تركيا.. إلى الشرق مجدداً
بلال الشوبكي
ظهر ذاك اليوم الهادئ، قبل أيام عشر، حيث الطلبة منهمكون في الاختبارات النهائية، كانت قاعة اجتماعات جامعة أنترابنغسا الماليزية تكسر معادلة الصمت. صحفيون وأساتذة وطلبة وسياسيون، ضحكاتهم كانت تعبر عن خفّة ظل الضيف المتحدث. البروفيسور أحمد داوود أوغلو وزير خارجية تركيا هو ذاك الضيف الذي امتلأت قبل وصوله القاعة على غير المعتاد. بدأ حديثه ممازحاً زملاءه السابقين في قسم العلوم السياسية بأن أبرز التغييرات التي طرأت على حياته حين ارتدى زيّ الدبلوماسية، أنه بات يقضي معظم يومه على موائد الطعام.
الحضور يتهيأ لخطاب الوزير، يتكهّن، يتجادل، يتراهن، بأن الوزير سيتحدث عن العلاقات التركية الماليزية، أو عن الموقف التركي من قضايا دولية شائكة، ستكون فلسطين والعراق وأفغانستان إطارها. لكن الضيف كان أذكى من أن يزجّ بخطاب تقليدي في وسط أكاديمي داخل بلد ليست السياسة محور حديثه المفضّل. اختار أن تكون محاضرته بالمجمل عن نوادر وطرائف منصب وزير الخارجية التي بدأ بسردها بإتقان.
بحديثه عن نوادر وطرائف تجربته الحديثة، كان أوغلو ينتشلنا من دولة ليضعنا في أخرى، وبين ابتسامات وضحكات الحضور كان الوزير يدشّن بمهارة جسراً يوصل من خلاله ما تريده الجمهورية التركية، وهذا ما أدركته لاحقاً. ففي كل قصة طريفة سردها، كان يخبرنا عن دور تركيا وسياستها واستراتيجيتها. أما فور انتهاء اللقاء، فلم أر ما قاله الوزير سوى جزء من حملة علاقات عامة اعتيادية بين الدول. مساء ذات اليوم، أتفحص بريدي الالكتروني؛ وإذ برسالة من أستاذ الدراسات الاستراتيجية في جامعة مالايا يطلب بعض الوثائق المتصلة بالشأن الفلسطيني، لأن نقاشاً سيتم بينه وبين ذات الوزير حول تطورات الوضع الفلسطيني. كانت رسالته تعلو رسالة صديق تركي مذكراً إيّاي بموعد محاضرة وزير خارجيتهم، ولافتاً انتباهي أنه يراسلني من سوريا، فقد بات بالإمكان أن يزور سوريا دون حاجة لتأشيرة دخول.
الأحداث والمعلومات الجزئية بدأت تتشابك، وتتداخل، زيارات متتابعة يقودها أوغلو إلى أفريقيا وآسيا وأوروبا والأمريكيتين –هذا ما ظهر من طرائفه-، يناقش القضية الفلسطينية في كوالالمبور، يسبقها باتفاق إلغاء التأشيرات بين سوريا وبلاده، لتعلن الأردن لاحقاً أنه ومنذ بداية العام القادم ستصبح تأشيرة الدخول بين تركيا والأردن سطراً في صفحات كتب التاريخ. أردوغان يصرخ في وجه بيرس قبل أشهر، برلمانيون أتراك في قلب غزة، وعلاقات متينة مع أميركا والعرب والغرب.
الصورة إلى الآن مشوشة، هل ما نراه من تركيا مجرد سياسات تقليدية؟ أم هو تعبير عن نهج استراتيجي جديد؟ حتى تتسنى الإجابة، وتصبح معالجة دوافع هذه الأنشطة السياسية على الصعيد الخارجي متاحة، فإن المشهد بحاجة إلى إخراج وترتيب جديدين. باقتضاب، يمكن تلخيص آخر أبرز التطورات التي شهدتها تركيا في الآتي:
- الإتحاد الأوروبي يرفض –بدبلوماسية- احتضان تركيا كجزء منه حتى اللحظة.
- العدالة والتنمية ذو الجذور الاسلامية يتقدم لسدة الحكم.
- تركيا بقيادة غول وأردوغان أضحت رقما صعبا في المعادلة الإقليمية.
- علاقة تركيا المتينة مع الغرب لم تهتز.
- القيادة التركية الجديدة أصبحت قيادات فوق قومية، فقد تحول أردوغان إلى بطل حين انسحب من دافوس.
- تنمية وتطوير العلاقات العربية التركية، وصل حداً تجاوز بعض العلاقات البينية العربية.
- تركيا تمارس أنشطة في كثير من البلدان الاسلامية في أفريقيا وآسيا.
- تتابع عن كثب وضع الأقليات المسلمة في العالم.
- إلى جانب كل هذا التطور على الصعيد الخارجي، فقد قامت بخطوات واسعة في طريق التهدئة مع حزب العمال الكردستاني، تنبئ بأن الأولوية الآن هي للخارج.
"تركيا لم تعد بلد رد الفعل"
النقاط سالفة الذكر، تشي بأن في جعبة تركيا الكثير، وأن أقل ما يمكن قراءته في هذه التطورات أن تركيا لم تعد ترتضي لنفسها دور الوسيط في العلاقات الدولية، وبدأت بخلق دور ريادي مبادر. الوزير أوغلو لم يترك الأمر للظّنون، فقد صرح بشكل واضح قبل أشهر، حين تولى منصب وزير الخارجية التركية، أن تركيا "لم تعد بلد رد الفعل"، وأن دورها سيتطور إلى حد صياغة شكل النظام القائم في المنطقة، مؤكداً على أن الدور الجديد هو الاستباق والتدخل، لا الانتظار ورد الفعل. في هذا التحليل، سنحاول الوقوف على أبرز خلفيات النهج التركي الجديد.
الاتحاد الأوروبي نادٍ مسيحي
شيئاً فشيئاً، بدأت احتمالية رفع العلم التركي على مبنى المفوضية الأوروبية في بروكسيل تتضاءل، وترسخ المطلب القائل بأن الاتحاد الأوروبي يجب أن يبقى نادياً مسيحياً فقط. شروط مستمرة لفتح ملف الانضمام، والتردد الأوروبي ما زال قائماً، رافقه إدراك تركي أن التركيز على فكرة الانضمام وإهمال البدائل الأخرى ليس بالعمل السديد. ربما يكرر الساسة الأتراك ذكر طموحهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي، حتى ذوي الجذور الإسلامية منهم، إلا أن استقراء المتغيرات في السياسة التركية، تفيد بأن تركيا أصبحت تعمل على بديل آخر، لن تسعى بالانضمام إليه كما هو الحال في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، وإنما بدأت بخلقه لتكون صاحبة القول الفصل في هذا الإطار الجديد القديم. البديل هو التوجه لإعادة تشكيل المشرق، وهو ما اقتضى منها حملة من الجهد الدبلوماسي المنظم، المترافق مع مشاريع مدروسة لإحلال نسق جديد في الإقليم، مفتاحه تركيا.
الشرق الأوسط طغى على عروبة الإقليم
حتى تصبح درجة تباين الصورة السابقة متّزنة، لا بد من استحضار مصطلح الشرق الأوسط، مع تهميش الجدل الدائر حول صوابيته. لم يعد الحديث عن العروبة مستساغاً في ظل الإنشطارات القطرية، فالوحدة المطلوبة أضحت وطنية بعد أن كانت قومية. العالم بدأ يتشكل بملامح جديدة غدت فيه إيران وتركيا وإسرائيل والدول العربية في نفس البوتقة، وهذا ما أسموه بالشرق الأوسط الجديد، هي فكرة بيرس سابقاً، أرادها أن تكون بديلاً عن أي فكرة تجمُّع تستثني إسرائيل. العناصر المكوّنة للإطار المستحدث، متباينة في قواها، ففيها غثاء كغثاء السيل، وفيها إيران وتركيا وإسرائيل. ثلاثة قوى في الإقليم مرشحة لقيادته، بحث سريع عن عنوان العلاقة بين أي منها و الدول العربية، يوصلنا لاستنتاج مؤداه أن سعي تركيا نحو قمرة القيادة مبرر، في ظل استمرارية اعتبار اسرائيل عضو غير متوافق مع الجسد العربي العليل، وفي ظل العزف المنفّر على وتر المذاهب،- إيران من تتأثر هنا سلباً - ليبقى أن تركيا تمتلك الفرصة الأقوى للقيادة دون اعتراض المعظم.
تخوفات العرب
العامل المطروح سابقاً، من كون الإطار المحدد للإقليم أصبح يتسع لدور أقوى لتركيا، يغذّيه التخوف العربي من النفوذ الإيراني، والقوة المثار حولها الجدل في العالم الآن. نووي إيران يراه الخليج تهديداً عسكرياً، وعلاقاتها المميزة مع سوريا وقوى متمكّنة في لبنان والعراق تراها الأردن والسعودية والسلطة الفلسطينية رسماً لهلال شيعي كما أسماه العاهل الأردني عبد الله الثاني، ومصر تبدي امتعاضها من نشاط إيراني لنشر المذهب الشيعي في أفريقيا. العرب يظهرون بشكل علني ذعرهم من إيران، معززين ذلك بحملة إعلامية أدخلت الشارع العربي في هذه الحلبة من الصراع المذهبي، وفي ذات الوقت؛ لا يشكلون أدنى منافسة لإيران، ليصبح التوجه نحو الاستقواء بتركيا كدولة سنًية أمراً ليس بالمستبعد، بعد أن كانت تركيا مصدر تخوف العرب حين كان التتريك يماثل التشييع!
شبكة علاقات متوازنة
ما يدفع بتركيا نحو موقع مميز في الإقليم، أن هذه الدولة التي تجمع المتناقضات في شوارعها، تجمع بيدها أيضاً خيوطاً متصلة بالمتناقضات من الدول والمنظمات. وفقاً لما أؤمن به؛ فإن ارتباط عنصر ما بمجموعة من العناصر المتناقضة، سواء كانت العناصر أفراداً أم منظمات أم دول، يعود لواحدة من اثنتين؛ فإما أن يكون العنصر قيد الملاحظة ضعيفاً، وبالتالي هو من يستجدي إقامة علاقة مع الجميع، بحيث يكون مضطراً لذلك، وإما أن يكون قوياً، وبالتالي فإن من مصلحة جميع العناصر الحفاظ على علاقة جيدة معه، بحيث تكون مضطرة لذلك. العنصر التركي يتمتع بقوة جعلت من العناصر المتناقضة في المنتظم الدولي تحفظ وده. شبكة علاقات تركيا المتوازنة مع كل من أوروبا وأميركا ودول شرق آسيا والدول العربية بأنظمتها الحاكمة وحركاتها وأحزابها المعارضة، وإسرائيل وإيران، محاكة بإتقان يلبس تركيا زي القيادة في الإقليم. استدراكاً لما قد يطرحه البعض من أن تركيا تقع في خانة الضعفاء من العناصر، وبالتالي هي من تستجد هذه العلاقات، لنا في موقف تركيا من الحرب على العراق والحرب على غزة نموذج مدلل على أن العلاقة مع إسرائيل وأميركا خلفياتها القوة لا الضعف.
أحفاد العثمانيين
المطروح أعلاه يمثل جملة الظروف المساعدة لسعي تركيا أن تكون مركز القرار الإقليمي، لكن تلك الظروف لا تعطي دلالة قاطعة حول ماهية العامل المستتر خلف استغلال تلك الظروف لقيادة المنطقة كما أزعم. فهل هو السعي لتحقيق أكبر مصلحة ممكنة بالمفهوم الاستراتيجي؟ أم هو السعي الجديد نحو القديم، انطلاقاً من وجود العدالة والتنمية في الحكم؟ الإشارات على الأرض تقول أنها مصالح تركيا دون أي بعد أيدولوجي، خاصة في ظل المحافظة على علاقات مع من لا يتواءمون مع أي طرح أيدولوجي إسلامي. أما الإشارات التي ظهرت في آخر التصريحات وأشهرها حين قال أردوغان بملء الفيه في خطابه تحت قبة البرلمان التركي: نحن أحفاد العثمانيين، تشير إلى أن الرجل لم يفقد اتصاله بالتاريخ.
• كاتب ومحلل سياسي فلسطيني، ماليزيا.
اسلام أونلاين 19-11-2009
التعليقات (0)