بقلم: ممدوح الشيخ
يبدو موضوع انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي مسلسلا طويلا من التسويف اللانهائي من جانب فرنسا وألمانيا اللتين تقودان – متحالفتين – القاطرة الأوروبية، لكن تحولات مهمة طرأت على العلاقة بين الطرفين عكسها الموقف التركي في قمة الأطلسي الأخيرة عندما استخدمت أنقرة الفيتو على تعيين رئيس الوزراء الدنمركي اندريس فوغ راسموسين أمينا عاما للحلف، وبخاصة أنه كان مرشح الحلف الفرنسي الألماني.
اعتراض تركيا الذي جاء على خلفية موقف المسئول الدانماركي في أزمة الرسوم المسيئة كانت له دلالات وذيول، فقد أكد الرئيس التركي عبد الله جول أن انتقاد تركيا بسبب هذا الموقف "خطر كبير"، فهذه الانتقادات "خطيرة ومزعجة للغاية". وبعض المسئولين الأوربيين – في المقابل – أعربوا عن إحساسهم بـ "الصدمة"!
فتركيا المقبولة "أطلسيا" ما زالت مرفوضة أوربيا وموقفها الأخير أيقظ كل المخاوف التي نجحت "الكمالية" في حجبها لفترة بل أعادها إلى الواجهة، فالهوية الدينية لتركيا تكتسب باستمرار تأثيرا متزايدا في سياساتها الخارجية، والانسحاب – شبه المفاجئ – لكل القوى العلمانية التركية إلى الظل والصعود الكبير للإسلاميين، كلاهما يقلق رعاة المشروع الأوربي الذين خاضوا صراعا داخل أوروبا لتأكيد الطبيعة العلمانية الصارمة للاتحاد خلال معركة صياغة دستوره، يجدون أنفسهم الآن أمام مخاطر أن يعود "شبح الدين" من تركيا التي يراها العلمانيون منهم "حصان طروادة"، بينما تراها القوى ذات المرجعية الدينية عودة للتهديد "العثماني".
وفي تصعيد جديد توقف الأتراك عن اللهاث باتجاه التغيير لاستكمال ما يعتبره الأوروبيون "معايير"، وبدأوا في طرح تصور جديد للهوية الأوروبية تجعل انضمام تركيا للعائلة ممكنا في رسالة مفادها: "تغيرنا بما يكفي وآن الآوان لأن نغير الآخرين".
ومن بين أوراق الضغط المهمة بيد تركيا المطالبة الأميركية المتكررة بقبولها عضوا في الاتحاد، وتصريح أوباما الأخير بهذا الشأن كان موضوع تنديد أوروبي بوصفه تدخلا، لكن تركيا تبدو كما لو كانت أكثر إحساسا بثقتها في قدرتها على "تغيير" أوربا بعد مشوار طويل من التغير لأجل دخول النادي الأوروبي. فمنذ بدء المفاوضات تم إلغاء عقوبة الإعدام وإطلاق سراح السجناء السياسيين وإلغاء التعذيب على أيدي قوات الأمن، وتعزيز حرية الصحافة، والحد من رقابة الجيش وتأثيره السياسي، وكذلك تم تطبيق القوانين المدنية على الأقليات المعترف بها رسميا، كالأرمن واليهود واليونانيين.
ومن الأدبيات المهمة التي تعبر عن التحول في الاستراتيجية التركية دراسة لأيهان كايا، أستاذ العلوم السياسية، مدير المعهد الأوروبي بجامعة بلجي في اسطنبول. وحسب كايا كان انفتاح الآفاق الجديدة أمام تركيا لتصبح عضوا في الاتحاد الأوروبي يعتبر في الوقت نفسه أملا في أن تصبح أحد عوامل الاستقرار المهمة في الشرق الأوسط. والاتحاد الأوروبي أصبح بالنسبة لتركيا كالفنار الذي يهديها إلى طريق "الدّمقرطة" و"اللّبْرلة" و"الأَوْربة".
لكن دول الاتحاد الأوروبي على يقين بأن انضمام تركيا للاتحاد سيزيد النقاش حدة حول الهوية الأوروبية. والمثير في دراسة كايا أنه يعتبر الطريقة التي اتبعها صمويل هانتنجتون ونيكولا ساركوزي وأنجيلا ميركل لا تختلف كثيرا عن تلك التي اتبعها أردوغان أو ثباتيرو، إذ أنهم جميعا يرون العالم بعدسة الدين. والبلاغة التي تكمن في المصطلح الغربي لـ "تحالف الحضارات" أدت إلى سيادة الرؤية التي تجبر الأوروبيين على فهم غير الأوروبيين في منظومة ذات علاقة بالدين والثقافة والحضارة. هذه البلاغة أدت في الآونة الأخيرة إلى إزعاج بعض الشخصيات البارزة من الساسة الأتراك ورجال القضاء، وبدأ كل منهم يتساءل: "في السابق كنت أعتقد أن تركيا جزء من الحضارة الأوروبية، متى تغير ذلك؟ ومتى أصبحنا ممثلي الحضارة الإسلامية"؟
وعلى ما يبدو فإن الإمكانية الوحيدة لمراجعة العلاقة بين الجانبين تكمن في العزوف عن سيطرة الجدل الثقافي والحضاري والديني الذي مهد الطريق إلى الخلافات القومية والدينية والإقليمية داخل الاتحاد الأوروبي وتركيا على السواء. ويجب تذكير الرأي العام الأوروبي أن الاتحاد ما هو إلا مشروع اندماج وهذا لن ينجح إلا عن طريق بناء قارة أوروبية تتعدى كونها قومية أو غربية حدودها تخضع لتأثيرات مستمرة وتتجاوز المعالم الحضارية الرجعية والثقافية والدينية، الشيء الذي يُعد مشروع الاتحاد الأوروبي الجوهري. إنه اتحاد أوروبي يتعدى الحضارات والثقافات والانتماء الديني ويتطلع نحو المستقبل. وهذا النوع من التعريف السياسي لأوروبا التي تخضع لمنطق التطور والتوسع هو بعينه ما يحتاجه الاتحاد الأوروبي كي يتغلب على المشاكل المستمرة في بِنْيته.
ولعل مما ساهم في هذا الطموح التركي إلى "تغيير" الاتحاد الأوربي أن الرفض الأوروبي لانضمامها بدأ يتصدع ويفقد صفته الإجماعية، فبينما تراوح الموقف السائد بين رفض الطلب التركي وانتقاد المطالبة الأميركية بقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي، بدأ يظهر موقف داعم لانضمامها، فقد أعلنت تشيكيا دعمها انضمام تركيا للاتحاد وأفاد وزير خارجيتها كارل شفاسنبرغ أن بلاده لا تشاطر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي رأيه وقال" نحن كجمهورية التشيك ندعم بشكل رسمي عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي".
والسؤال: بعد أن تخلص "العثمانيون الجدد" من كابوس الانقلابات وتهديد القوميين المتطرفين، هل يستطيعون عكس مسار التدفق مع الأوروبيين؟
التعليقات (0)