تحريف التوراة أم تحريف التاريخ..؟
ما زال يدور كثير من اللغط في الأوساط الاسلامية حول مسألة تحريف التوراة، ولأزالة ما حدث من لبس في هذا الأمر، وكشف الحقيقة، لا بد من طرح هذه الأفكار السائدة في سياقها التاريخي حتى تتضح الصورة وتنجلي معالم الغشاوة التي غمرت هذا الموضوع.
وهنا ارتأيت ان أتناول بعض الآيات القرآنية التي تقول إن اليهود حرّفوا الكلم، وذلك من خلال وضعها في مكانها وسياقها التاريخي المناسب، فالبعد المقاصدي والسياق التاريخي السليم هما الأدوات لفهم النص، وعليه فان سرد الحادثة التاريخية، والاستضاءة بسبب نزول النص، يسهمان في بيان مراد ودلالة النصوص الشرعية.
وأبدأ بالآيات (75-79) من سورة البقرة، والتي أعتقد أن القرآن يتَّهم فيها بعض اليهود، بأنهم حرَّفوا كلمات محمد وهو يتلو القرآن ويشرحه، وليس بتحريف التوراة. ولكن قبل ذلك لا بد ان أروي الحادثة التاريخية التي اقترنت بهذا النص وكانت سببا في نزول الآيات المذكورة وهي: أن النبي محمد عندما هاجر الى يثرب كان كثيرا ما يتحاور مع اليهود، فكان ان روى هؤلاء اليهود امام محمد نص توراتي من "سفر التثنية" الاصحاح 21، يبين حكم الله في حالات القتل التي يكون فيها القاتل مجهول الهوية، ومعلوم ان سفر التثنية هو أحد أسفار التوراة الخمسة التي نزلت على موسى. وحدث ان سمع اليهود محمدا يقص على أصحابه خبر هذا الحكم، ولم تكن الرواية مطابقة تماما لما أخبر اليهود محمد، ولما هو وارد في التوراة، فحاججوه بما سمعوا منه، وكانت الآيات التالية من سورة البقرة، والتي تتلو على محمد نبأ موسى وما كان من خبر الحكم الشرعي المذكور، قد نزلت على محمد بعد تحاوره مع اليهود في بعض أمور التوراة :
"واذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين" (البقرة 67).
هذا الحكم وارد في التوراة في الاصحاح 21 ، وهو يبين انه في حال وقعت جريمة قتل ولم يُعرف الجاني، يتوجب على شيوخ البلدة اليهودية الأقرب الى مسرح الجريمة ان يأتوا ببقرة ويذبحوها في أحد الأودية، بعد دفن القتيل في نفس الموقع الذي لقي فيه حتفه.
"قالوا أدعُ لنا ربك يبين ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك فافعلوا ما تؤمرون" (البقرة 68).
تبين هذه الآية انها "بقرة صغيرة"، لا فارض مسنّة ولا بكر صغيرة، تماما كما هو وارد في التوراة في الاصحاح المذكور.
"قالوا ادعُ لنا ربك يبين ما لونها قال إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين" (البقرة 69).
كان هذا هو الأمر الذي اعترض عليه اليهود، فحاججوا محمد قائلين إن البقرة ذات اللون الأصفر الفاقع، وتطلق عليها التوراه "البقرة الحمراء"، ترتبط بحكم شرعي آخر ورد في التوراه، سبق وان تحاوروا به مع محمد.. فالتوراة لا تحدد لون البقرة في موضوع القتل آنف الذكر..
"قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما هي ان البقر تشابه علينا وانا ان شاء الله لمهتدون. قال إنه يقول إنها بقرة لا ذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث مسلّمة لا شية فيها قالوا الآن جئت بالحق فذبحوها وما كادوا يفعلون" (البقرة 70-71).
تتفق التوراة والقرآن انها بقرة غير مذللة بالعمل، غير ان التوراة تبين ان البقرة المسلّمة من العيوب، ولا لون فيها غير لونها، اي البقرة الصفراء الفاقع لونها، ترتبط بحكم شرعي آخر هو حكم لمس الميت، وقد ورد ذكره في أكثر من موضع في أسفار التوراة.
"أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون. واذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا واذا خلا بعضهم الى بعض قالوا أتحدثونهم بما فتح الله عليكم ليحاجّوكم به عند ربكم أفلا تعقلون" (البقرة 75-76).
القرآن هنا يعزو الاختلاف في تفسير النص التوراتي والقرآني الى وقوع فريق من اليهود في خطأ يتمثل في تفسيرهم الخاطئ لآيات التوراة الواردة في سفر التثنية، وتحريفهم لمعانيها. ما دعا بعض اليهود الى نهي بعضهم البعض من التحدث بامور التوراة امام المسلمين حتى لا يخاصم المسلمون اليهود عند الله ويقيمون عليهم الحجة.
الخلاصة ان هناك عدة اسباب تجعل القول بتحريف اليهود للرواية التوراتية الواردة أعلاه افتراء لا اساس له من الصحة، وهو نوع من الترف والفراغ الفكري:
أولا، الأحكام التوراتية آنفة الذكر سبقت نزول القرآن بحوالي ألف وخمسمائة عام، وظل اليهود أينما حلّوا وارتحلوا يعملون بها، دون ان يشهد التاريخ ولو مرة واحدة حدوث خلاف بين اليهود حول هذه المسألة، سواء في التفسير او التطبيق.
ثانيا، القرآن هو الذي نقل هذا الخبر عن التوراة وليس العكس، فاذا كان ثمة اختلاف بين الناقل والمنقول عنه، يكون الفيصل هو المنقول عنه، اي المصدر، وهو التوراة.
ثالثا، أسباب نزول هذه الآيات على محمد واضحة، فكان نزولها بعد تحاور محمد مع أحبار اليهود وسماعه خبر هذه التشريعات، والسورة كلها سميت "البقرة" بسبب هاتين الروايتين، فالرواية الاولى التي أخبر بها اليهود محمد تتعلق بأحكام "البقرة المذبوحة"، فيما تتعلق الرواية الثانية بأحكام "البقرة الحمراء"، وهما حكمان يرتبطان بمسألتين مختلفتين، فاذا التبس على المسلمين فهم مقاصد الآيات القرآنية التي تتحدث عن هاتين المسألتين، فلا يعني هذا بأي حال من الأحوال ان النص التوراتي الأصلي محرف...
رابعا، الآيات القرآنية المذكورة نزلت في يهود يثرب بعد ان عاش محمد في كنفهم، وتعلم منهم تعاليم التوراة، وحتى لو حدث خلاف بين الطرفين حول مسائل وحوادث ورد ذكرها في التوراة، فلا يجوز التعميم بان تطال شبهة التحريف جميع اليهود في كل مكان، فالقيادة الدينية اليهودية في تلك الأيام لم تكن في يثرب على كل حال، ولا يصح ان يُتهم اليهود جميعا بالتحريف بسبب خلاف فقهي بين محمد ورهط من يهود يثرب.
خامسا، الآيات (75-76) التي ورد ذكرها أعلاه يمكن ان تفهم ايضا على النحو التالي: "أفتطمعون (ايها المؤمنون) أن يؤمنوا (اليهود) لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله (القرآن) ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون".
القرآن يتَّهم بعض اليهود، بأنهم حرَّفوا كلمات محمد وهو يتلو القرآن ويشرحه، وليس بتحريف التوراة. فهناك فريق من اليهود (وليسوا كلهم) سمعوا القرآن وقالوا للمسلمين آمنا ثم حرّفوا كلام القرآن بعد أن عقلوه. وعندما اجتمعوا ببعضهم وبخ أحدهم الآخر قائلين: لماذا تحدثونهم بكلمات التوراة، فإنهم سيستخدمونها ضدكم؟
تحريف التوراة أم تحريف التاريخ..؟ (2)
في مقال يظهر على موقع (اسلام ويب) تحت عنوان "تحريف التوراة" يستعرض الكاتب بعض الروايات التي يسميها (أدلة على تحريف التوراة من واقع التوراة نفسها)، أورد في هذا المقال "الدليل" الاول الذي تناوله الكاتب، حيث يقول :
أولاً : الاختلاف الكبير بين نسخ التوراة :
فالقرآن - كلام الله سبحانه - واحد لا زيادة فيه ولا نقصان ، ولو تعددت نسخه وطبعاته ، فلو ذهب الإنسان إلى أقصى المشرق أو إلى أقصى المغرب لوجد المصحف نفسه ، لا اختلاف بين نسخه ولو في حرف من حروفها ، أما التوراة المحرفة فمن أعظم الأدلة على تحريفها وتدخل البشر في وضعها اختلاف نسخها ، فعدد أسفار النسخة العبرية المترجمة إلى العربية تسعة وثلاثون سفراً ، وما عدا ذلك لا يعتبره اليهود مقدساً ، وأما النسخة السامرية المترجمة إلى العربية فتحتوي على خمسة أسفار يسمونها " أسفار موسى " وقد يضمون إليها سفر يوشع . فانظر إلى هذا التباين الكبير ، الذي ليس له من تفسير سوى تدخل أيدي التحريف والعبث بكتاب الله ( التوراة ) عن طريق الزيادة والنقص .
لقد وقع الكاتب في مغالطة كبيرة، وضلال مبين، انما يدلان على مدى جهله بترتيب أسفار التوراة، وعدم تفريقه بين كتاب التوراة بالعبرية وبين النسخ المترجمة الى العربية. فكتاب اليهود المقدس يسمى (تناخ) ويحتوي على ثلاثة أجزاء: التوراة وهي كلام الله الى نبيه موسى وتشتمل على خمسة أسفار؛ وأسفار الأنبياء وعددها ثمانية؛ وأسفار كتوفيم أي الاسفار المكتوبة وعددها أحد عشر سفرا. وهكذا يكون المجموع الكلي أربعة وعشرين سفرا وهو عدد أسفار التناخ او ما يسمى اختصارا التوراة بنسختها العبرية. بينما أسفار النسخة العبرية المترجمة الى العربية وعددها تسعة وثلاثون سفرا، فالمقصود بها الترجمة المسيحية للتناخ وهذه الترجمة لا تراعي الترتيب الموجود في النسخة العبرية لأسباب تخص الديانة المسيحية ليس الان مجال الحديث عنها، فعلى سبيل المثال، ثمة سفر من أسفار التناخ يسمى "الاثنا عشر" يشتمل على اثني عشر من الاسفار القصيرة التي ضُمت الى سفر واحد، لتصبح هذه الاسفار اثني عشر سفرا منفردا في النسخة المسيحية العربية، وهذا للمثال لا للحصر. ان جهل الكاتب في هذه الحقائق قد جعله يرتكب ذنبا لا يغتفر.
واما النسخة السامرية التي يتحدث عنها الكاتب، فهي كتاب السامريين وهم مجموعة صغيرة لا يتعدى عددها في وقتنا الحاضر الألف، ويعتقد انهم استجلبوا الى البلاد على يد الاشوريين الذين قاموا بعمليات "تبادل سكاني" في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم تجنبا للثورات، ويدعي السامريون ان أسفار التوراة التي بين أيديهم هي أسفار موسى الأصلية، فيما يعتقد اليهود غير ذلك، وعلى اي حال لا تقر الديانة اليهودية بانتماء السامريين اليها، ما يجعل المقارنة بين الكتابين غير عادلة وغير جائزة أصلا منهجيا ونظريا.
وعليه فان الاستنتاج الذي خلص اليه الكاتب بوجود (تباين كبير بين نسخ التوراة) يوقعه في مصيدة الالتباس، وعدم التفريق بين ما هو يهودي وما هو غير ذلك...
التعليقات (0)