تحرير العقول:القسم الرابع
للحرية دور بارز في تحجيم التلقين،فكلما كانت دائرة الحرية اكبر كلما اصبح التلقين اكثر ضعفا وبالتالي سوف تكون مساحته ضمن المناهج اقل!...لانه في المجال المتحرر تنشأ عادات وتقاليد جديدة،كما ان القديم سوف يتغير باضافة الكثير من المستحدثات الناشئة من تغير الظروف،ومن هنا تصبح عملية التلقين متنوعة مما يعني ان التركيز على فكر ومنهج واحد يكون صعبا بفعل الاختلافات الموجودة في المجتمع والتي لها تاثير بارز على العملية...اذا هنا سوف يكون لدينا ظاهرة جديدة تتمثل بالاضافة الى الحرية وهي التنوع في مكونات المجتمع سواء اكانت دينية او مذهبية او لغوية او عرقية بالاضافة الى الاختلافات في المجتمع ذاته...كل تلك الاختلافات وغيرها تؤدي الى اضعاف عملية التلقين الاحادية الفكر والمنهج...نعم لكل فئة مميزاتها عن الاخرين ولكن بالتأكيد التفاعل الحضاري المستمر مع المجموعات الاخرى لابد ان يؤدي في النهاية الى تغيير ولو طفيف في الفكر والمنهج،وهذا ما يدعونا الى التأمل الى ان المجتمعات المتنوعة الاطياف هي اكثر انفتاح ولو على مستوى المجتمع من المجتمعات الاحادية الصبغة او الثنائية... بمعنى اخر انه كلما ازداد عدد المجموعات في المجتمع كلما ازدادت حركة الانفتاح والتعايش مما يؤدي الى وجود مناهج مختلفة للتلقين على الاقل تضعف صفة التعصب او التقوقع ضمن فكر محدود الابعاد...
ظهور الاسلام بما يمثله من منهج حضاري متقدم في القرن السابع الميلادي،ساعد على انبثاق نهضة حضارية،لكنها مع الاسف الشديد ضعفت بشدة بسبب الانقلاب على الحكم وتحوله الى ملكية استبدادية تمثلت في الدولة الاموية وماتلاها من دول اخرى،اي الاسباب سياسية بالدرجة الاولى... وبالرغم من ان الصراعات والثورات التي حدثت في وقت واحد مع اتساع حجم الدولة لتصبح اكبر واقوى قوة على الارض، ساعد على ظهور نظريات وافكار وقيم وعادات متعددة مما يعني تنوع ثقافي كبير من خلال تنوع المجتمعات المسلمة والاقليات الاخرى التي تعيش في داخل الدولة....
اصبح لكل فئة او طائفة في العالم الاسلامي منهجها المختلف في التلقين الذي كان ديني ومذهبي في الاساس مع جزء اقل من الثقافات الاخرى...وبما ان الدول اتبعت سياسة دعم علني واضح لبعض القوميات والعناصر والقبائل والمذاهب دون غيرها،ادى ذلك الى سيادة البعض وضعف البعض الاخر...ولكن القسم الاول السائد سوف يكون تلقينه منحصرا ضمن مناهج لا تتعارض مع مناهج الدولة وسياساتها خاصة مع تقريبها للموالين وابعادها للمعارضين! وهو ناموس حياتي قديم لا يمكن تغييره الا اذا ضعف دور الدولة في المجتمع!...بينما يكون القسم الاخر المعارض ايا كان،هو اكثر حرية في السيرة والمناهج والسلوك وبالتالي في عملية التلقين بالرغم من التضحيات الجسيمة التي تنشأ من خلال الصراع مع الدولة ،لان الاعتماد على الذات والتحرر من قيود التبعية المادية والمعنوية سوف يساعد كثيرا على تحرر الافراد من القيود الثقافية التي تخلقها ارادة الدولة لكسب الانصار وتدعيم سلطاتها...وبالرغم من ان عملية التشويه والاضطهاد التي حدثت الى الفرق المعارضة والتي اوصلت جزء صغير من تراثها الضخم لنا،الا انها اسست لمناهج فكرية مختلفة ومتطورة كثيرا عن غيرها...
وبما ان الدين الاسلامي والثقافة الاسلامية يمثلان حجر الاساس في الحضارة الاسلامية للشعوب المسلمة،فقد اصبح تطورها هو نقطة البداية في النهضة الحضارية المتعددة الجوانب ومنها في العادات والتقاليد الاجتماعية والتعليم ومناهجه،مما يعني ان اي ضعف او تقييد او تشويه سوف ينعكس سلبا على التعليم وحريته واستقلاليته مما يعني بقاءه في خانة لا تسمح له بالتطور الذي يواكب حركة الزمن...
ولذلك رأينا ان بداية الانحطاط في الحضارة الاسلامية بدأ من خلال حصر الدين ضمن مناهج فكرية ثابتة لا تتعارض مع الدولة ومنهجها وبالتالي اثر سلبيا على المجتمع واخضعه لتلك العملية،لان للدين دورا اعلى بكثير من دور النظريات والمذاهب الفكرية العلمانية في المجتمعات الشرقية في تلك الحقب الزمنية.
كما هو معروف انه تأسس في القرن الهجري الاول عدد من المذاهب الدينية والفكرية،وسرعان ما اصبح عددها كبيرا جدا بحيث تلاشى عدد منها بفعل الضعف في البنيان الفكري والابادة لانصارها من الدول او الفرق المنافسة،واكيد من ضمن هذا الخليط عدد من الفرق الموالية والاخرى المعارضة،والدول اسست من ضمن اعمالها مذهب معين ليس بالضرورة ان يكون ديني،بل احيانا فقط فكري لكي تبرر شرعيتها لانصارها ويكون حجة بوجه اعدائها!...
كثرة الملل والنحل الموالية هو ليس في صالح الدولة! لانه سوف يسبب تناحر قد يؤدي الى انهيار الدولة،ولذلك حصرت الدولة العباسية وغالبية الدول الصغيرة الاختيار ضمن اربعة مذاهب اسلامية من فقهاء بعضهم متوفين ولكن من خلال اختيار تلامذتهم كقضاة ومدرسين مثلا،والاختيار تم على اساس انها لا تتعارض مع منهج الدولة ولغرض حصر الخلافات وخاصة الفقهية والسياسية ضمن تلك المذاهب الاربعة،وفي المقابل ابعدت البقية التي تعارضها في المنهج والسلوك!...
باب الاجتهاد كان مفتوحا قبل تلك المذاهب الاربعة وبعدها،وهو يساعد على تنمية البحث والاستقلال في الرأي ضمن قيود المصادر الشرعية الاربعة،وهو ايضا يساعد على الحرية في البحث الثقافي مما ادى الى ازدهار العلوم المختلفة سواء اكانت دينية ام مدنية...وعندما رأت الدولة العباسية وفقهائها ان عملية الاجتهاد تؤدي الى الخروج من المذاهب الاربعة من خلال تأسيس مذاهب اخرى او على الاقل تغير في جزء منها،مما يعني ان الباب سوف يكون مفتوحا لنشوء مذاهب وافكار قد تتعارض مع الدولة والسائد في المجتمع،فوجهت ضربة قاصمة للفكر وحريته من خلال غلق باب الاجتهاد الذي تذكره بعض المصادر بين القرنين الرابع او الخامس الهجري،وقد استمر المنع بالرغم من معارضة البعض او دعوة الاخر لفتحه لغاية الان دون ان تكون هنالك بوادر عملية لفتحه كما كان معمولا به...
في المقابل فأن المذاهب الاخرى ومنها المذهب الشيعي بقى باب الاجتهاد مفتوحا لغاية الان مما ساعد على نشوء وارتقاء نهضة فكرية في مختلف المجالات واصبحت حرية الفكر والنقد والتحديث اعلى بكثير مما هو موجود لدى الاخر...
غلق باب الاجتهاد لدى البعض وفتحه لدى البعض الاخر،ادى الى نشوء مدرستين رئيسيتين للتلقين! والاختلاف كبير بالرغم من ان بعض الطرق المنهجية متقاربة، هذا يؤدي بنا الى نتيجة مثيرة وهي ان غلق باب الاجتهاد يؤدي الى ضعف فكري اعلى مما يؤدي الى ضعف قبول للاخر او التفاعل معه للاستفادة من مناهجه واصوله،وهو يؤدي الى نشوء مدرسة تلقينية سواء اكانت مذهبية او فكرية اكثر تشددا من غيرها...بينما في المقابل لدى الاخر الذي ابقى على الباب مفتوحا،نشأت لديه مدرسة تلقينية اقل تشددا واكثر تنوعا وتتغير بسرعة اكبر من الاخر بمرور الزمن...ومن هنا نلاحظ ان غالبية التشدد والتعصب ينطلق من مذاهب مغلقة في الانفتاح واكثر تلقينية لافرادها من غيرها،دون نسيان اهمية العوامل الاخرى ومن ضمنها عادات المجتمع وتقاليده الاجتماعية والتي تتاثر بصورة مباشرة بالعوامل السابقة الذكر...
المذهب الحنبلي هو اكثر المذاهب تشددا وبيئته الصحراوية البعيدة عن الحواضر الاسلامية ساعد كثيرا على انغلاقه وعدم قبوله للاخر او التفاعل معه،وهو بذلك اسس لمدرسة تلقينية في اقصى مستوياتها والتي تعارض بشدة اي تحديث للمناهج سواء على الصعيد الديني او الفكري الاخر...هذا يؤدي الى نتائج مختلفة عن الاخرين من خلال نشوء اجيال تتربى على مناهج تلقينية غير خاضعة للفحص او التجديد لكون محاولات التحديث تواجه معارضة شديدة من قبل الغالبية العظمى مما يؤدي الى نشوء حالة عدم تقبل للاخر حتى في ابسط الحالات المعيشية وكذلك ضعف كبير في الابداع الضرورية لمواكبة التطور الطبيعي للحياة...
في المقابل فأن بيئة المذاهب الثلاث الاخرى والتي كانت اقل تشددا واكثر اختلاطا مع الاخر،هي الاقل تركيزا في عمليات التلقين والاكثر تقبلا لمدخلات التحضر والتحديث،ولا ننسى تأثير القرب الجغرافي سواء من اوروبا كما هو حاصل لمصر والمغرب العربي او العيش في بيئة جغرافية تضم فرق دينية ومذهبية اخرى كما هو موجود في بلاد الشام،هذا يؤدي الى انفتاح اكبر واختلاف في العادات والتقاليد التي تصبح متقبلة للاخرين بالرغم من الاختلافات الجوهرية العديدة...
التعليقات (0)