قيل الكثير عن الاعتبارات التي جعلت الولايات المتحدة تبذل كل جهد لإعادة التقارب في العلاقة بين الكيان الصهيوني وتركيا، وذلك انطلاقاً من تنامي حاجة الولايات المتحدة الى الدور التركي في المنطقة مع ضخامة الأحداث التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط يوماً بعد يوم. الإدراك الأمريكي لأهمية الحليف التركي فيما يتعلق بقضايا المنطقة وجد تعبيره بصورة جلية مع ولاية الرئيس أوباما الأولى حين ألقى خطاباً أمام البرلمان التركي، أمام التعقيدات التي تشهدها المنطقة، وسقوط حلفاء مركزيين للإدارة الأمريكية، وصعوبة السيطرة على الاحداث، وتنامي قوة التيارات الاسلامية، والدور المتنامي لتركيا في المنطقة؛ كل هذا عزز القناعة الأمريكية بمدى الحاجة إلى الدور التركي.
حكومة حزب الحرية والعدالة بجذورها الاسلامية تحظى بقبول كبير في المنطقة، يمكن أن يساعد في التأثير على كثير من القضايا الشائكة والحساسة، وقد ظهرت كتابات هامة في الولايات المتحدة تناولت الدور التركي المتنامي في قضايا المنطقة، وطالبت الادارة الامريكية بإفساح المجال للدبلوماسية التركية للعب دور في استقرار العراق ومحاصرة نفوذ ايران، وتقنين مساعيها في امتلاك التكنولوجيا النووية، ولعب دور في تسوية الصراع بين اسرائيل وكل من سوريا والفلسطينيين.
أنقرة كانت قد توسطت في عقد لقاءات سرية بين مسئولين اسرائيليين وسوريين، وقد أشرف الرئيس أردوغان بنفسه على نقل رسائل سرية بين الجانبين؛ بل ان رئيس وزراء الكيان الصهيوني ايهود أولمرت كان قد ذكر ان ساعات قليلة كانت تفصل اجتماعه المقرر مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، لكن أردوغان قام بإلغاء اللقاء احتجاجاً على قيام اسرائيل بمفاجأته وشن الهجوم البري على غزة في العام 2008.
وهذا يفسر الحرص الأمريكي على استثمار زيارة أوباما للكيان الصهيوني في الحصول على اعتذار اسرائيلي ظلت أنقرة تطالب به كشرط مسبق لإصلاح العلاقة بينهما.
الصحفي والمحلل في صحيفة "معاريف" أساف جبور يعقب على زيارة كيري الأخيرة الى المنطقة ضمن مساعيه لاستئناف مسيرة التسوية؛ والتي ابتدأها من تركيا، ويرى أن الولايات المتحدة تغازل تركيا وهي تشق طريقاً آمناً نحو مركز الساحة بعد تصدع دول كانت محورية في المنطقة، وتفكك أخرى، ويشير الكاتب الى تصريحات أردوغان بأن في نيته أن يقود تركيا الى موقع الوسيط الرئيس في نزاعات الشرق الأوسط.
وبحسب محلل "معاريف" ففور خروج وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لزيارة المنطقة، كتبت الناطقة بلسان الخارجية الامريكية فيكتوريا نولاند تقول: "لتركيا تأثير خاص على الفلسطينيين، فهي قادرة على تشجيع الفلسطينيين من كل الفصائل على قبول شروط الرباعية من أجل التقدم الى الأمام"، جاء هذا البيان كما يقول الصحفي الاسرائيلي أساف جبور استمراراً لسلسلة طويلة من الجهود الدبلوماسية من جانب الادارة في واشنطن بهدف احلال مصالحة اسرائيلية - تركية، وتجنيد تركيا في معركة استئناف المفاوضات. ويضيف الصحفي الاسرائيلي: "وفي اطار تلك الجهود استجاب أردوغان لطلب كيري تأجيل زيارته المخطط لها الى غزة، الزيارة التي كانت كفيلة بأن تؤدي الى أزمة أخرى في خطى التقارب المتردد بين أنقرة والقدس".
يتابع المحلل الاسرائيلي: "يعرف الأمريكيون بأن رؤيا "الدولتين" لأوباما توجد في خطر ملموس حين يكون قطاع غزة تحت سيطرة منظمة حماس، وفرص المصالحة بين ابو مازن وهنية أصبحت ضعيفة أكثر". ويواصل حديثه: "ومن تصريح الناطق بلسان الخارجية الامريكية يمكن أن نفهم بأنهم في واشنطن يؤمنون بأن تركيا من حقها أن تدير لعبة مزدوجة بسبب علاقاتها الوثيقة مع حماس؛ حيث انها في اطار العودة الى طاولة المفاوضات الاسرائيلية - الفلسطينية يمكن لأنقرة أن تسوغ المنظمة في حالة قبولها شروط الرباعية".
ويضيف: "النظر الى حماس كمنظمة ارهابية ضعف في الفترة الأخيرة، فالعديد من السياسيين في أوروبا يرون في اتفاق التهدئة بين حماس واسرائيل، وفي انتخاب خالد مشعل الذي يعتبر متصدراً للتيار البرغماتي في المنظمة؛ دليلاً على أن وجهة المنظمة هي نحو الاعتدال، والخطوة الأخيرة التي على حماس أن تنفذها كي تكمل عملية التسويغ الدولي هي قبول شروط الرباعية من قبل المنظمة، بما فيها أيضاً الاعتراف بوجود دولة اسرائيل".
صحيفة "هآرتس" تناولت أيضاً حاجة أمريكا الى الدور التركي؛ خاصة في ظل الصعوبات التي تواجهها في المنطقة، مما جعلها ترى في تركيا احتياطياً استراتيجياً يمكن الركون إليه ليشكل عامل استقرار وحاجة ملحة في الأزمات المعقدة وسقوط مصر، تونس، ليبيا، وسوريا؛ وهذا هو السبب للضغوط التي مارستها أمريكا على اسرائيل. لكن مع كل هذه الآمال التي تبنيها الادارة الأمريكية فإن الاسرائيليين يبدون خشية مما يسمونه المنحى الأصولي لحزب الحرية والعدالة، ويرون أن قفزة كيري ثمرة استنتاجات متسرعة، وأن ليس بوسع كيري أن يدخل تركيا بسهولة وبشكل فوري كوسيط للنزاع في الموضوع مع الفلسطينيين، وأن اسرائيل لن تسارع في وضع ثقتها بأردوغان بعد سيل التصريحات الشديدة ضد اسرائيل، فالعلاقات بين اسرائيل وتركيا - كما تنقل "معاريف" عن مدير عام سابق في وزارة الخارجية - هي مبنى محطم وينبغي اعادة بناءها لبنة إثر لبنة، الى أن تقف حيطان مستقرة كي يتم اشراك وادخال تركيا في التسويات السياسية.
منذ فوز الحرية والعدالة ومعالم دور جديد يتشكل لتركيا بجهود وعزيمة حزب الحرية والعدالة بقيادة رجب طيب أردوغان، ومن المهم لتركيا والمفرح للمنطقة والشعوب العربية والاسلامية أن تتحول تركيا الى قوة اقليمية تساهم في نهوض العالم الاسلامي، والتعامل مع القوى الخارجية على أساس المصالح المشروعة، لكن اذا أراد الأمريكيون لتركيا أن تقوم بدور ما في المنطقة فان الاستجابة التركية يجب أن تظل مقترنة بالحرص الشديد على هدف تحرير فلسطين، واستعادة الحقوق الفلسطينية، والحذر الشديد من الاسهام في تحقيق الرؤية الاسرائيلية.
|
التعليقات (0)