تحويل القبلة من الأحداث الهامة في تاريخ الإسلام والمسلمين؛ لما كان له من أثر بالغ في تشكيل وصياغة خير أمة أخرجت للناس، وتربيتها على ما يلزمها من معان؛ لتقوم بأداء دورها – أستاذية العالم والشهادة على الأمم- خير قيام دون إفراط أو تفريط .
والقبلة لها مكانة عظيمة في الإسلام، فهي من نعم الله التي يحسدنا علي الهداية لها غيرنا، فقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "إن اليهود لا يَحْسُدُونَنا على شيء كما يَحْسُدُونَنا على يوم الجمعة التي هدانا الله إليها وضلُّوا عنها، وعلى القبلة التي هدانا الله إليها وضلُّوا عنها، وعلى قولنا خلف الإمام آمين".
فما الصفات اللازمة للأمة الرائدة؟ وما المعاني التي ربى الله عليها الأمة في حادث تحويل القبلة؟
المعنى الأول : الأمة الرائدة تحتاج إلى التجرد التام لله عز وجل، تجرد من الأهواء والشهوات، ومطالب النفس وحب الدنيا، ومن كل فكرة تخالف فكرة الإسلام، فالمتجرد لله يدور مع أمر الله حيث دار، وليس له رأى مع حكم الله، ولا قدسية عنده لمكان أو شخص أو جهة ما لم يقدسه الله عز وجل، ولهذا كانت مراحل تحويل القبلة من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم من المسجد الأقصى إلى البيت الحرام، من البيت الحرام إلى المسجد الأقصى؛ ليخلص الصحابة من رواسب الجاهلية، ومن تعظيم البيت على أنه أثر أبيهم إسماعيل، ورمز لمجدهم القومي، وفخرهم القبلي؛ لتخلص القلوب لله، ولتتجرد لفكرة واحدة هي الإسلام وحده لاشريك له في النفوس والقلوب، وليكون التقديس منبعه من الله لا من الموروث.
المعنى الثاني : تحتاج الأمة الرائدة إلى أن تكون مستسلمة لله في كل شيء، حتى المشاعر والأحاسيس، فهي لا تملك إزاء أمر الله إلا التسليم المطلق والطاعة المتناهية، وهذا ما نجح فيه المسلمون الأوائل، فقد صلوا الصلاة الواحدة إلى قبلتين عندما سمعوا الأمر بالتحويل أثناء الصلاة، على اختلاف الأماكن والأزمان.
وأول التحويل عندما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يزور أم بشر بن معرور بعد موت بشر، فلما حان وقت صلاة الظهر صلى بأصحابه ركعتين، ثم أمر بتحويل القبلة، فتحول في ركوع الركعة الثالثة، وسمي هذا المسجد مسجد القبلتين؛ لأن التحويل نزل فيه أولاً، وكان في بني سلمة، وهي أول صلاة صلاها، وهو الأثبت كما قال الواقدي، وكانت هذه الصلاة هي الظهر على ما رواه النسائي من رواية أبي سعيد بن المعلى، وكذا عند الطبراني والبزار من حديث أنس، فهذا الحديث يدل على أن مكان التحويل هو مسجد بني سلمة "مسجد القبلتين" وأن الصلاة هي الظهر.
ثم إن خبر التحويل وصل كل جماعة في مواعيد مختلفة، ولعل عددا من الجماعات وقع منهم صلاة لقبلتين، قد تكون هي العصر وقد تكون غيرها .
ومن الروايات الثابتة ما يلي :
1 ـ حديث البراء بن عازب: صليت مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا ـ وفي رواية له سبعة عشر شهرًا ـ حتى نزلت الآية التي في البقرة (وحيثُما كنتُم فَولُّوا وجوهَكُم شَطْرَهُ) فنزلت بعدما صلى النبي، فانطلق رجل من القوم فمرَّ بناس من الأنصار وهم يصلون، فحدثهم فَوَلَّوا وجوههم قبل البيت. رواه البخاري ومسلم
2 ـ حديث ابن عمر: بينما الناس ـ بنو عمرو بن عوف ـ في صلاة الصبح بقُباء إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد أُنزل عليه الليلة، وقد أُمِرَ أن يَستقبل الكعبة، فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. رواه البخاري ومسلم.
3 ـ ذكر أبو عمرو في "التمهيد" عن نويلة بنت أسلم ـ وكانت من المبايعات ـ قالت : كنا في صلاة الظهر فأقبل عبَّاد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قد استقبل القبلة، أو قال : البيت الحرام، فتَحَوَّل الرجال مكان النساء وتَحَوَّلَ النساء مكان الرجال.
هكذا ترى مع اختلاف الروايات والأماكن والأوقات، إلا أن الصحابة اجتمعوا على شيء واحد، ألا وهو سرعة الاستجابة للأمر، والتسليم المطلق لله عز وجل.
المعنى الثالث: تحتاج الأمة الرائدة إلى التدريب على الابتلاء ومواجهته بصبر جميل، فالأمة التي تحمل رسالة عظيمة كالإسلام، ومهمة ثقيلة كالتبليغ، معرضة للابتلاء لا محالة، وقد ابتلى المؤمنون في هذا الحادث أشد البلاء، فقد شن اليهود والمنافقون والمشركون عليهم حملة إعلامية بشعة، استخدموا فيها كل أساليب الخداع والتمويه وقلب الحقائق؛ لتشويه معالم الإسلام في نفوس الصحابة، والتشكيك في المنهج والقيادة على السواء.
أما حديث اليهود فكان: ما ولاهم عن قبلتهم؟ وحديث المنافقين كان: حنَّ محمد إلى أرضه وقومه، وحديث المشركين كان: أراد محمد أن يجعلنا له قبلةً، وأن يجعلنا له وسيلة، وقال المؤمنون: لقد ذهب منا قوم ماتوا ما ندري أكنا نحن وهم على قبلة أم لا؟ فأنزل الله تعالى في ذلك: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ)، أي اليهود إلى قوله: (إنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لرءوف رَحِيمٌ).
فالأمة الرائدة بحاجة إلى التدرب على مواجهة الابتلاءات بأنواعها، وحسن التعامل معها بصبر جميل.
المعنى الرابع: تحتاج الأمة الرائدة إلى التميز والاستقلال، وأن تكون متبوعة لا تابعة؛ لأن التبعية تشعر بالحقارة والدونية، فلا تستطيع الأمة التابعة أن تقود أو ترشد، فلابد للأمة من الاستقلال والتميز في كل شيء، في العقائد والتشريعات، والأخلاق والمعاملات؛ ولهذا أراد الله لأمة الإسلام أن تكون متيمزة عن غيرها من الأمم في قبلتها، فلا تتبع قبلة أحد من الأمم السابقة؛ لأنها الأمة الشاهدة (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا).
وقد حرص الرسول على أن يغرس في الأمة روح التميز والاستقلال؛ فنهاها عن التشبه بغيرها حتى في أبسط الأمور وأقلها
روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: "لتتبعن سنن من كان قبلكم ، شبرا بشبر وذراعا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم " . قلنا : يا رسول الله ، اليهود والنصارى ؟ قال : فمن".(صحيح رواه البخاري)
وعن عبادة بن الصامت أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم في الجنازة حتى توضع في اللحد ، فمر حبر من اليهود ، فقال : هكذا نفعل ، فجلس النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : اجلسوا وخالفوهم" (البخاري)
وعن أبى هريرة عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال:" إن اليهود والنصارى لا يصبغون ، فخالفوهم " (صحيح).
أرأيتم حرص الرسول – صلى الله عليه وسلم – على أن يظل المسلمون معتزين بقيمهم وأخلاقهم وعاداتهم ومظهرهم دون اللجوء إلى تقليد أحد أو التشبه به، ولو في أبسط الأمور.
وبعد : فالأمة الرائدة تحتاج إلى أن تكون متجردة لله، طائعة مستسلمة له، تحسن التعامل مع الابتلاءات، تشعر بالتميز والاستقلال عن غيرها، وهذا ما لابد أن تتعلمه الأمة من تحويل القبلة.
التعليقات (0)