ترجمة جدي الشيخ عبد الفتاح السُّكرُمي
(1930 - 2010م)
هو الشيخ عبد الفتاح بن سليمان بن محمد السُّكرُمي، ولد في قرية سمادون التابعة لمركز أشمون التابع لمحافظة المنوفية بجمهورية مصر العربية، عام 1930م، حفظ القرآن في صغره، واشتغل في تحفيظه وتعليمه بالأزهر وفي مكتبه الذي تخرَّج منه حفاظ كثر انتشروا في البلاد. وهو جدي لأبي، فأنا عبد الله بن سليمان بن عبد الفتاح السكرمي. وهذه سطور أعرفك أيها القارئ بهذا الشيخ العلَم رحمه الله، فأقول:
لقد فتحت عيناي في هذه الدنيا، لأجد أمامي شيخاً وقوراً يشرق وجهه بنور الإيمان, شيخاً كبيراً في السن، قدَّر الله أن يكون في مشيته عرج بسبب تعب أصاب ظهره, وكانت عصاه التي يتوكأ عليها لا تفارقه، وكان يستند مع عصاه على كتفي، وكنتُ مرافقا له في كل مكان، وكان دائم الجلوس ما بين العصر إلى العشاء في المسجد، يُحفظني بين العصر والمغرب القرآن، ثم أنصرف بشيء من المال لأشتري العشاء وأذهب به إلى جدتي، ويظل هو في المسجد حتى يصلي العشاء ثم يعود.
عاش جدي طوال عمره، متواضعا بسيطا في ملبسه ومسكنه وحياته جميعا، لم يكن يملك الملايين ولا يحوي منزله الغرف الفاخرات، ولا يحوي دولابه الملابس الفارهات، بل كان حتى بعد أن فتح الله عليه ورزقه بسيط اللباس، وكان إذا جاءه ثوب جديد تصدق فورا بالقديم، فلم يكن يجمع ثوبا على ثوب، أو يكنز ثوبا لا يلبسه.
كان جدي مضيافا، صاحب كرم وحب للضيفان، وكان يحب الناس جميعا، ولم أتذكر أبدا أنه كان يحمل في قلبه حقدا على أحد، أو تغيَّر وجهه في وجه أحد، وكان الناس جميعا يقابلونه بنفس الشعور، فقليل من يجمع الناس على حبهم، وأظن أن جدي من هؤلاء القليل.
كان رحمه الله رجلا يحب المزاح، قوي الذاكرة يحفظ الكثير من القصص، ناهيك عن ما مر به في حياته من معاناة ومواقف وأحداث، والتي كان يحيي بها مجالسنا, فقد كان بالفعل نعم الأنيس ونعم المُجالس.
وكان دائم الصلة لرحمه، من أخته وابنته، وبنات إخوته، وكنتُ أذهب معه حيث يذهب، فقد كنتُ كعصا ثانية له، حتى أقعده الكبر في البيت، فصار يُزار ولا يزور، ويُؤتى ولا يأتي، وكان يحثنا على التزاور.
وكان جدي رحمه الله يمتاز بميزة قلما توجد في يومنا هذا، فقد كان محبا لجيرانه، كثير التودد لهم، والسؤال عنهم, ولا يمكن أن يكون عنده مناسبة إلا ويدعوهم حتى لو كانت مناسبة خاصة أو مختصرة, هذا هو جدي, ولا يرضى بأن يؤذَى جيرانه أبدا, وأذكر أنه لما أراد شراء الأرض التي بنى عليها البيت الذي مات فيه، فرح صاحب البيت به، وأسرع في كتابة العقد، مع أنه قد كان هناك من يريد أن يشتريها بسعر أعلى، وقال له: لا نبيع أرضا، وإنما نشتري جوارا. وهذا ما حكاه لي جدي.
وكان جدي صافي العقيدة، وكان للقرآن أثره في ذلك، فقد كان حافظا ومتقنا لكتاب الله، واختلط كتاب الله بلحمه ودمه، حتى أنه كان إذا تحدث تجد أكثر حديثه من القرآن، وكانت دروسه وخطبه كذلك، وكان يفسر القرآن بالقرآن.
وكان كذلك محفِّظا للقرآن، وما يوجد في القرية محفظ، إلا حفظ على يديه أو على يد من حفظ عليه، فضلا عن من حفظ ولم يحفظ، وانتشر تلاميذه في البلاد، داخل مصر وخارجها.
لقد شغِل جدي بالقرآن فكان بعيدا عن كدر الأهواء والشبهات التي تهدم العقيدة، فكان مؤمنا بقول الله: { فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} وقوله تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}، وقوله سبحانه:{ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}، فكان همه أن يكون متبعا لرسوله، سائرا على سبيل المؤمنين، وحسبك دليلا، أنه ما ترك قيام الليل منذ كان شابا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم" ونحسبه منهم.
كان رحمه الله، ملتزما بالسنة، وما عرف أن رسول الله فعل شيئا إلا فعله، فلا يشرب إلا على ثلاث مرات، ولا يلبس نعلا ولا ثوبا إلا باليمين، ولا يدخل الحمام إلا بالشمال، وكان متحسسا لسنة رسول الله. كان يتوضأ من إناء تشبها بالنبي في الوضوء من الإناء، ولم يترك الصلاة أبدا في المسجد حتى أقعده الكبر، وما ذهب المسجد في وقت الأذان بل قبله، وما ترك صلاة الفجر أبدا، فلم يثبت أنه نام عنها، لأنه كان يستيقظ قبلها بساعتين على الأقل لقيام الليل، وكانت صلاته في الصف الأول، إن لم يكن هو الإمام. ولم يُر حاسر الرأس أبدا حتى في بيته، وإن غطاه بفوطة أو نحوها، وإن كان حديث "ما مشى رسول الله حاسر الرأس إلا محرما" حديث ضعيف جدا.
وكان رحمه الله يحفظ كثيرا من مسائل الفقه لمداومته على مجالس العلم في صغره، ولأنه كان خطيبا، فكان لا بد أن يثقف نفسه، وكان لا يترك برنامج الفتاوى المسمَّى بـ(بريد الإسلام) الذي تبثه إذاعة القرآن الكريم.
كان جدي قوَّاما صوَّاما، وما ترك قيام الليل حتى في مرضه، فكافأه الله بأن مات قائما بين يديه قبل الفجر، وصدق ابن كثير رحمه الله حين قال: (من سنة الكريم جل جلاله أنه من عاش على شيء مات عليه، ومن مات على شيء بعث عليه).
هذا جدي، ما أحلى خاتمته، مات وقد نطق بالشهادة ثلاث مرات، فاللهم اجعل في غرف الجنان مرقده.
فعلى مثل هذا الشيخ تبكي البواكي، وعلى مثله تحزن أمة الإسلام، لأنه فرد من أفرادها، وداعية من دعاتها، وهادٍ من هداتها.
فاللهم أجرنا في مصيبتنا خيرا، واخلفنا خيرا منها، أسأل الله تبارك وتعالى أن يغفر له ويرحمه، ويتقبَّله في الصالحين من عباده، ويسكنه الفردوس الأعلى، ويجزيه خير ما يجزى به العلماء العاملين، والمعلِّمين الربانيين، والدعاة الصادقين، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ}، وأن يرزق أهله وإخوانه وتلاميذه ومحبيه الصبر والسلوان، وأن يعوِّضنا فيه خيرا، وألاَّ يحرمنا من بشرى الصابرين، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
التعليقات (0)