منذ مدة ، وبينما كنت أنقب في مكتبتي ، عثرت على بعض الأوراق المكتوبة بخط يد صاحبتها ..
تأملتها ، ثم جلست أقرأ فيها .. وعندما انتهيت ، أسندت رأسي إلى الوراء ، فبدأت التداعيات تمر في مخيلتي .. وأنا أبتسم لها تارة ، وتكبر ابتسامتي تارة أخرى ..
دخلتْ عليَّ ابنتي ، فظنت أني نائم على الكرسي .. وحين رأتني أبتسم ، ويدي تحمل أوراقا ، دنتْ منها بهدوء ، وقرأتْ بعض ما فيها ، فعرَفتْ أني أشاهد فيلما من التداعيات .. فانسحبتْ تنادي غيرها .. وحين أحسسْتُ بهم حولي ، ألحّوا أن أترجم لهم تداعياتي .. وكان لهم ذلك ..
أعلنتْ فرقة المسرح الجامعي ، عن رغبتها بإجراء لقاء مع من يودون المشاركة في تمثيل مسرحية "عطيل " لشكسبير .. ثم اختار المخرج عبد الرحمن حمود "1" العدد اللازم من بين هؤلاء ، وأسند لخليل الرز "2 " دور عطيل ، ولرغدة "3" دور ديدمونة ، وأدوارا أخرى لكل من : سجيع قرقماز "4" ، وفايز أبودان "5" ، وسمر كواكبي "6" ..
وكنت مسؤول الثقافة في الهيئة الإدارية لاتحاد الطلبة في كلية الآداب ، والمسرح جزء من النشاط الذي نقوم به ، وبالتالي : كنت بمثابة المشرف على ما يشبه عملية " الإنتاج " لصالح المكتب الإداري ..
كانت التدريبات غالبا ما تتم أيام العطل ، أو ليلا بعد انتهاء دوام الجميع .. وكثيرا ما تستمر التدريبات إلى وقت متأخر من الليل ، عندها ، يخرج الحاضرون ، لتوصيل الزميلات الممثلات إلى بيوتهن مشيا .. وكنا في شتاء 1975/1976 ، والليل قارس ، وقد رافقتهم مرة في الطريق لإيصال رغدة ، فرحنا نهرول ونركض أحيانا لنقاوم شدة برد الليل ..
لكن رغدة اعتذرت في بدايات التدريب عن إكمال دورها في المسرحية ، لأسباب لا أعرفها أنا ، فأدّت سمر كواكبي دور ديدمونة .. وحين عُرضت المسرحية في مسرح نقابة الفنانين بحلب ، كان الترحيب بها شديدا ، وأدى جميع الممثلين أدوارهم ببراعة فائقة ..
وقد تنشطت الحركة الثقافية في الكلية آنذاك ، من خلال الكثير من الأمسيات والندوات ، التي كانت فرصة سانحة لهواة كتابة القصة والشعر ، يقدمون فيها كتاباتهم وأشعارهم ، في جو طلابي هادئ ..
وكانت رغدة متعددة المواهب .. فهي إضافة لبراعتها في أداء بعض بروفات مسرحية عطيل ، كتبت الشعر والقصة القصيرة ، ولها هواية الرسم ، على ما أذكر ..
وشاركتْ في الأمسيات الأدبية لكلية الآداب ، وأقيم لها وحدها أمسية شعرية ، تألقت فيها ، وكان حضورها الشخصي والأدبي طاغيا ، وغصت القاعة بالحاضرين ..
وقدمتْ رغدة القصة القصيرة في أمسيات مشتركة مع طلاب آخرين .. منهم :
أحمد عصلة ، وخليل الرز ، وأحمد عزيز الحسين ، ونذير جعفر ، وجمال جنيد ، ومحمد حمامي ، وغسان حيمور ، وفيصل خرتش ، ودلال سعودي ، ورفيف ترمذي ....
ومن الشعراء : نواف الأحمد ، وعلياء شاويش ، ومحمد جمال باروت ، وناريمان الآغا ، وثناء فتال ، وجمانة حمامي ، ومحمد معشوق حمزة ، وحسن عاصي الشيخ ....
وغالبا ما كان يحضر هذه الفعاليات ، ويعلق ـ نقديا ـ عليها ، كل من : الأستاذ الدكتور فؤاد المرعي ، والأستاذ الدكتور محمد حموية ، والأستاذ الدكتور محمد مصطفى جطل ..
وكانوا رفيقين جدا بآرائهم النقدية ، لأن جميع المشاركين ـ وأنا منهم ـ طلاب يتلمسون بداية طريق الكتابة ..
وقد أكمل عدد من هؤلاء طريق الكتابة ، حتى صاروا علامات فارقة في القصة والرواية والشعر والنقد الأدبي .. مثل : الروائي والناقد نذير جعفر ، والروائي فيصل خرتش ، وخليل الرز ، والشاعر نواف الأحمد ، والناقد أحمد عزيز الحسين ...
كنا نستعد للقيام برحلة جامعية إلى الأردن ، فتقدم للاشتراك بها عدد كبير من الطلاب والطالبات ، مما استدعى السفر بثلاث حافلات كبيرة .. وكانت رغدة من بين هؤلاء ، فسألتني عمن سيرافقني في الرحلة ، فقلت : لا يوجد أحد بشكل خاص .. " لأني المتزوج الوحيد بين الشلة ، فظنت أن زوجتي يمكن أن ترافقني " ..
فقالت : أيمكننا أن نترافق ؟؟ قلت : بكل سرور .. فقالت : إذن ، سيأتي أخي إلى الكلية ليتعرف عليك ..
وفعلا ، استضفته في المقصف ، فحدثني عن ثقتهم المطلقة بها ، وعن قلقهم المشروع ، في سفرها خارج القطر بدون زميل وأخ لها ، يعرفونه ، ويثقون به ..
انطلقت الحافلات ليلا من ساحة كلية الآداب ، وكان الدكتور وهيب طنوس وكيل الكلية ، مشرفا على الرحلة ..
وتم توزيع المشاركين على الحافلات الثلاث ، فكانت حافلتنا الأولى ، تجمع بالإضافة إلى المشرف ، كلا من : عبد الستار السيد أحمد وعبد الوهاب فاخوري وعبد الرزاق الخشروم وفيصل خرتش ووجيه رمّو ... و ....
جلست في الكرسي جانب النافذة ، ورغدة بجانبي ، مما أثار حفيظة بعض هؤلاء الأصدقاء ، فصاروا يمازحونني ، ويزيد بعضهم على بعض في المبلغ الذي يمكن أن يدفعوه لي ثمنا لمكاني .. وكان ذلك من قبيل المرح والود الذي ساد الجو العام للرحلة ..
في الطريق إلى دمشق ، تحدثنا في أحاديث عامة ، عن الشعر والقصة ، وأنها أنجزت مؤخرا كتابة قصة اسمها : رائحة القِلادة ، وحكت لي عن أجوائها .. وحكيت لها عن أسرتي ، وعملي ، ومطالعاتي ، وكتاباتي ..
ثم .. أخبرتها ببعض ظروفي التي تتطلب مني البقاء في دمشق ، لإنجاز عمل ضروري ، برز مؤخرا ، يتعلق بموافقة وزير التعليم العالي على استثناء شقيقتي من شرط المدة ، للتسجيل في الجامعة ، بعد أن انتهى الموعد النظامي المحدد .. وكان الأخ زاهد استانبولي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد ، قد طلب مني الحضور إلى دمشق ، وهو موجود فيها ، لمتابعة الحصول على الموافقة .. فتفهمت رغدة الظرف الطارئ ، ورأت أن موقفي سيبدو حرجا إذا لم أذهب لملاقاته ، وأنا صاحب الحاجة ..
في النهاية ، اتفقنا أن أعتذر عن إكمال الرحلة .. وحين أعلنتُ ذلك مع وصولنا إلى دمشق فجرا ، ظن بعضهم أن سوء تفاهم ما ، ربما ، هو السبب الحقيقي وراء قراري بالبقاء في دمشق .. لكني أكدت لهم عدم وجود أي شيء من ذلك .. وشرحت للدكتور وهيب ولعبد الستار الظرف الداعي ، فتفهماه ، وأبديا رغبة أكيدة في أن أستمر معهم ، إذا كان عملي في دمشق قابلا للتأجيل ريثما نعود .. لكني لم أشأ أن أفوّت فرصة الحصول على موافقة الوزير ، بوجود الأخ زاهد في دمشق ، والتي سيغادرها اليوم .. فتركا لي الخيار .. عندها ، سألت إن كان أحد منهما يريد مبادلة الدنانير الأردنية التي كانت بحوزتي ، فبادلني الدكتور وهيب ..
وبعد استراحة وجيزة في مطعم أبو كمال ، لوّحوا لي مودِّعين ، وبقيت متلفعا بمعطفي ، أتقي برودة الساعات الأولى من الصباح ..
ذات مرة ، جاءني إلى مكتب الهيئة الإدارية ، الطالب عدنان ، وقال : إن طالبة من الكلية أساءت التصرف إزاءه ، أثناء مرورهما متقابليْن في البهو السفلي ، عند المدخل ..
قلت : ماذا فعلت بالضبط ؟؟
قال : نظرتْ في وجهي بامتعاض ، وحركت شفتيها كأنها تبصق ..
استفسرت منه إن كان بينهما خلاف سابق ، أو موقف ما .. فنفى .. وسألته عما إذا كان تصرفها تجاهه ردَّ فعلٍ لتصرفٍ له تجاهها .. فنفى وجود ذلك مطلقا .. عندها سألته : هل تعرف الطالبة ، أو اسمها ؟؟ قال : رغدة ..
استغربتُ بشدة اتهامه ، وقلت له : هذا غير ممكن .. أنا أعرفها جيدا ..
قال : هذا ما حصل ..
طلبت منه أن ينتظر بعيدا ، ريثما أستفسر منها ..
وكنت رأيتها قبل قليل تدخل إلى المقصف بجوار المكتب ..
ذهبتُ .. كانت برفقة زميلاتها ، استأذنتها بحديث جانبي ، فلبّت فورا ..
مشينا معًا إلى المكتب .. وسألتها بلا مقدمات : هل تعرفين طالبا اسمه عدنان ....؟ قالت : لا أعرفه .. سألتها إن كان ثمة من أساء إليها اليوم في الكلية ، فردّتْ عليه إساءته ..
وسألتها إن كانت تصرفت اليوم مع أي أحد تصرفا ما .. فنفت كل ذلك مستغربة أسئلتي ..
طلبت منها أن تنتظر قليلا ريثما أعود ..
كان عدنان واقفا على مسافة من المكتب ، أومأت إليه بالمجيء ، وسألتها أمامه : هل تعرفين هذا الزميل ؟؟
قالت : لا ..
ـ هل تقابلتم اليوم في البهو عند المدخل ؟؟
قالت : كان هناك طلاب كثيرون ، ولا أعرف بمن تقابلت .. ـ أليس بينك وبينه حساسية ما ؟؟
قالت باندهاش : ولماذا يكون بيننا حساسية ؟؟!!
عندئذ ، حكيت لها ما قاله لي قبل قليل ..
استنكرتْ بشدة ، واستغربتْ هذا الاتهام ، وعبرتْ عن استحالة أن تتصرف هكذا تصرف مع أي مخلوق ، وفي أي زمان وأي مكان .. فكيف إذا كان المكان حَرَمَ الكلية ، ومع شخص لا تعرفه ، ولم يسئ إليها ؟؟!!
سألته : أيكفيك هذا الجواب ؟؟ قال : بلى .. وخرج ..
فحكت لي حكاية صغيرة ، صادفتْها قبل أيام عندما كانت تقود سيارتها في أحد الشوارع الفرعية في المدينة ، حيث كانت قطة منفوخة البطن ، تجلس في عرض الطريق ..
تقول رغدة : فوقفت بعيدا عنها ، خوفا من أن تصاب بالذعر ، فأدهسها إن اقتربت نحوها .. لكنها لم تتحرك ..
وانتظرت ، وانتظرت .. حتى ذهبتْ متثاقلة ، يهدّها حَملها .. عندها أكملت طريقي ..
ثم أضافت : إذا كنتُ تصرفت مع القطة بهذه الطريقة ، فهل يُعقل أن أتصرف مع إنسان ، ليس بيني وبينه أي شيء ، بالطريقة التي ادّعاها ؟؟!!
قلت لها ممازحا : لعله أراد أن يلفت انتباهك إليه !!
وفي سرّي : كنت واثقا من صدقها ، ومن افترائه ..
في صيف 1979 ، وبعد أن تخرجت ، كنت أعمل رئيس دائرة " الذاتية " في رئاسة جامعة حلب ، رن هاتف مكتبي ، وإذا بصوت كأني أعرفه ، يسأل عن السيدة أميرة حجّو ، قلت لها : هنا مبنى رئاسة الجامعة ، والسيدة أميرة ، تعمل في كلية الآداب .. قالت : يبدو أن خطأ قد حصل في تحويل المكالمة .. قلت : ألستِ رغدة ؟؟ قالت : نعم ، لكني لم أعرف صوتك .. وحين عرفتني ، سألتها عن غيابها ، فقالت : كنت مسافرة ، وجئت من قريب ، وسأعاود السفر إن شاء الله ..
وكان ذلك آآآآآخر حديث بيننا حتى الآن ..
أما الأوراق التي بين يدي ، فتتضمن كتاباتٍ بخط رغدة ، وهي :
ـ قصة بعنوان : رائحة القِلادة
ـ قصة بعنوان : الرسالة
ـ قصيدة بعنوان : لو
ـ قصيدة بعنوان : فوقية الرجل
ـ قصيدة بعنوان : فلسطين تحكي
ـ قصيدة بعنوان : الخلاص
لا أعرف إن كانت رغدة قد نشرتْ تلك الكتابات أم لا ..
ولا أعرف ، هل أنشرها أم لا ، بعد قرابة خمسة وثلاثين عاما ؟؟!!
ما رأيكم ؟؟ دام ظلكم الكريم ..
تصبحون على خير ..
الإثنين ـ 11/10/2010
هوامش :
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 ـ عبد الرحمن حمود : رحمه الله ، كان مدير المسرح المدرسي بحلب ، ومخرج المسرح الجامعي .. أخرج له عددا من المسرحيات .. التقيته في أوائل التسعينيات في بهو فندق الشام بدمشق .. قال لي : إنه يعمل في الكويت ..
مثـّل في عدد من الأعمال الدرامية السورية فيما بعد ..
2 ـ خليل الرز : تخرج في قسم اللغة العربية في جامعة حلب ، وكان يكتب القصة القصيرة ، ويجيد التمثيل المسرحي ، يساعده في ذلك صوته ، وشكله المعبر .. أعتقد أن له روايات وقصصا مطبوعة ..
3 : الفنانة الكبيرة رغدة : أشهر من أن أعرِّفها ..
4 : سجّيع قرقماز : تخرج في جامعة حلب ، قسم اللغة الإنجليزية .. مثـّل في المسرح الجامعي .. وله أدوار عديدة في الدراما السورية حاليا .. ولم ألتق به منذ تخرجنا ..
5 : فايز أبو دان : أحد نجوم الدراما السورية حاليا .. أذكر له دور الجنرال عبد الحميد في المسلسل السوري الرائع " إخوة التراب " .. ولعب أدوارا أخرى كثيرة ، كرّسته نجما ..
6 : سمر سعد زغلول الكواكبي : هي حفيدة عبد الرحمن الكواكبي .. كانت متألقة جدا بدور ديدمونة في مسرحية عطيل .. ولا أعرف المزيد ..
التعليقات (0)