناعة متجذرة متأصلة ؛ وهي أنه يعتبر أن كل ملك أو قائد أجنبي دخل بجيوشه مصر وحكمها يصبح من حق مصر ان تعتبره أحد أبنائها .. ولا يختلف في ذلك بعنخي وترهاقا عن شجرة الدر أو المعز لدين الله الفاطمي وهلم جرا ....... وإلى عهد الملك فاروق سليل أسرة محمد علي باشا.
.... أما المؤرخون من دول العالم الخارجي فقد اختلفوا في أصله بحسب المراجع التي ركنوا إليها أو المصادر التي اتصلوا بها ، ومواقع وأماكن تنقيبهم. فبعض الذي زار السودان يقر بأنه سوداني من واقع تصنيفه انه كان ملكا من مللوك إيثيوبيا ، والبعض يراه نوبيا مصريا دون سند من واقع ....
ولكن الذي لم يلتفت إليه المجادلون في سودانيته أن ترهاقا كان ملكا من ملوك نبتة .. ومملكة نبتة وحضارتها لا يختلف إثنان في أنها سودانية خالصة وبالتالي لا يجوز الكيل هنا بمعيارين وعلى نحو يجعل المسألة أقرب ما تكون إلى قوله عز وجل : ((ألكم الذكر وله الأنثى ؟؟؟))
ثم أن الملك ترهاقا دفن في منطقة نوري غير بعيد عن عاصمته نبتة، وقد تم العثور على بعض رفاته .... وحبذا لو صدر امر جمهوري بمعالجة هذا الرفات الملكي في باريس على نفقة الدولة للوصول إلى حقيقة أصله العرقي بدقة وإلى اية قبيلة كان ينتمي ؟؟؟ فربما يكون في ذلك نافذة تؤدي إلى إعادة كتابة تاريخ السودان القديم من جديد.
وعلى اية حال .... فإن هذا الملك الكاريزمي قد نظلمه كثيرا لو اكتفينا بوصفه أنه كان ملكا من ملوك نبتة وحدها ... أو ملكا على السودان وحده ..... وحيث ان المصريين يتمسكون به ملكا عليهم .. فإنني لن اكون مغاليا إذا ذهبت إلى وصفه وعن قناعة لا تحيد عن الحق ؛ بانه كان الوحيد الذي حقق حلم فرد مّا ، ملك مّا ، بأن يكون ملكا حقيقيا (وبرضى الطرفين) على كل أرض وادي النيل في سابقة لم تؤتى لأحــد مــن قبــلــه ولا تجـــــوز لأحـــــد مـــن بعــــده...... وعليه فإن على ترهاقا ان يفتخر بأنه الوحيد الذي يحق له أن يتسمى بملك السودان ومصر.......

أصل الملك ترهاقا
لا يتفق إثنان على شجرة عائلة هذا الملك أو على نطق إسمه فهل كان إسمه تيراقي ام تهراقا ام تهاركو ؟؟؟؟ .... ...... ويطلق عليه المصريون إسم ((ترهاق)) ... وكذلك وجد إسمه في السريانية ...
ولكن في إسم ترهاقا جرس موسيقي تحببه إلى اللسان ، بل ربما كان للإسم دور كبير في شهرته ومعرفة القاصي والداني له مقارنة بغيره.
ويقال انه كان قائدا عسكريا من قادة جيوش مملكة نبتة . لكن الأرجح أنه كان إلى جانب ذلك سليل نبلاء أو أميرا من أمراء جيوش مملكة نبتة حالة كونه لم يقـدح عليه أحد حقه في الجلوس على العرش.
وملخص الرواية أنه ، وبعد موت الملك بعنخي المفاجئ ، خلفه على الحكم الملك كاتشا الذي كان من عامة الشعب ولم تكن تجري في عروقه دماء زرقاء ، بل كانت جل مكانته الاجتماعية أنه متزوج من إبنة كاهن مصري الأصل كان مستشارا مقربا في بلاط بعنخي ..... ولأجل ذلك نرى الملك تفنخت في مصر ، سرعان ما يجد في ذلك مبررا لخلع عصا الطاعة الذي أقسمه أمام الملك بعنخي متعللا بأن كاتشا لا ينحدر من أصول ملكية.

إنقلاب تـرهـاقـا
وبعد موت الملك كاتشا تولى الحكم إبنه الملك ((شباكا)) وينطق أحيانا ((شباكون)) ثم خلفه بعد وفاته إبنه الملك ((شبتاكا)) وينطق احيانا كذلك ((شبيكون)) ...... وعلى الملك شبتاكا قاد الملك ترهاقا انقلابه العسكري الذي كان ((أحمر اللون)) بعض الشئ نتيجة قتله لسلفه الملك شبتاكا.
وعلى هذا النحو وصل ترهاقا إلى عرش مملكة نبتة.... وتربع فيما بعد على قلب أهل السودان ومصر وفلسطين على حد سواء ...... ويصنف ترهاقا من فئة الشخصيات الكارزمية التاريخية ربما لمواهبه العسكرية وديناميكيته وشجاعته وعدم اعترافه بالهزيمة وعلى نحو اهله للوقوف ندا قويا ، في مواجهة آشور بانيبال أشهر ملوك العالم القديم في زمانه ، والذي كان يقاتل وفق تحالفات معقدة المصالح بحيث شملت جيوشه كتائب عسكرية من نصف قارة آسيا تقريبا.

الفرق بين ترهاقا وشباكا
وللدلالة على ما ذهبت إليه فإنني أعقد هنا مقارنة بين ((شهرة ومكانة )) ملكين معاصرين لعهد واحد من ملوك نبتة ، وهما الملك ((شباكا)) والملك ((ترهاقا)) .. فالملك شباكا إبن الملك كاتشا هو أول ملك نبتي يجمع بين حكم السودان وحكم مصر حكما مباشرا ، بعد أن هزم الملك باكوريس إبن تفنخت إثر معركة مدينة ((تأنيس)) ، وقتله له ليؤسس بذلك الأسرة الخامسة والعشرين السودانية التي حكمت مصر مابين 715 و 664ق.م).
وقد قيل كثيرا عن أن بعنخي هو مؤسس الأسرة 25 ، ولكن ذلك يتناقض مع واقع ان بعنخي ترك مصر بعد ان استتب بها الأمن والاستقرار دون أن يحكمها حكما مباشرا.
وعلى الرغم من الإنجازات العظيمة التي حققها الملك شباكا للسودان ومصر في مجال الإصلاحات الاقتصادية والإدارية والقضائية وتعبيد الطرق وإنشاء السدود وضبط الأمن وترميم وبناء المعابد . وإعادته بعد ذلك نظام الحكم الولائي الذي كان قد أقره الملك بعنخي في مصر مع فارق بسيط في حالة شباكا ، وهي الحرص على تعيين أمراء من نبتة كمشرفين ومراقبين لأداء أمراء الولايات المصريين ثم تعيينه شقيقته آمن ريتس ملكة على الوجه القبلي ومقرها الأقصر ........ على الرغم من كل ذلك لا نجد له نفس الألق والبريق الذي تأتى لبعنخي او ترهاقا....... ولله في خلقه شؤون.

وبالطبع فإنني لا أقدح في عظمة ومقام الملك ترهاقا .. ولكن فقط يتملكني الحزن والأسى من خلو تاريخنا وذاكرة الوطن و المواطن المثقف بوجه خاص والعادي بنحو عام ... أن تخلو وتحرم نفسها .. من ذكرى ملك سوداني بحجم الملك شباكا والحفاوة به والفخر بإنجازاته ليـس إلا......

شباكا مؤسس الأسرة 25
وهناك من ذهب أكثر في تجاهله للملك شباكا فحرمه من حقه المعنوي في التأريخ له بأنه هو الذي أسس الأسرة السودانية الخامسة والعشرين التي حكمت مصر حكما مباشرا لمدة 51 عام تقريبا .....
وقد وجد إسم شباكا محفورا في حوائط الكرنك بمدينة الأقصر ، بوصفه فرعونا على مصر فرض الجزية على بلاد الشام ... وقد ذكر إسم الملك شباكا في كتب التوراة بإسم ((ســـوا)) ... بوصف أن أحد ملوكهم تحالف معه يوما ما.

أبحـث دائما عن الملك تفنخــت
كنت قد ذكرت من قبل أن اسباب تدخل الملك بعنخي في شئون مصر على نحو مباشر ، كان سببه القضاء على طموحات الملك تفنخت ملك الأشمونيين ، الذين استغلوا ضعف مصر وتضعضعها بعد غرق رمسيس الثاني (1279ق.م – 1212ق.م) ثالث ملوك الأسرة 19 على يد موسى عليه السلام ، وبرفقته جميع امراء العائلة الفرعونية الحاكمة وما يقارب 1,600,000 مقاتل حسب ما جاء في كتاب البداية والنهاية لإبن كثير ن وقد غرقوا جميعهم ... فدخل الأشمونيون مصر من ليبيا واستقروا في الواحة الداخلة ... وما فتئت طموحات الأشمونيين تكبر حتى استولوا على الوجه البحري لمصر باكمله، فنعموا بثروات الدلتا المتجددة وحيث كانت الزراعة هي مفتاح الاقتصاد في ذلك العصر .... ولكن بعنخي كان أكثر ذكاءا من أن يتورط في مشاكل مصر، فارتأى ترك حكمها لأهلها بعد تحجيمه لتفنخت وأخذ عهود الولاء منه ..... ولكن بعد وفاة الملك بعنخي وتولي الملك ((شبتاكا)) الحكم في مملكة نبتة ، شق تفنخت عصا الطاعة وغسل يديه من القسم الذي التزم به أمام بعنخي ، بحجة ان الملك كاتشا لم يكن سليل أسرة ملكية .... وعندما جاء الملك ((شباكا)) إلى الحكم ، كان عليه مواجهة باكوريس ابن تفنخت الذي نجح فيما كان والده تفنخت قد فشل في تحقيقه قبل وفاته ، فاحتل ((باكوريس)) مصر الوسطى والصعيد وجعل مصر بأجمعها تحت سلطته . فزحف إليه ((شباكا)) وقبض عليه وأعدمه ، واعاد أمور مصر إلى نصابها . ولكنه هذه الجولة لم يشأ ان يغادر مصر كما فعل سلفه الملك بعنخي ، بل ارتاى ان يضمها إلى عرشه فكان له ما اراد ،، وتأسست بذلك الأسرة 25 السودانية التي حكمت مصر ما بين عامي (715ق.م – 664ق.م).

 



غروب شمس الملك شباكا
امتدت تحالفات الملك شباكا إلى بلاد الشام ، فشملت فلسطين، التي كان يحكمها الملك اليهودي ((هوشع)) ، ثم لبنان الفينيقية وقتها حيث استنجد به هؤلاء لحمايتهم من بطش وجبروت وتسلط الآشوريين العراقيين عليهم .... فرضي الملك شباكا بالتحالف معهم على اساس من واقع أنه المتبوع وأنهم التابعين ، وفرض عليهم قدر معلوم من الجزية فوافقوا على ذلك ... ولكن هذا التحالف لم يستمر طويلا بعد ان التفت الآشوريون لخطورة مملكة نبتة على مصالحهم فتعرضت منطقة الشام لغزو آشوري جارف إندحر فيه اليهود من صافرة البداية وقلبوا لشباكا ظهر المجن كعادتهم ، فوجد الملك شباكا نفسه وحيدا مجبرا على مغادرة فلسطين ، والعودة إلى مصر وظلال الهزيمة تحيط بمستقبله السياسي ، وبالفعل استغل الوضع بعض ممن تحالف معه من القادة العسكريين المصريين من جنود الملك السابق ((باكوريس بن تفنخت)) ، فثاروا على الملك شباكا ...... فترك شباكا الوجه البحري لهم وعاد إلى جنوب مصر ثم ما لبث أن توفي عام 702ق.م بعد حكم دام 14 سنة .... وتولى الحكم بعده إبنه ((شبتاكا)) الذي أعاد سيطرة نبتة على أجزاء واسعة من أرض مصر ، ولكنه فوجئ بإنقلاب الأمير ترهاقا العسكري عليه عام 690ق.م لتدخل نبتة ومصر في صراعها مع الآشوريين عهدا جديدا تولى فيه ترهاقا القيادة بعد مناداته ملكا على السودان ومصر ....

هل كان ترهاقا من سلالة بعـنخي؟؟
هناك خلاف لن يتوقف حول شخصية ترهاقا تماما كما كان الخلاف حول إسمه مستعـرا .... وبسبب طول العهد والأمد ، وفي غياب المراجع التي جرى تدميرها دون قصد خلال السرقات التي تعرضت لها قبور ملوك نبتة بحثا عن الذهب والحلي والمجوهرات ، التي دفنت معهم ، ولأسباب تتعلق بطبيعة الطقس في السودان والإهمال المتعارف عليه ، وربما لأسباب اخرى أقدم بسببها البعض على سرقة مستندات معينة وترحيلها من السودان حيث جرى تدميرها لاحقا .... وعلى ضوء كل هذا ؛ يصعب التكهن بما إذا كان ((كاتشا)) ثم إبنه ((شباكا)) فإبنه ((شبتاكا)) ، ومن بعدهم ((ترهاقا)) ، هم من نسل أو عائلة بعنخي ..... لكن لا توجد سابقة تاريخية أو مبررات عقلانية تؤيد ان يورث إبن الأخ الملك إلى عمه ، ولو كان شقيق ابيه ويقدمه له على طبق من ذهب.
وربما كان ترهاقا من نسل بعنخي أو أخيه الأصغر من أم اخرى وعليه فقد جاء انقلابه على شبتاكا بمثابة ((ثورة تصحيحية)) أعادت نظام الحكم إلى نسل بعنخي .... أو ربما كان ترهاقا لا يمت إلى بعنخي باية صلة قرابة او نسب وجاء انقلابه بسبب تذمر الجيش من تدني أوضاعه في مصر ... فجميع الاحتمالات مفتوحة.
ويبدو من خلال الملابسات التي جرى ((سردها)) دون تمحيص أو تحليل دقيق ، أن أسباب انقلاب ترهاقا كان مرتبطا على نحو ما بأحوال وأوضاع جيوش نبتة في الوجه البحري .... فالتاريخ يقول أن شبتاكا اخضع مصر بأكملها لحكم نبتة ... ثم يعود ليسرد أن ترهاقا وبعد إستيلائه على الحكم توجه مباشرة لسحق تمرد ((اسطيفانيس)) على الملك ((شبتاكا)) واحتلاله مدينة ((منف)) الاستراتيجية .....
ثم أن لقتل ترهاقا للملك شبتاكا إشارة إلى وجود أمر جلل لا يسرده التاريخ على نحو جلي أو قاتم ... ولكن المثير للإنتباه أن يتوجه ترهاقا بعد تنصيبه مباشرة لسحق جيوش اسطيفانيس المتحصنة داخل اسوار مدينة منف ، مما يدل على مدى الرضا العام في مؤسسة الكهنة والدولة والجيش والشارع ، الذي استقبل به انقلاب ترهاقا ، وبما يدل على ان ترهاقا لم يكن قائدا عسكريا مجهولا ... ولأجل ذلك لم ينتظر ترهاقا داخل دهاليز وخلف متاريس القصر ، ووسط كتيبته العسكرية خائفا يترقب ردود الفعل ، وينتظر حتى تستتب له الأمور ويستقـر نظام حكمه ، بل باشر الزحف لتأديب المرتد اسطيفانيس فورا.
إن آفة التاريخ هو اكتفاء البعض بكتابته سردا ، دون تحليل أوربط بين الأحداث حتى لو كانت بحجم راس الدبوس ، وأضيق من سمّ الخياط ...... بل ويفضل البعض روايته بإسلوب حبّوبات زمان وكأنه حكاوي وتحجية ممهدة للنوم الهادي ، عن فاطمة السمحة وأخيها تارة ، وإبن عمها تارة أخرى الفارس الشاطر حـســن ....



ترهــاقا ملكا ومحاربا
ما ان تولى ترهاقا مقاليد الحكم عام 690ق.م تقريبا حتى توجه إلى مدينة منف حيث انتزعها من يد اسطيفانيس وقضى بعد ذلك في زمن قياسي على جميع بؤر التمرد التي اشتعلت في مصر ابان حكم الملك شبتاكا .......
ولا يختلف إثنان على ان الملك ترهاقا استدعى والدته من نبتة إلى الأقصر حيث توجها حاكمة على الوجه البحري والقبلي ، وخلع عليها لقب ((سيدة الأمم)) ونقش إسمها على جدران معبد جبل البركل..... كما نقش إسم مصر كدولة خاضعة لملكه.
ولأسباب تتعلق بخشية الاشوريين من احتمال تمدد سلطة مملكة نبتة في الشام ، وعلى نحو يشكل تهديدا مباشرا للسلطة في مملكتهم او مصالحهم الاقتصادية والتجارية في هذه المنطقة الحساسة ... وحتى لا يعيد التاريخ نفسه حين تحالف ملك نبتة ((شباكا)) مع بعض ملوك الشام من قبل .... فقد كان لابد للصدام ان يسفر عن وجهه بين مملكة آشور ونبتة ، فتعرضت مصر لغزو آشوري بقيادة الملك ((أسرحدون)) ، أعاد بعده نظام الحكم في مصر على نحو النسق الذي أقره الملك بعنخي من قبل ، حيث كانت مصر مقسمة إلى 20 ولاية مستقلة على راس كل ولاية امير مصري ... أما ترهاقا فقد تقهقر تكتيكيا إلى نبتة وظل بها إلى عام 669ق.م وحين مرض الملك ((أسرحدون)) زحف ترهاقا على الحاميات الاشورية التي تركها اسرحدون في مصر وقضى عليها ، وأعاد بسط سلطته على مصر مرة ثانية .....
ولكن ما لبث ان مات اسرجدون او تنازل عن العرش لإبنه آشور بانيبال عام 669ق.م ، فجعل هذا اولى مهامه غزو مصر وإبعاد ترهاقا فكان له ما اراد بعد انتصاره في موقعة قرنبيت التي كانت عام 667ق.م ، فعاد ترهاقا إلى نبتة تاركا مصر لحكم الآشوريين حيث أعاد بانيبال تنظيمها بتعيين ولاة آشوريين عليها ، ثم عاد قافلا إلى عاصمته نينوى .....
ولكن آشور بانيبال كان قد ارتكب غلطة عمره في العاصمة الدينية ((طيبة)) حين ابطل عبادة آمون وغيره من الأوثان ، وجعل بدلا منهم إله الآشوريين العجل ((ابيس)) معبودا دون غيره ... فكان ذلك مدعاة لسخط الكهنة والمصريين بنحو عام .
ولأجل ذلك وقبل أن يلقي آشور بانيبال عصا الترحال ، ويطيب له المقام في قصره بنينوى ، إلا وكان ترهاقا قد زحف مرة أخرى إلى مصر فاسترجع طيبة إلى ملكه وابطل عبادة العجل ((أبيس)) ... ولكنه لم يستقر في ((طيبة)) بل عاد سريعا إلى عاصمته نبتة حيث توفى بها ودفن داخل هرمه المعروف في بمنطقة نوري ..... وقد تفاوتت التقديرات حول السنة التي توفي فيها فالبعض يقول عام 666ق.م وآخرون يقولون 669ق.م .... وكذلك اختلفوا في سنوات حكمه فبعضهم يقول أنها دامت 50 عام على نبتة منها 20 عاما على نبتة ومصر معا .. وبعض المراجع السودانية ترى أنه حكم خلال الفترة ما بين 690ق.م إلى 664ق.م ... اي 26 عاما فقط ....... ولا ننسى أن الاختلاف حول ترهاقا قد شمل كل شئ يخطر على البال حتى امتد إلى وجهه وملامحه ، فيراه السودانيون عامة والنوبة خاصة على درجة من الوسامة والملاحة ما تحسده عليه أحلى بنات خشم القربة ..... في حين يعرضه المصريون وأهل الشام ، وعلماء الاثار الأجانب على نحو ترتدي فيه تقاطيع وقسمات الزنوجة الأفريقية كامل وجهه ....... ولكنه رغم هذا وذاك فإن الذي يتفق عليه الجميع انه كان ملكا لن يطويه النسيان على مر العصور.

أما الحال في مصر بعد وفاة ترهاقا فإنها عادت بسرعة إلى حكم الاشوريين حيث جرى إعادة تقسيمها إلى عشرين ولاية ، وإعادة الحكم إلى امرائها العشرين على نفس النسق الذي تركها عليه بعنخي من قبل ، وأثبتت السنوات والأحداث فيما بعد انه النظام الأفضل لاستقرارها في ذلك الوقت على ان يكون ذلك مرهونا بعدم انفراد امير بقوة ومقدرات على نحو تجعله يشكل تهديدا لسلطات غيره من الأمراء في الولايات الأخرى ...... ثم تخلى عنها أشور بانيبال نهائيا بعد أن ذاق الأمرين في حربه مع جيوش نبتة ووجد في مواصلة مناوشاته معهم وصده لهجماتهم وبقاء حاله معهم بين كر وفر استنزافا لموارد مملكته وإلهاءا له عن مهامه الداخلية بالنظر إلى بعد مصر عن العراق ..... وسرعان ما عادت نبتة إلى السيطرة على مصر خلال عهد الملك ((تانوت أمن)) ، الذي حكم نبتة ما بين 664ق.م و 653ق.م تقريبا وكان الملك تانوت هو آخر ملوك نبتة الذين حكموا مصر وآخر ملوك الأسرة 25 فيها .....

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات