لم أر موقفا يتسم بالشجاعة والمروءة والفضل من رجل مسئول فى مصر، منذ شهور عديدة، بقدر ما فعل الشيخ على جمعة مفتى الديار المصرية بزيارته للقدس الأسير.
ذهب الرجل ضاربا بكل المزايدين والمقامرين والمتكلمين باسم الدين عبثا وتجارة عرض الحائط، ليقف مفتى مصر فوق المنبر، ويصلى إماما للحضور صلاة الظهر، فكأنما مصر كلها ذهبت وزارت وصلت فى ثانى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين.
وستبدأ المعركة.. ويبدأ الهجوم على فضيلة المفتى "د. على جمعة" لأنه صلى فى القدس، وسيزعمون أنه دخلها بتأشيرة إسرائيلية، وليس بإشراف من الديوان الملكى الأردنى، مع العلم أن أهل غزة أنفسهم يدخلون القدس بتصريح إسرائيلى، ومع ذلك لم يمنعهم هذا من زيارته!! تحطيم كل الرموز الطيبة صارت شهوة، وكأننا نُصِر على أن تكون مصر بعد الثورة، بلدا بلا قِيَم.
العجيب فى مشايخ مصر وقادتها الذين اجتمعوا اليوم على مهاجمة الشيخ وسبه والمطالبة بمحاكمته، هم أنفسهم الذين تفرقت بهم سبل المصالح المتضاربة والتنازع على الكراسى الزائلة البائدة الضائعة، ولم ينسوا أنفسهم قليلا وينحوا مصالحهم جانبا ليجتمعوا على حب الوطن.. ثم قاموا اليوم بسيوفهم ليوهمونا باجتماعهم على كراهية موقف المفتي.. أليس عجيبا أن الذى صار يجمعنا هو الكراهية؟؟ أى جمع هذا!.
فليجبنى أحد بالله عليكم، يا من لا تزورون القدس بحجة التطبيع.. وأنها تحت سيطرة المحتل الغاصب.
لو أن لك أخا مريضا فى بيته، وهذا البيت احتله سارق، وكنت غير قادر على هزيمة الرجل لتعيد لأخيك حقه، أكنت ستقول لن أزور أخى إلا عندما أستطيع أن أدخل إليه وأُخرج السارق كى لا يظن السارق أننى قبلت بوجوده؟!! مالكم كيف تحكمون؟.
ألم يذهب النبى صلى الله عليه وسلم لحج البيت فى العام السادس الهجرى، ألم يكن البيت حينها مليئا بالأصنام فى كل أركانه! ومحاطا وأسيرا تحت يدى كفار قريش الذين هجّروا المسلمين من ديارهم وسلبوهم أموالهم؟!.
هل اشترط النبى ألا يدخل مكة ويحج البيت إلا غازيا منتصرا عائدا لدياره؟.
هل منعه المغتصب لديار وأموال المسلمين من حج البيت؟.
أجيبونى بالله عليكم..
لا تزايدوا على الرجل ولا تقولوا لقد ضرب إجماع الأمة فى مقتل.. فعن أى أمَّة تتحدثون؟ الأمة المصرية التى تنازع كل أطرافها المتصدرون للمشهد السياسى والقيادى والإعلامى على نصيبهم من ميراثها وهى فى غرفة الإنعاش!
إننى سمعت أحد العلماء يتهم فضيلة المفتى بالخيانة ويطالب بمحاكمته، وأقول له كفاكم مزايدات يا مشايخ الثورة الذين نافقتم الثوار، وغرّتكم الكثرة.. فالخلاف بين عالم وعالم آخر فرصة لتُعلِموا العامة مثلى أدب الخلاف وسماع وجهة النظر قبل الحكم.. أما ما ذهب إليه هذا الشيخ الثورى المغضوب عليه الآن من الثوار، فبعيد تماما عن روح الدين وأدب اختلاف العلماء.
وأما عن موقف البابا شنودة، ذلك الرجل الوطنى الذى أقدره وأحترمه، فكلنا بعلم موقفه من السادات وموقف السادات منه، ولا أرى موقفه من عدم زيارة القدس إلا موقفا وطنيا رائعا لا يخلو من شِق سياسى!
فكفاكم مزايدات وكفاكم تخوينا لكل من تختلفون معه.
واليوم وبمناسبة أن زيارة المفتى للقدس المسروق، فى زمن الثورة المسروقة.. فأختتم مقالى هذا الذى سيغضب الكثيرين، بأنه يوما ما سوف يذكر التاريخ أن الـ 20 مليون مصرى الذين قاموا بالثورة وباتوا فى العراء وقدموا الشهداء، قد سرقها منهم، شباب الائتلافات، والمجلس العسكرى، وجماعة الإخوان والأحزاب السياسية الفاشلة، والجماعات السلفية التى كانت تحرم الخروج على الحاكم! والإعلاميون الذين ارتفعت رواتبهم من بضعة آلاف لملايين.. ثم تنازعوا على الغنائم، ولم يلتفت لمصلحة هذا الشعب أحد، ثم عاتبوا فضيلة المفتى لأنه زار القدس ليساعد على فك أسره ولو معنويا. وبعد كل هذا تتساءلون عمّن سرق الثورة؟! يا عزيزى كلكم لصوص.
وأكاد أشعر أن لسان حال فضيلة المفتى بعد زيارته للقدس والصلاة فيه يقول:"الآن أستطيع أن أرحل عن مناصبكم التى تسحقون بعضكم لأجلها، وعن دنياكم التى تتكالبون عليها.. وألقى ربى وأنا مرتاح الضمير مطمئن الفؤاد.."، أشعر وكأنها زيارة الوداع. طيَّب الله ما بقى لك فى دنيانا أيها الرجل الجسور والشيخ الشجاع.
التعليقات (0)