تحليل ومقترحات في الشأن العراقي
مقدمة : لا يمكن فهم ما يجري في العراق أو ما ستؤول إليه الأمور ، ما لم تتم دراسة أي ظاهرة أو أزمة تحدث فيه على ضوء الأبعاد الثلاثية المترابطة للمشهد العراقي ( المحلي ، الإقليمي والدولي ) . فقد أصبح من الواضح إن ما قامت به الولايات المتحدة في العراق لم يكن كما أدعت بإزاحة النظام السياسي فيه بل إنها في المحصلة أزالت العراق كدولة بمؤسساتها التي تعاقب على بناءها أجيال .
ولا يعد مطلب إزاحة العراق من خارطة المنطقة ومن معادلة توازن القوة فيها ، فقط مطلبا أمريكيا – إسرائيليا ، ولكنه للاسف مطلب تاريخي لدول الإقليم المتطلعة على الدوام لمد نفوذها أبعد كثيرا من مجرد حدود العراق . وكذلك مطلب بعض الانظمة العربية التي توهمت من جهتها في إن المساعدة على تدمير العراق واستمرارضعفه وهشاشته قد يشكل عامل راحة واستقرارا لهم ، ليكتشفوا متأخرين جدا ، إن وظيفة العراق التاريخية عندما يكون موحدا ومتماسكا هو حجر الزاوية في إستقرار وتوازن المنطقة برمتها ،وإن من شأن تفكيكه إنكشاف جناحهم ويجعل من العمق العربي هدفا سهلا للاندفاعات الإقليمية .
في عراق اليوم وعلى ضوء وهن العراق الحالي بعد الانسحاب العسكري الامريكي ، وعلى ضوء تصاعد حدة التنافس الإقليمي لملء الفراغ فيه ، وفي ظل غياب عربي تام ، وتشرذم سياسي عراقي داخلي ، نجد إن هناك نزوع كامل للاطراف العراقية نحو إصطفافات تنسجم مع هذا التنافس الإقليمي سواء اتخذ هذا الاصطفاف غطاءا طائفيا أو مذهبيا أو قوميا ، يساعد على تعميق هذه الاصطفافات طبيعة النظام السياسي بفلسفته السياسية ومؤسساته وهياكله القائمة على إعتماد نظام المحاصصة الطائفية والعنصرية أساسا لنظام الحكم ، وتأتي الوثيقة السياسية الاولى التي تحكم البلاد في مقدمة العناصر المحرضة على الإنقسام ، ويقصد بها الدستور النافذ بعد الاحتلال ووضع بإشرافه وفي ظل ظروف ومناخ وضغوط غير طبيعية كان يمر بها الشعب العراقي ، هذا الدستور يشكل في بعض أبوابه وصفة جاهزة لتقسيم وتفتيت العراق وتحويله إلى كيانات هزيلة متنازعة على الثروة والسلطة تحت دعوى حق "إقامة الأقاليم" والتي يمنحها هذا الدستور المشوه صلاحيات سيادية نظام الحكم في العراق نظاما "كونفيدراليا" يسمى جزافا وذرا للرماد في العيون نظاما "فيدراليا" .
العراق في ظل المخاطر الإقليمية
تستعد المنطقة العربية ومنذ سنة تقريبا عمليات تفكيك وإعادة تركيب لتشكيل ساحة عمليات جديدة ،تنسجم في مع نظريات الصراع الدولي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة حيث يتم رسم وترسيخ خطوط تقسيم جديدة لإدارة والتحكم في صراعات منطقة الشرق الاوسط تقوم على أساس مذهبي – عرقي ،بدلا من الصراعات الإيديولوجية التي سادت حقبة الحرب الباردة.
على هذا الأساس فإنه ليس من قبيل المصادفة أن تستلم نظومة أحزاب الاخوان المسلمين خلال بضعة أشهر معظم أنظمة الحكم في الدول العربية ، حيث تجري الاستعدادات لتهيئتهم كمحور ذات صبغة مذهبية معينة بقيادة تركيا ، التي تحلم باستعادة (الخلافة) في مجالها الحيوي القديم بعد أن أغلق الاتحاد الأوربي - الذي أصبح أكثر مسيحية - الأبواب بوجه انضمامها إليه.
في المقابل تطرح إيران نفسها من خلال نموذج (ولاية الفقيه) محورا ثانيا يتخذ من البعد الطائفي غطاءا لتحقيق توسعات قومية تجعل من الخليج العربي بحيرة إيرانية تحيط بها شعوب تؤمن بولاية الفقيه.
في ظل هذه الحمى الصراع الذي سيحتدم بين هذين المحورين والذي تجري الاصطفافات على قدم وساق فإن ثمة خاسر كبير هو العراق ووحدته أرضا وشعبا ، ويكمن السبب في إن العراق سيكون الخاسر الاول هو أولا موقعه الجغرافي الفاصل بين المحورين وثانيا تركيبته الديموغرافية المختلطة ما بين المحورين وثالثا وأخيرا إنه يشهد بإستمرار عمليات تسخين وتهيئة للفرز والاحتقان الطائفي والعنصري منذ عقود طويلة بل أصبح شعبه حقلا للتجارب بهذا الصدد .حاليا تتخذ معظم الأطراف الرئيسية والثانوية اللاعبة في الساحة السياسية العراقية مواقعها وحسمت توجهاتها سواء كانت هذه الإطراف دولية أو إقليمية ، أحزاب محلية وجميع هذه الاطراف ليس لديها أي مانع طبقا لخلفياتها الدينية والعقائدية والحزبية الضيقة في أن يتم تقسيم خط الجبهة الأول ( العراق ) طبقا لخطوط تقسيم صراع المحاور ، فمحور تركيا والغرب والاخوان المسلمين لا يمانعوا بل يسعون ( كما في دعوات إقامة الاقاليم التي إنطلقت بعد الانسحاب الامريكي ) من انضمام الأقاليم في وسط وغرب وشمال العراق ، في نفس الوقت لن تمانع إيران التي تقود المحور الثاني إذا ما استمر الضغط الغربي من الهيمنة على ما تبقى من وسط وجنوب العراق , في حالة انهيار خطوط جبهاتها المتقدمة الحالية.
العراق وطبيعة المخاطر المحلية
بعد الانسحاب العسكري الأمريكي يشهد العراق تعاظم الصراعات التي أسس لها الاحتلال أصلا وتعاونت معه أحزاب وقوى وشخصيات في محطات مبكرة قبل الاحتلال لإقامة نظام سياسي قائم على مبدأ المحاصصة الطائفية والعرقية , وتم تاطير ثمرة هذا الزواج غير الشرعي بين الاحتلال وتطلعات الأحزاب الدينية والعنصرية الضيقة من خلال وثيقة الدستور النافذ بعد الاحتلال والذي وضع بإشرافه وفي ظل مناخ وظروف غير ملائمة.
ويمكن وصف النظام السياسي الحالي في العراق ، بعد أن كان ذا طبيعة دكتاتورية فردية قبل الاحتلال ، على انه نظام ثيوقراطي( ديني) يؤسس لدولة من الفوضى السياسية تقوم على دكتاتورية الطوائف والمذاهب والقوميات , وهذا الأمر واضح في فلسفة النظام السياسي الحالي ( الديباجة والمباديء العامة في وثيقة الدستور ) ، وواضحة في كافة مفاصل النظام السياسي الحالي ( الحكومة, البرلمان, الجيش) ، وكذلك في طبيعة عناصرومؤسسات النظام السياسي الحالي (هيمنة أحزاب دينية , شخصيات, ومرجعيات، قادة ميليشيات) ، وهي تمثل بمجموعها انعكاس وانكفاءه حتمية بالعراق إلى الخلف ونكوص تم عن إمكانية بناء عراق جديد ودولة مدنية قوية وعادلة تقوم على أساس المواطنة والكفاءة ، لذلك من المتوقع في ظل الفلسفة الحالية للنظام السياسي الجديد الذي أسس أركانه الاحتلال أن يبقى العراق يراوح في نفس المكان والدوران في حلقة مفرغة ،ولجوء جميع هذه الأطراف لحل مشاكلها خارج الدستور وهياكله لأنه أصلا لا يصلح كإطار لاستيعاب ما يطرأ من تناقضات وإشكاليات في العمل السياسي.
مما تقدم فان الدستور الحالي يعد التهديد الأول لوحدة العراق وسيادته واستقلاله لأنه يؤسس إلى الفتنة والمحاصصة ويحول العراق تدريجيا من خلال بنوده وأبوابه إلى كيانات هزيلة متناحرة على الثروة والسلطة, ويسمح بالتدخلات الإقليمية ويشجع الأطراف المحلية بالاستقواء بالأجنبي على الشركاء.انعكس هذا الدستور على كافة مفاصل وهياكل ومؤسسات الدولة العراقية ولعل ملف الأمن في مقدمة ذلك حيث تغيب العقيدة العسكرية الوطنية والتي هي ظل السياسة في الميدان عن أداء القوات الحكومية الحالية, والذي يغلب عليها الشكل الطائفي وكذلك العنصرية مما يجعل العراق لعقود طويلة بلدا غير مستقر وساحة مفتوحة للارهاب بكافة أنواعه وللعنف المزمن.لذلك يخطئ من يظن أن أكثر من مليون شرطي وجندي قادرين على ضبط الأمن في العراق فالأمن نتاج محصلة نهائية لتفاعل حزمة من الملفات الشائكة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوفير الخدمات بأنواعها كالتعليم والصحة والماء والكهرباء وتطوير عناصر البنية التحتية للمجتمع والمعالجة الجدية لآثار ما بعد الاحتلال كالبطالة وملايين الأيتام والأرامل.
المقترحات والتوصيات:
تتعرض الدول عادة الى ثلاث أنماط من التهديدات ، الصنف الاول التهديدات الخارجية ( دولية وإقليمية ) ، الصنف الثاني التهديدات الداخلية ، والصنف الثالث والاخير التهديدات المركبة ، ويشكل النمط الاخير ( التهديدات المركبة ) الصنف الاكثر خطورة وتهديد على مستقبل الدول وفيه تلتقي مصالح ومطامع اطراف داخلية ( محلية ) مع مصالح وأطماع اطراف خارجية ( دولية وإقليمية ) ، وهذه التهديدات والمخاطر هي بالضبط ما يواجهه العراق حاليا . في ضوء المخاطر المركبة فان العراق يقف على شفير هاوية تتمثل في اتفاق معظم الأطراف على التضحية به والتمدد على حسابه ، وعلى ضوء هذه التهديدات يمكن ترتيب حزمة أولية من الحلول والمقترحات على هيئة حزمة أولية من مبادئ وقواعد أساسية ، وحزمة ثانية أيضا اوليةعلى صيغة سياسات وآليات تنفيذية تشكل مقدمة لاجراءات بناء الثقة .
اولا: المبادئ والقواعد العامة
1. بالنظر لفشل آليات العملية السياسية القائمة على المحاصصة ، فان هناك حاجة ماسة وحاكمة في هذا الظرف الدقيق والخطير الذي يمر به العراق لصياغة عقد سياسي جديد يقبل القسمة على جميع العراقيين ويحظى بألتفافهم جميعا حوله .
2. الاتفاق على خطوط العراق الحمر غير القابلة للقسمة أو المساومة من هذا الطرف أو ذاك مهما كان وصفه ، والمتمثلة باستكمال إستقلال وسيادة العراق السياسي والعسكري والاقتصادي ، وعدم المساس بوحدته أرضا وشعبا تحت ذريعة الأقاليم والفدرالية .
3. تجريم وتحريم المحاصصة الطائفية والعنصرية وإعتبار الترويج لهما جريمة يحاسب عليها القانون .
4. إعادة بناء وتنظيم القوات الحكومية الحالية وتحويلها الى جيش ذو عقيدة عسكرية وطنية يكون بمثابة صمام أمان للوحدة الوطنية.
5. القيام بثورة حقيقية على الفساد الإداري والمالي واعتبار جرائم سرقة المال العام لا تقل خطورة عن جرائم الإرهاب.
6. انصراف الحكومات لتحقيق قفزة على مستوى الخدمات والبنية التحتية بكافة أشكالها.
7. ضمان عراقية كركوك وإنهاء ملف أطماع الاحزاب الانفصالية بما يسمى "المناطق المتنازع" عليها .
8. عدم المساس في ظل عدم إستقرار الوضع في العراق بالحدود الادارية للمحافظات العراقية النافذة قبل الاحتلال .
ثانيا: السياسات والآليات التنفيذية:
يتلخص المأزق السياسي العراقي الحالي في أن الاحتلال تمكن من إحكام سيطرته وتحكمه عن بعد من خلال إرسائه لقواعد اللعبة السياسية الجارية في العراق والتي ستضمن هشاشة ووهن الدولة العراقية لأجيال قادمة ، حيث تقوم قواعد هذه اللعبة المرسومة بدقة منذ تسع سنوات على ثلاث ركائز ( طائفية ,مذهبية ,عنصرية) والتي تنسجم في نهاية المطاف مع المخطط الإقليمي والدولي المرسوم لمستقبل تفجير المنطقة وفق نفس الاسس ، لذلك لزاما على من يسعى لقضية العراق ومن يدعي حرصه على بناءه وفق أسس وقواعد وطنية متينة وراسخة أن يتخذ خطوات وقرارات صعبة ومؤلمة, تتعلق بأولوية الولاء للوطن قبل الحزب والطائفة أو القومية ويمكن وضع بعض المقترحات الاولية في هذا السياق والقابلة للتطوير والحوار :
1. السماح في حدود المشتركات المطروحة أعلاه في حزمة المباديء العامة وتشجيع وتحفيز القوى والشخصيات الوطنية المستقلة وخاصة من شريحة التكنوقراط ،التي لم تتلوث أياديها بدماء وأموال العراقيين على التجمع وتشكيل أحزاب ذات صبغة وطنية للعمل السياسي المعارض حاليا خارج حدود العملية السياسية الحالية والسماح لهم بالتعبير عن برنامجهم السياسي السلمي من خلال مؤتمر بدلا من إستقطابهم من قبل الدول الاقليمية المعادية للعراق، وعدم إتهامهم بالارهاب ولحين إصدار قانون الاحزاب والانتخابات الذي يتيح لهم الانخراط في عملية سياسية نظيفة خارج قواعد لعبة الاحتلال والاحزاب المهيمنة ، وهذا الامر قد يساعد كثيرا على المناورة خارج إطار الاحزاب والشخصيات المهيمنة على المشهد السياسي والمتقوقعة داخل إطار التمثيل المذهبي والطائفي والعرقي .
2. إعطاء رسائل عملية وواضحة وإتخاذ خطوات واضحة غير قابلة للبس تتعلق بإجراء ات لبناء الثقة كلإطلاق سراح المعتقلين وتعويضهم .
3. تفادي الطابع الطائفي للجيش والقوات الحكومية وإعادة بناء وتنظيم هذه القوات وفق أسس مهنية بالاستعانة بقيادات وضباط الجيش العراقي الوطني .
4. إصدار قانون للأحزاب والانتخابات ،يصحح الوضع الشاذ لدخول العملية السياسية الذي أسسه الحاكم المدني للاحتلال .
5. إلغاء حزمة قرارات الحاكم المدني للاحتلال بريمروالسارية المفعول( التي تمثل الصفحة السياسية والاقتصادية من الاحتلال ) .
6. عدم السماح لميليشيات ذات صبغة طائفية بالاستعراضات والظهوركرديف للحكومة خارج إطار الدولة وبعلمها ،الامر الذي يعزز الاصطفافات الطائفية ويحفز مجاميع وميليشيات أخرى على إستعادة نشاطها .
التعليقات (0)