الآن وقد انطلق العد العكسي لانتخابات جماعية مبكرة، بعد أن فرض الدستور الجديد إعادة تشكيل المؤسسات المنتخبة، بدأت الحرارة تعرف ارتفاعا ملحوظا بين "ثوار" الأمس مخلفة أعراضا غير معهودة تعكس حالة من التخبط و التخوف الشديد من مغادرة كراسي البلدية، ليدخل بعضهم، على إثرها، في هستيريا بحثا عن أي خيط يعلقون عليه أمل العودة من جديد إلى مقر تدبير الشأن العام.
فمن كان يتوقع أن يمضي 6 سنوات من عمره على كرسي وثير، وجد نفسه، اليوم، أمام صدمة حرمته من فرحة غير مكتملة، وجعلت كل من بقي على سفينة "اركانة"، الغارقة أصلا في بحر الكارثة ، يبحث، في لحظات وجل ودون خجل، عن أي موجة للخلاص حتى و إن بدا عاريا من فوقها.
ولهذا لم يكن مفاجئا أن يظهر هؤلاء المغضوب عليهم في شوارع المدينة في مثل هذه المواقع، فالأشهر القليلة المتبقية، التي تفصلنا عن الانتخابات الجماعية، باتت مصدر أرق دائم بالنسبة اليهم، خصوصا وأنهم ايقنوا أن حظوظهم في الفوز باتت منعدمة وأن رصيدهم النضالي نفذ و لم يعد كافيا لبعث رسائل الحب والاستعطاف، بعد أن خلفت تجربة "أركانه" الفاشلة مرارة لدى الرأي العام الذي يشهد اليوم على تسيب غير مسبوق في تسييرها.
ولعل الخرجات والشطحات، التي تتناسل هذه الايام، و سياسة تزيين "الواجهات الامامية" في محاولة لخداع البصر، تعكس بالضبط الرغبة الجامحة لهؤلاء في انقاذ انفسهم من تيار الشارع، الذي بدأ يعد العدة للفظهم ونفضهم عن كراسي التسيير، بعد أن جعلوا من أولويات "التنمية الموعودة" تحييد الأصوات المزعجة والانتقال، بعد ذلك، الى محاباة رموز الفساد، دون أن يدركوا، حينها، انهم قد بدأوا، عمليا، في هدم جسر الثقة من حولهم ومن خلفهم وهم لا يشعرون.
واذا كان الرئيس قد سعى، قبل ما يقارب العام من الآن ــ حتى لا ننسى ــ إلى تسخير معدات البلدية و"أدواته التنفيذية"، بالإضافة إلى "البلطجية"، الذين كان بعضهم يهدد المحتجين نهارا جهارا، من أجل إفشال مسعاهم في التحضير لمعتصم بحي "بولعلام"، فها نحن اليوم نكتشف وجوده من بين المعتصمين لدفعنا الى الاعتقاد بانه يقف، ودون تردد، إلى جانب الفئات المسحوقة من هذا الشعب.
كان من الممكن أن لا يشكك أي احد في هذا الظهور المفاجئ لو أن الرئيس، وطوال السنوات الثلاثة الماضية، ظل بنفس الجلباب النضالي، الذي لبسه في مرحلة من المراحل وتخلى عنه بمجرد جلوسه على كرسي البلدية، ولم يتخلف عن الوقوف الى جانب المطالبين بالشغل والكرامة، أما وقد فعلها اليوم، بعد علمه بدنو محطة الانتخابات الجماعية، فالأمر لا يعدو أن يكون محاولة يائسة لذر الرماد في العيون و مناورة مكشوفة تستهدف تصفية حسابات عالقة و تسهيل عملية بحث شاقة عن قشة خلاص لعلها تنقذه من غرق محتوم.
فاذا كان يعتقد أن "حركته" من بين المعتصمين، تقدم خدمة تستحق الثناء، فعليه أن يعلم أن واجبه ، كرئيس للبلدية، يحتم عليه أن يبادر إلى حل مشاكلهم، بما فيها العمل على خلق مناصب شغل من خلال البحث عن فرص استثمار، كما يوصي بذلك الميثاق الجماعي ــ والذي لا يتذكره الا عندما يرغب في الحديث عن صلاحياته الواسعة ــ لا أن ينخرط في البكاء مع الناخبين و يسارع الى الهروب الى الامام متملصا من مسؤولياته ويلتحق بصفوف المحتجين من المُهَمشِين.
إن سياسة التجميل، التي تخضع لها هذه الوجوه التي فقدت ما تبقى من ماء في عيون الناس، لن تنجح في إخفاء الملامح الحقيقية التي تكشفت و انعكست على مرآة واقع تسيير الشأن المحلي، بكل وضوح، على إثر السقوط المتسارع للأقنعة.
فالتجربة التي أوصلها الرئيس إلى الفشل، وللأسف، عبر زرعه لرياح الفتنة، لم تخلف في الحقيقة إنجازا يذكر عدا عاصفة التفرقة التي لم تتأخر في إسقاط ورقة التوت عن شجرة "اركانة"، هذه الاخيرة التي ما فتأت، هي الأخرى، أن ترهلت جذورها في الحقل السياسي المحلي بعد أن غادرها الإخوة والرفاق على حد سواء.
والمثير للسخرية في كل هذا أن الأمر لم يقف عند هذا الحد من السخافة ، بل تعداه الى أبعد من ذلك، حين تحولت هذه التجربة الفاشلة إلى مرتع للأفكار المتخلفة والعنصرية المقيتة. فاذا كان كلنا يدرك أن سيدي افني، وعلى عكس الكثير من المدن، تعتبر مزيجا فريدا وغنيا بالإثنيات المختلفة و المختلطة في قالب اجتماعي متميز، نتيجة لكونها منطقة عبور للقبائل القادمة من كل حدب وصوب، فان قيادات الفتنة لم تتورع عن نفث سموم العنصرية القبلية في أوساط الناس، في ضرب صارخ لمواثيق الجمعيات الحقوقية التي يدعي هؤلاء و يتبجحوا ، بمناسبة أو بدونها، بالانتماء إليها والدفاع عن مبادئها؟
وهكذا اضحى الضيوف الوافدين بالأمس، شيوخ قبائل متخصصين في تحديد هوية الداخل والخارج كما لو كانوا سكانا اصليين لهذه المنطقة، بينما نعرف جميعا من أين أتوا وإلى أي القوم هم ينتمون.
اليوم، حري بهؤلاء أن يعترفوا بأخطائهم ويقدموا اعتذارا يعلنون من خلاله، و دون حرج، عن فشلهم وعن إفشالهم للتجربة في مختبر الممارسة، ومسؤوليتهم عن اهتزاز مصداقية "أركانة" لدى الرأي العام الذي لم يعد يكترث لتلك الاكاذيب السمجة والاشاعات التي توزعها، وبلا جدوى، بعض مما تبقى من أبواقهم الصدئة.
أما محاولة خلط الاوراق على طاولة اللعبة السياسية، فهي خطوة لا طائل فيها، عدا أنها تعيد الى ذاكرتنا لحظات مرح من طفولتنا البعيدة، حين كنا نلتف حول لعبة الورق، وعندما يشعر أحدنا بحتمية هزيمته، يسارع، في خطوة استباقية، الى خلط الاوراق بسرعة فائقة، قبل أن يصيح في وجوهنا بالدارجة الإفناوية الرائعة، وابتسامة المُنتقم تعلو محياه، " وا تْحرْم الطْرحْ!".
التعليقات (0)