مواضيع اليوم

تحقيق .. قصة قصيرة

ازهار رحيم

2009-02-09 07:58:58

0

د . أزهار رحيم

ـــــــــــــــــــــــــــ

azharrrehim@yahoo.com

البناية.. تتوسط شارع مكتظ بالمحلات التجارية التي يبيع اصحابها كل شيء، بدءاً من ادوات المطبخ الى السجاد والاثاث.. ويشتري بعضٍهم لذة مسروقة خلال دقائق مع نساء ألفن بيع الجسد في لحظات متقطعة الأنفاس، لكنها تكفيهن ثمناُ لوجبتين في اليوم.

الناس يسيرون، يتلاطمون غير أبهين كموجات بحرٍ تضرب شاطئ بتوافقٍ غريب، لأيامٍ مكررة، رتيبة، دون أمل.. ينطلق من كل صوب، صوت المذياع يهدر معلناً عن يبان انتصار جديد, ويشكر فضل الله ويتوعد بصوت هادر بالويل للأعداء.. تمتمت.. كم قلب سيفجع وعيونٍ ستطفئها الدموع ثمناً لهذه الانتصارات الزائفة؟..

وصلت الى البناية العامرة بالبشر، كانت تشعر بأنها قادمة من عالمٍ اخر.. الى ارض غريبة، شعرت بالخوف وهي تصعد السلالم منقادة بيد أخيها الذي يكبرها بأعوام.. لم يتكلما طيلة الطريق، وفي الطابق الثالث، جلست بمفردها بعد ان دلف شقيقها للغرفة التي كتب على بابها معاون المدير.. أحست ان الجميع يراقبها.. المكان يعج بالرجال.. لم تلتق عيناها سوى بامرأة خرجت من غرفة في أخر الرواق.. غمامة حزن عميق غطت وجهها … خرج شقيقها من الغرفة، نظر إليها بانكسار.. مردداً بضع كلمات لم تلتقط شيء منها سوى ..لا تخافي…

حان دورها المرسوم لها، فتح الشرطي الباب لها وادخلها الى الغرفة.. تقدمت وهي تجر خطواتها، وقفت في وسط الغرفة امام مكتب كبير تتوسطه مجموعة ملفات يتصفحها رجلٍ خمسيني يحمل فوق كتفيه شارة تاج ونجمة، لم تكن تفقه في هذه الأمور لكنها تعلم انها تعني رتبة عسكرية، بعد لحظات وبدون ان يرفع عينيه عن الورق.. قال لها:

تفضلي بالجلوس.
جلست قبالة المكتب..مرت الثواني طويلة، حاولت جاهدة ان تبدو متماسكة، ولكن البرد خذلها، كل شيء يرتجف فيها.. أحست ان الخدر بدأ بالتمدد الى الأعلى .. من أصابع قدميها الى جلدة وجهها، جدران الغرفة الرمادية أوغلت قسوة البرد في جسدها، لتنتهي بواخزات في انفها أثقلت أنفاسها.. كم أسفت لأنها لم ترتدي سوى سترة خفيفة، حاولت ان تبدد شعورها بالبرد والخوف بالنظر الى الجالس أمامها منتهزة فرصة انشغاله بقراءة الورق.. تساءلت بتردد ؟؟

هل بامكانه ان يمنحنا نعمة البقاء فوق ارض امتلكتنا وامتلكناها عقودا.. حاولت ان تستجمع شتات أفكارها الشاردة لتهرب الى فضاءات بعيدة عن المكان… فلم تستطيع إلا اجترار ندمها على قبولها ان تكون بديلة لخمسة شقيقات اكبر منها، لتكون كبش فداء في محرقة تحقيق أمني قادها إليه أقرباء هجروا الى إيران.. وبقيت هي وعائلتها الكبيرة الممتدة نحو الجيل الثالث ليكابدوا صراعاً مقيتا من اجل إثبات استحقاقهم للوطن الذي لا يعرفون غيره… لو لم يرق قلبها لمرأى والدها وهو يدلف الدار مطأطأ الرأس، والوجع قد حفر أخاديد لتجاعيد هزمت صلابته.. لم تفطن إليها من قبل..لو لم تحرق دموعه كل أحلام سنينها لترسم امامها صورة قاتمة لعائلة ممزقة، حافية، منزوعة التأريخ، تساق بهوان الى ارض غريبة، يقال انها منبعهم.. لو لم تختار إنهاء دراستها الجامعية لكانت قد تزوجت وفلتت من هذه المهمة.. لولم تكن مضطرة للقدوم هنا.

كم أرهقتها "لو" وهي تنمو في كل اتجاه لتشل تفكيرها وتغرقها في دوامة ابتلعتها بوحشية، تسارعت ضربات قلبها فأصبحت طبول تقرع بأصرار مرير في أذنيها، رقبتها.. شعرت بحرارة تخرج من مسامات جلدها محولة إياها لكتلة لهيب أمعن في توقدها، جلد الكرسي الذي يحتويها..

صوت سعاله.. أعادها الى المكان.. سحبها الى زمنه.. تنبهت ان إنسان ما.. يجلس أمامها.. رأس مفلطح، اختفى نصف شعر مقدمته، عينان جاحظتان يحيط بهما أطارا من التجاعيد العميقة، شارب كثيف اسود لا يتناسب لونه مع وفرة الاخاديد التي حفرتها اعوام تآكلت من صحيفة عمره.. ضخامة مقيتة مع بطن مترهل، كبير عجزت المنضدة عن إخفائه.. احست انه يتجاهلها عن عمدٍ و يسترق النظر اليها مصطنعاً اللهو عنها بقراءة بعض الأوراق، كانت تشعر بوقع أنفاسه المتلاحقة التي كان يتلقفها بصعوبة من جو الغرفة الذي ينشج برائحة غريبة، تسللت ببطء الى انفها بحدة قاسية لتصر على العبث بذاكرتها.. اقتحمتها حتى نخاعها لتشعرها بوقعِ حنين لطفولة بدت قصية...غامضة... لتوقظ ذكريات بعيدة وتدلها على مكان ما أو زمن ما.. تنفست فيه تلك الرائحة، حاولت بقوة ان تشحذ سكاكين الانتباه لتقطع حبال النسيان حتى تدلف الى ثنايا العقل المظلمة لتحدد هوية تلك الرائحة.. فلم تستطع، وأمام خيبتها ...اقنعت إصرارها على تناسي تلك الرائحة الغريبة التي أشعلت في صدرها مزيج من مشاعر مختلفة تراوحت بين الخوف، والقلق، الاستسلام، الغثيان.. هنا توقفت.. توصلت الى حقيقة شعورها في هذه اللحظة حتى ان هذا الإحساس بالانتصار في تحديد ما تشيع في نفسها تلك الرائحة منحها نزر من الاسترخاء.. "الغثيان" هذا ما كانت تبذره تلك الرائحة فيها..اهتدت عيناها وهي تتلهى في رحلة عبث لقتل الزمن الى مقعد طويل منزوي في احد أطراف الغرفة، لم تفهم سبباً لوجوده ، بدا دخيلاً على أثاث الغرفة، شعرت بالفزع عندما بدأت أفكارا مخيفة تقرع ذاكرتها لقصصٍ سمعتها، عن عمليات قلع الأظافر و كي المناطق الحساسة، و سحب الأطراف حتى تنسلخ الروح من الجسد.. لم تدع فرصة لهذه الصور ان تنمو وترعى لتنضج في مخيلتها عذابات تمزقها..اخبرها شقيقها انه تحقيق امني روتيني .. سؤال وجواب، للحصول على توقيع.. أيعقل ان يخدعها والدها وشقيقها ويتحالفان ضدها لرميها هنا كبش فداء يقدمانه للسلطة في سبيل نيلهم هذه الهوية الملعونة وتخليصهم من الطرد خارج الحدود!!.. قررت ان تضع هذه الاحتمال نصب عينيها، ربما استغلوا صغر سنها وسذاجتها وجهلها في تلك الأمور..تملكها أحساسا بالضياع وبدأت عيناها تدمع.. تشنجت رئتاها وأصبح الهواء هجيرا تستنشقه بصعوبة لدرء غرقها في تلك الأفكار السوداء… تنبهت اخيراً.. لتتدارك سقوطها في فخ الشك لاعنة تلك اللحظة التي اوصلتها لهذا المكان.. كم هي ناكرة الجميل لوالدٍ حنون حتى تتهمه بهذه الافكار الشائنة .. استيقظت على صوت خشنٍ يقول لها :

قرأت ملف عائلتك ... لو لا توقيع سيادته على قرار منحكم الجنسية، لكنتم الان خارج الحدود..

لم تنبس بكلمة.. تيبست شفتاها لأنها أخذت على حين غرة، لم تستطيع ان تجبيه، عاد لقراءة بقية الأوراق..

كان يتأملها من زاوية عينيه بنظرات صياد حاذق تمرس على اختيار فرائسه بمهارة.. الفريسة التي أمامه تبدو اكثر من سهلة وقريبة المنال، بدا خوفها لذيذا أستمتع به منتشيا بنظرات عينيها التائهتين وهي تبحث عن لوحة .. شمس خلف نافذة.. أي شيء لتنأى بوجودها عنه..الخوف يجعل من المرأة مخلوقاً هلوعاً يختبىء خلف اي جدار ليأمن الخطر .. لم لا يكون هوالجدار؟

..شبابها المتوثب ..حرارة بكارتها النافرة من خارطة جسدها الذي تلمس كل حدوده ،بطرفة عين مدربة لحظة دخولها ..اثارت نيران رغبته المحتضرة على ابواب شتاء مات مع امرأة انطفأت منذ سنوات .. تذكر ليالي الحسرة الموجعة ولحظات الانكسار ،والنكوص بعدها للأرق مستسلماً لفحولة ذاوية غادرته، رغماً عنه .

بدأت مساحات فيه... تستيقظ بهمس ، لتتنفض من سباتها، رويداً..رويدا، بتناغم ازدان بصور من خياله لتفاصيل أنثى تكورت امامه ..رهبة منه ، نافضة عنه التراب لتحي توقد غاب عن اعضاءه.. عليه ان يستغل الموقف مادام هو سيده، فعلها غيره وتباهوا بفعلتهم ولم تثار زوبعة، استجمع شجاعته قائلا لها:

- بامكاني التلاعب بسير التحقيق ان رفضت التعاون معنا.

نهض من كرسيه ليزيد من وطء كلامه على مسامعها معتدا بضخامة جثته، مدفوعاً بزهوٍ وثبات تمنحه اياه سلطة وظيفته.. ليقف خلفها.. شجعته ارتعاشات انبعثت من كل زاوية فيها، تجرأ ليغزو رقبتها بأصابعه الخشنة ،عرفت في تلك اللحظة هوية الرائحة... رائحة العفن ... توالت ضربات قلبها كمطارق حديدية ، توسلت بكل أسماء الأولياء ان لا تصرخ... الصراخ اعتراف بالدنس... والاعتراف قبول... القبول استسلام ومهانة... ولكنه يطوي الملف ،ويغلق ابواب الرحيل،وهي تكره الرحيل عن ارض احبتها، لا تعرف سواها ،قرأت عن اناس قدموا ارواحهم فداءٍ للمبادىء او الحق او الآخرين، هي ايضاً ستقدم جسدها لتكسب حياة لآخرين ، لن يعلم سواهما ....في النهاية سيقف الحق والباطل سوية فيلغي احدهما الاخر ولا يبقى سوى التراب الذي يجمعها، سيتآلف الكل.. القاتل والمقتول ، الجلاد والضحية، سننتقص من بعضنا لنتفتت ويصبح عفننا تراباً .. المهم... بل الأهم من سيكسب الجولة الان.. هي ببقائها الذي ستنتزعه رغما عن جلادها، ام هو الذي سيزرع حرابه القذرة في ارض باردة، يجول فيها الكره والحقد له... هو يعلم أي جثة ستكون له واية مقبرة ستحتضن دفقه، سيلعن الساعة التي قرر فيها ان يغزو يبابا يورث جفافا، أشواكا، رمالا جافة.. استمرت كفيه اللصين تتلمس الطريق، نزولا الى أزرار قميصها، ليغرزاصابعه الراجفة متلمسا السبيل لنهديها... أغمضت عينيها لعل الزمن يتسرب سريعا فينهي رحلة شبقه ليتوجها بتوقيعه على أوراقهم.

باغتتها عيون والدها الدامعة، وهو يخبرهم باتهامه تزوير أوراق رسمية وربما نفيهم، لتنهار أمامها كل المسلمات التي فطرت عليها منذ طفولتها..لا تبيحي لأي رجل ان يخترق عذريتك، ابتعدي عن الذئاب فهم مستعدون للانقضاض على كل ما يدعى أنثى ....لتنتحر أبجديات الحياة التي تلقتها في الجامعة والشارع والصديقات، حارقة كل صور طفولتها ونضجها من ..أرض ... بيت ..عائلة... وطن ..عفة... وجه حبيبها الأوحد الذي سمحت له بعد عناء باحتواء يدها فقط ...لتقضي ليلها مستسلمة لأطياف جاهدت لألصاقها في خيالها ..لقبلة لم تتذوقها.. ولأحضان لم تسحقها عشقا..فوضى الأفكار اجتاحتها ....بلا وعي... انتفضت من مقعدها بهيجان أظهر زيف قوة مقتحمها، ليتراجع الى الخلف فاقداً اتزانه، وصعقاً من بصاق غسل وجهه...

أفاق وصوت الباب يصفق خلفها بقوة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  كاتبة وصحفية عراقية





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !