عبـد الفتـاح الفاتحـي
تأكد ميدانيا أن النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية لا يزال يراوح مكانه بعد توقف المفاوضات بفعل تعنت البوليساريو والجزائر، تأكيد عززته الرسالة السرية التي بعث بها المبعوث الأممي في الصحراء كريستوبر روس نهاية يوليوز الماضي كشفت عن بلوغ المفاوضات إلى النفق المسدود، وأن إغفال روس للإشارة إلى مصداقية مقترح الحكم الذاتي (بحسب جريدة الصحراء الأسبوعية)، يكون قد أراد إطالة أمد النزاع، وأعاد تخليط الأوراق بما يعيد الملف إلى ما قبل نقطة الصفر.
ولم تكن هذه الخلاصات الأولى من نوعها بل سبقتها مؤشرات برزت في موقف جبهة البوليساريو والجزائر من تقرير مجلس الأمن الأخير، وموقفها من مفاوضات أرمونك، إضافة إلى الموقف الإسباني الذي لا يستقر على حال، وتأكد أيضا بأن المغرب يستوعب هو الآخر هذه الحقيقة، وذاك ما دعا به إلى التهيؤ لتطبيق الجهوية المتقدمة (الحكم الذاتي) في الأقاليم الجنوبية.
ورغم ذلك فإن الوضع يصب في مصلحة المغرب، حيث تتاح أمامه فرص سانحة لتقوية توجهاته على الأرض عبر الشروع في تطبيق الجهوية الموسعة، المرتقب الإعلان عن مضامينها نهاية هذه السنة، بالإضافة إلى إمكانية هامة لتحريك آلته الدبلوماسية على كافة الأصعدة بالتزامن مع تطبيق مبادرة الحكم الذاتي لحشد مزيد من التأييد.
وعليه فإن المغرب اليوم مدعو إلى مقاربة جديدة في تدبير الشأن العام في الأقاليم الجنوبية التي تكلفه عائدات سياسية واقتصادية كبيرة، على اعتبار أن تطبيق خيار الجهوية المتقدمة في أقاليم الصحراء كفيل بأن يؤسس لممارسة جديدة لتدبير الشأن العام بهذه الأقاليم، في أفق تحقيق التنمية رهان المغرب لكسر شوكة البوليساريو وتقوية مواقفه التفاوضية أمام المنتظم الدولي، في وقت تكثف فيه الآلة الإعلامية للجزائر والبوليساريو حملة دعائية تتهم المغرب بممارسة انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان بالأقاليم الجنوبية، لتطالب بتوسيع صلاحيات المينورسو لتشمل مراقبة حقوق الإنسان.
هذا ويسجل أيضا، أن فشل السياسات المحلية في خلق فرص التنمية أثقل كاهل الدولة، وزاد من أعبائها في الصحراء على المستوى الأمني، فقد أكدت عدة تقارير أن مجموعة من القلاقل الاقتصادية والاجتماعية التي نشبت بالأقاليم الجنوبية وخاصة في أحداث 1999 بمدينة العيون، لا علاقة لها في الغالب بتوجه للمطالبة بتقرير المصير في الأقاليم الجنوبية لكنها ردة فعل طبيعي على ممارسات الإقصاء الاجتماعي في عدد من جماعات الأقاليم الجنوبية.
مما يؤكد ارتفاع عدة أصوات من المنطقة تدعو الدولة لإعادة النظر في طرق تدبير ملف الأدونات والمنح (هبات، بطائق إنعاش، سكن، وظيفة أو شغل قار)، فساد في تدبير هذه الامتيازات كبد المغرب هروب عدد من أفراد ساكنة الصحراء (انفصاليو الداخل) إلى الأمام بارتداء عباءة حقوق الإنسان، والمطالبة بالاستقلال والانتصار للانفصال، وتأليب الباقي على السلطات المحلية وسياسات الدولة.
كما أن قضايا البطالة والفقر والهشاشة والتهميش في الأقاليم الجنوبية صارت تفرض نفسها أكثر، وأصبحت تمثل مقدمة فتيل التظاهر في شوارع أقاليم الصحراء. تظاهر، كثيرا ما استغلته الدعاية الإعلامية للجزائر والبوليساريو على أنه انتفاضة لما تسميه بالتحرير والاستقلال. وفي هذا السياق يأتي إعطاء الملك تعليماته في 25 أكتوبر 1999، بتخصيص غلاف مالي لمعالجة مشاكل البطالة في الأقاليم الجنوبية، ومعالجة مشاكل النقل التي يعاني منها الطلبة المنحدرون من الأقاليم الجنوبية.
وترجح عدة تحاليل أن المغرب وباقتراحه للجهوية الموسعة في الأقاليم الجنوبية سيخلي مسؤولية الدولة من الفساد الذي أساء إلى صورة الدولة على المستوى المحلي والدولي، وخاصة لدى جهات لها صلة بالنزاع في الصحراء، ومن جهة أخرى سيزيح عن كاهلها تبعات الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الصحراء.
إن المغرب عبر الجهوية المتقدمة والرؤية الجديدة لتدبير الشأن العام في الأقاليم الجنوبية ينتظر إذن تحييد صور الفساد السياسي وتطهير الحياة العامة في الصحراء عبر تشريعات محلية تجعل من الأقاليم الصحراوية نموذجا مثال لحجم الإصلاحات التي تنوي المملكة المغرب إرساءها. ذلك أن استمرار الاختلالات في تدبير المؤسسات والإدارات العمومية وعدد من الجماعات المحلية واستمرار نهب المال العام واقتصاد الريع ونظام الامتيازات في مجال العقار والخدمات واستغلال الملك العام، يسيء كثيرا إلى صورة المغرب.
في وقت تؤكد فيه كل المؤشرات أن تدبير الشأن العام في الأقاليم الجنوبية عرف فسادا لا يقل عن نظيره في باقي المجالس والجماعات المحلية للمغرب، إلا أن المجلس الأعلى للحسابات لم يسجل أي حالات إدانة في حق رؤساء مجالس جماعات الأقاليم الجنوبية، لاعتبارات الوضع الخاص.
ولا يرتبط الفساد السياسي والمالي في هذه الأقاليم بالمنتخبين فقط بل امتد ليشمل تدبير رجالات السلطة التي أدينت بطريقة من الطرق، دون أن يسجل في حقهم أي مساءلة قضائية.
وأمام هذا الوضع فإنه لا نجاح لمشروع تنمية الأقاليم الجنوبية وفرض أحقية المغرب على الأرض، ما لم يرافق تدبير الشأن العام الجديد في إطار الجهوية المتقدمة بصرامة تفعيل بنود القانون والمراسيم المصاحبة لمشروع الجهوية.
وعليه فإن الرهانات الإستراتيجية للمغرب في تدبير الشأن العام المحلي للأقاليم الجنوبية تقتضي فرض سيادة القانون وتجاوز الاعتبارات القبلية في المنطقة، وجعل الجماعات المحلية أساس إطلاق مشاريع اقتصادية تنموية تحقق الرفاه وتجذب ما تبقى من سكان مخيمات تيندوف للالتحاق بالمغرب وكسر شوكة تفاوض البوليساريو باسمهم.
إنه وبالرغم من وجود بعض الإكراهات الصعبة إلا أن ذلك يبقى ضروريا لإعطاء تدبير الشأن العام معناه الحقيقي، ولهذه الغاية وجه الملك محمد السادس دعوته إلى الجميع بالقول: "إن مشروع الجهوية، إصلاح هيكلي عميق يقتضي جهدا جماعيا لبلورته وإنضاجه، لذا، ارتأيت أن أخاطبك في شأن خارطة طريقه: أهدافا، ومرتكزات، ومقاربات. فطموحنا الكبير من هذا الورش الواعد هو ترسيخ الحكامة المحلية الجيدة وتعزيز القرب من المواطن وتفعيل التنمية الجهوية المندمجة، الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ووفقا لما جاء في الخطاب الملكي فإن الأقاليم الجنوبية ستعد المدخل التجريبي لتطبيق الجهوية في كامل التراب المغربي، حيث جاء في خطاب الملك "ويظل في صلب أهدافنا الأساسية، جعل أقاليمنا الجنوبية المسترجعة في صدارة الجهوية المتقدمة. فالمغرب لا يمكن أن يبقى مكتوف اليدين، أمام عرقلة خصوم وحدتنا الترابية، للمسار الأممي لإيجاد حل سياسي وتوافقي، للنزاع المفتعل حولها، على أساس مبادرتنا للحكم الذاتي، الخاصة بالصحراء المغربية".
وبذلك يكون المغرب قد خطط فلسفة جديدة لتدبير النزاع مع خصوم وحدته الترابية، تقوم على أساس الارتقاء بآليات تدبير التنمية المحلية على أسس ديموقراطية محلية جديدة، تتجاوز لوبيات الفساد السياسي واستغلال النفوذ واقتصاد الريع في المنطقة.
محلل سياسي مهتم بالنزاع حول الصحراء
elfathifattah@yahoo.fr
التعليقات (0)