السبت 26 جانفي 2013 اعتذر رئيس الحكومة التونسية عن الإيفاء بوعده في الإعلان عن التحوير الوزاري بعد أن تمّ إرجاؤه العديد من المرّات منذ بدأ الحديث عنه بداية الصائفة المنقضية.الاعتذار لا يُخفي إحساسا بالحرج في ظرف لم تعد فيه البلاد قادرة على تحمّل مزيد من العثرات والأخطاء...
لكنْ لعلّ رئيس الحكومة فعل خيرا حين فضّل مَنْحَ نفسه مهلة أخرى بأيام معدودة على أن يُعْلن عن تحوير يلتزم بالموعد المقرّر ولا معنى له باستثناء دلالاته غير المقنعة لدى من قبلوا بتحمّل حقائب وزاريّة لا ترقى لتلك الغاية المراد بلوغها،غاية إحداث صدمة إيجابيّة تستعيد السلطة الحاكمة من خلالها ثقة الشعب بها وقد نالها اليوم ما نالها من ضعف وخدوش وندوب...
وسواء قصد رئيس الحكومة أم لم يقصد تحرير الحوار المنشود بين قوى المجتمع من قبضة ضغط التحوير الوزاري،فإنّ هذا الأخير،في ظل استحالة جهوزيته في الموعد المقرر أعطى فرصة ثمينة لطرح استحقاقات المرحلة المقبلة...
لم يُعلن الجبالي عن التحوير الوزاري ربّما تحسّبا من أحكام قاسية يختزلها المثل العربي الذي يقول "أطال الغيْبَبة وأتى بالخيّبَة"،خصوصا أنّ التسريبات المتداوَلة حول هذا التحوير كانت دون التوقعات المرتقبة بكثير من حيث دلالة الأسماء الجديدة المرَشّحة والأسماء المغادِرة باعتبارها لا تستجيب للحاجة المُلِحّة إلى توسيع لقاعدة الائتلاف الحكومي ولا تترجم إرادة سياسية جدّيّة للتوافق الوطني المنشود من أجل اجتياز ما تبقّى من العمر الإضافي للمرحلة الانتقالية الثانية بسلام،إذ الوضع العام في البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا أصبح من الهشاشة بما لا يسمح إطلاقا بمزيد من التخبّط والأزمات والاحتقان...
ولئن كان زاد رئيس الحكومة خاويا بخصوص الإعلان عن التحوير الوزاري خلافا لما كان منتظرا،فإنّ ذات الرّجل الجالس على كرسيّ السلطة وهو يعقد ندوته الصحفية كان لافتا بهدوئه واستيعابه للرأي المخالف والبناء عليه ووضوح رسائله التي لم تخْلُ من مضامين جديدة وجريئة قياسا بخطابات سابقة كانت تنقاد "مُكرَهة" إلى عدم الإجابة عن الأسئلة الحارقة إلاّ بما يزيدها التباسا وتعميقا لمشاعر الحيرة والإحباط لدى جمهور عريض من التونسيين...إذنْ يُحسَبُ لفائدة خطابه الجديد تحرُّره من تبريرِ ما لا يُبَرَّر ومن تبرئة ساحة القائمين على السلطة من المسؤولية في ما يحدث من توتّرات وأزمات،بدا متجاوزا لما يُعيد إلى جدل عقيم محدّدا وصفة علاج كما يستوجبها أيّ تشخيص يقوم به خبير في مجاله...أعلن بوضوح عما لا يختلف معه فيه أغلبية التونسيين من ذلك:
- "ضمان الدولة المدنيّة" باعتبار "الدولة لكلّ أبنائها" وهي الحامية للحرّيات..
- بخصوص العنف أكد على ضرورة "التزام الجميع بإدانة العنف سواء كان عنفا دينيا أو اجتماعيا أو سياسيا" ورفْض أن "ينقسم المجتمع إلى مسلم وكافر" ونبْذ "النعرات الجهوية والعروشية"..
- ولدى تطرّقه لبرنامج المرحلة القادمة أكّد على أنّ الحوار الوطني لا بدّ منه ودون استثناء أيّ طرف في كنف "حياد الإدارة عن التجاذبات السياسية مهما كان مأتاها وخاصة في التعيينات في مفاصل الدولة" مشدّدا على ضرورة إرساء مؤسسات مستقلة للإعلام والقضاء وتهيئة المناخ الملائم لإنجاح انتخابات ما بعد المرحلة الانتقالية مع ضمان نزاهتها وشفافيّتها وفق رزنامة توافقية ومع "تشريك مراقبين دوليين وبعدد كبير"..
- وفيما سمّاه بـ"المسار الثاني" الذي قصد به العمل الحكومي في المرحلة المقبلة أعلن عن مقاومة الفساد وتعويض الضحايا بمن فيهم من شملهم العفو العام والسهر على استتباب الأمن باعتبار وجود "مخاطر تهدد البلاد من الدّاخل والخارج" وتسريع نسق التنمية "بقدر الاستطاعة" بما في ذلك أولويات "التشغيل والتنمية الجهوية ومحاربة الفقر وغلاء المعيشة."...
قد يقول طيف واسع من المعارضة أنّ ما أعلنه رئيس الحكومة ليس بجديد لأنّه لا يختلف في مجمله عمّا طالبوا به ودعوا بإلحاح إلى اعتماده وتقاطعت معهم في ذات التوجه جمعيات ومنظمات وفي مقدّمتها منظمة وطنية عتيدة الاتحاد العام التونسي للشغل.هذا صحيح لا غبار عليه،لكنّ الحكومة التي تقودها أغلبية من حزب حركة النهضة الإسلامية تبدو قد حققت نقلة نوعيّة في تزكية نقاط الالتقاء الجامعة بين أغلبية التونسيين بمن فيهم جناح مهمّ من النهضويين ولعلّ في مقدّمتهم رئيس الحكومة الذي يتقلد الأمانة العامة للحركة والذي قد يكون بخطابه الجديد أوحى بتحرّره من الضغوط المسلطة عليه من الجناح المتشدّد في حزبه...وذات الاستنتاج قد يجد ما يسنده في إجابة حمادي الجبالي عن سؤال أحد الصّحفيين الذي استفسر عن صحة التسريبات التي تتحدث عن جناح متشدّد وآخر معتدل داخل حزب حركة النهضة،حيث لم ينْفِ ذلك في سياق ردّه الذي دافع فيه عن شرف انتمائه لحزب ادّعى تأصّل الممارسة الديمقراطية في صلبه والتي تفترض الاختلاف في وجهات النظر...
في المحصّلة تبقى الأقوال بحاجة إلى أفعال تضفي عليها مصداقية وإلا كان الكلام بكلام يتبادله الفرقاء السياسيون "لغاية في نفس يعقوب" سرعان ما يفضح زيفه اختبار على محكّ الواقع وتتلقى الشعوب رسائله،غالبا،بحسّها وحدسها أكثر مما تحفل بتلقّيه بوسائل أخرى مهما كانت جميلة ومُنَمَّقَة...والشعوب قد تتغاضى عن هفوات نخبها لكنها لا ترحم حكامها إن أذنبوا في حقها...
ويبقى التحوير الوزاري المرتقب مؤشّرا من بين مؤشرات أخرى أهم على صدق النوايا في إنقاذ البلاد من الانحرافات الخطيرة التي تردّت فيها...ولا سبيل آخر للحل سوى الحوار لا من أجل الحوار،بل لغاية التوافق حول وصفة معالجة القضايا المؤرّقة التي تهم حاضر ومستقبل تونس.ولا خير في حوار يتمسّك فيه كلّ طرف بادّعائه احتكار الحقيقة...
التعليقات (0)