مع اقتراب موعد الكشف عن مسودة الدستور المرتقب، بدأ النقاش الدستوري يعود إلى الواجهة من جديد بعدما أخذت حركة 20 فبراير الحيز الأكبر من التناول الإعلامي خلال الأشهر الأخيرة. و يستأثر موضوع دسترة الأمازيغية بحضور خاص من خلال الجدل القائم بين تياري " الأمازيغية الوطنية " و " الأمازيغية الرسمية ".
قبل خطاب 09 مارس الذي رسم خارطة الطريق للتعديل الدستوري، كانت الحركة الأمازيغية قد قطعت شوطا كبيرا في نضالاتها من أجل الإقرار بالهوية الأمازيغية للمغرب. حينها كان موضوع الخلاف بين المهتمين بهذا الشأن، يتجلى في سؤال دسترة الأمازيغية. فقد ظلت قوى التعريب تفرض اختياراتها دائما، وتعمل بكل قوة على إماتة الأمازيغية، و وضعها كديكور خلفي للاستهلاك الفولكلوري الفرجوي في أحسن الحالات، غير أن الخطاب الملكي تقدم بالنقاش إلى مستوى جديد. فلم يعد الأمر يتعلق الآن بدسترة الأمازيغية من عدمها، بل أصبح يتعلق بطبيعة حضورها في هذا الدستور. و هذا يعني أن الملك قد سحب البساط تحت أقدام قوى الممانعة التي أصبحت في موقف حرج. و هكذا تسارع كل المنافحين عن المشروع التعريبي إلى الترحيب بالمبادرة الملكية، لكن استراتيجية الموقف العدائي من الأمازيغية لم تتغير. و بما أن سؤال الدسترة قد أصبح متجاوزا، فإن حائط الدفاع الأخير الذي يستند إليه الأمازيغوفوبيون هو رفض ترسيم الأمازيغية، و اعتبارها لغة وطنية فقط. و ذلك من منطلق الحفاظ على الوحدة الوطنية التي لا يمكن أن تتحقق في عرف هؤلاء إلا من خلال لغة رسمية واحدة هي العربية طبعا.
و كما هي العادة دائما، تحضر الأمازيغية كموضوع يجمع مواقف مختلف الإيديولوجيات و القناعات الفكرية و السياسية في المغرب. فعلى الرغم من الحديث عن ضرورة الحفاظ على الموروث الأمازيغي للمغرب و الإشارة إلى تنوع مكونات الشخصية المغربية و روافدها، فإن أغلب التوجهات المعلنة بين الإسلاميين و اليساريين و الليبراليين على السواء تنظر إلى الأمازيغية بانتقاص شديد يتخفى وراء تبريرات واهية تستند إلى تأويلات مختلفة، لكنها تصب جميعها في الولاء للعروبة كانتماء هوياتي و للعربية كلغة يضفي عليها الكثيرون صفة القدسية لأنها لغة الدين. و الحال أن العربية مثل كل لغات العالم ليست سوى وسيلة للتواصل بغض النظر عن الوظائف الأخرى التي تقوم بها، والتي لا يتسع المقام هنا لتحليلها. و إذا كان هذا الربط المباشر بين اللغة العربية و الدين الإسلامي يجد حضورا قويا في مرجعية الخطاب الفكري للإسلاميين الذين يوظفون الإيمان الروحي للمغاربة من أجل المحافظة على " بطريركية " لغة الضاد و الإلقاء بالأمازيغية إلى غياهب النسيان، بل و تجريم الفاعلين في الحركة الأمازيغية و اتهامهم بالعمالة و الصهيونية و غيرها من الأوصاف الجاهزة، فإن النقاش الدستوري قد أفرز تبريرا جديدا لرفض ترسيم الأمازيغية من منطلق قانوني هذه المرة. و الواقع أن كل المعترضين على هذا المطلب يستندون إلى مجموعة من المعطيات يمكن إجمالها في ما يلي:
_ تعدد اللهجات الأمازيغية و عدم توفر لغة معيارية واحدة تجمع الشتات الذي أفرزته هذه التعددية اللسانية.
_ غياب أية إمكانية لجعل الأمازيغية لغة للتواصل و الانفتاح على العالم.
_ في أغلب دساتير الدول لا يتم الإقرار إلا بلغة رسمية واحدة.
_ ترسيم الأمازيغية يتطلب اعتمادات مالية كبيرة و تشريعات قانونية تحتاج إلى الكثير من الجهد و الوقت.
هذه المعطيات التي تقدم نفسها كعوائق موضوعية أمام ترسيم الأمازيغية يراد بها إجهاض المطلب الأمازيغي المشروع، لأن الحديث عن غياب لغة معيارية لا يطرح بالصيغة الحقيقية، فالأمازيغية كانت حتى وقت قريب من الممنوعات. و كانت كتابة تيفناغ جريمة يعاقب عليها القانون. فكيف يمكن في هذا الوضع أن نطالب بلغة معيارية تجمع الشتات اللساني المترتب عن تعدد اللهجات؟. لذلك فإن مسألة المعيارية لم تكن لتطرح في ظل واقع يحاصر الأمازيغية و يصادرها. أما الآن فقد أصبح هذا التحدي أمرا ضروريا، لكنه يتطلب الوقت بالتأكيد. أما قصة التواصل مع المحيط الدولي فليس لها أي سند في الواقع. و إلا فكيف استطاعت دول مثل : اليابان و كوريا و ماليزيا و هولندا و النرويج و السويد و غيرها... أن تتواصل مع هذا العالم؟. ففي دساتير كل هذه الدول ترسيم للغات المحلية التي ليس لها أي إشعاع خارجي، لكن ذلك لم يمنعها من فرض اسمها على مستويات مختلفة. و بخصوص القاعدة التي تنص على ترسيم لغة واحدة كما هو الحال في أغلب دول العالم، فإنه ليس من الصعب أن نجد نماذج متقدمة تكذب ذلك. و لنا في سويسرا و بلجيكا مثالين معروفين، حيث ينص الدستور في البلدين على رسمية الفرنسية و الإيطالية و الألمانية بالنسبة لسويسرا، والهولندية و الفرنسية والألمانية بالنسبة لبلجيكا. و ذلك استنادا إلى واقع التعددية اللغوية الذي يعرفه البلدان... أما المبرر الذي يتحدث عن ضخامة المتطلبات المالية و التشريعية التي ستترتب عن ترسيم الأمازيغية، فهو لا يستحق النقاش، لأن مسؤولية الدولة تفرض عليها أن تنهض بهذا الورش بما يحقق التفعيل الواقعي لمقتضيات الدستور في حالة إقرار ترسيم الأمازيغية. و لا يمكن بأي حال من الأحوال القبول بمثل هذه المبررات التي لا تعبر إلا عن الإصرار على تهميش الأمازيغية و إضعافها في استمرار للنهج العروبي الذي تحكم في سياسات الدولة منذ الاستقلال.
إن المواقف المتتالية الرافضة لترسيم الأمازيغية و التي تتحدث بدل ذلك عن جعلها لغة " وطنية"،لا تتأسس على أي تحليل علمي دقيق، بل تستند إلى خلفيات معادية للهوية الأمازيغية بغض النظر عن الأطراف التي تدلو بدلوها في هذا الموضوع. ذلك أن ترسيم الأمازيغية يعني إقرارا فعليا بهوية المغرب التاريخية. و ذلك ما لا يستسيغه أوصياء المشروع التعريبي في بلدنا الذين لا يجدون أي حرج في التأليب ضد الأمازيغية بمناسبة أوبدونها. و من أجل ذلك فهم يدقون " ناقوس الخطر "، لأنهم يقرأون في ترسيمها نوعا من الإبتعاد عن حضن العروبة. و ربما بلغ الخوف ببعضهم من هذا المارد درجة قد تجعلهم يقترحون ترسيم الأمازيغوفوبيا بدل ترسيم الأمازيغية في الدستور المرتقب. محمد مغوتي.03/06/2011.
التعليقات (0)