ما زال التونسيون مشدودين إلى تداول التشهير برموز نظام الحكم الذي أطاحت به ثورة 14جانفي 2011والإلحاح على إماطة اللثام على جرائمهم المتّصلة بالقمع والنهب والفساد بكلّ أشكاله خاصة تلك المتّصلة بالرئيس المخلوع وزوجته وبطانتهما من الأقارب والأصهار والمقرّبين،وذات الحال نقف على ما يشبهها في مصر وإن بدت في مضامين التعبير عنها أقلّ حدّة من مثيلتها في تونس لأسباب قد نجد لها ما يبرّرها...
وحيث أنّ الأحداث تتلاحق بنسق سريع واستحقاقات الراهن كثيرة ومتشعبة ومحفوفة بالمخاطر رغما عما تفتحه من آفاق رحبة،فإن التعاطي الحكيم مع المرحلة يستوجب التركيز على تكثيف الإسهام في التأسيس لمرحلة ما بعد الاستبداد بما يمنع الاستبداد ويؤمّن شروط التعافي والمناعة للوطن .
لذا فإنّ التونسيين وهم يجلدون ماضي جلاديهم القريب،تفطّنوا أنّ عهد تونس الاستقلال ليس كله شرا،ومن ثمّة انصرف جمهور عريض إلى استرجاع حقبة من تاريخ الوطن المجيد بمناسبة الذكرى الحادية عشرة لوفاة الزعيم الحبيب بورقيبة (أول رئيس لتونس المستقلة) التي أطلت عليهم يوم 6 أفريل لتُتيح فرصة الانشغال عن "طاحونة الشيء المعتاد" ببناء الذات اعتمادا على الصفحات المشرقة التي دوّنها الرواد المصلحون ...تحولت مدينة المنستير-مسقط رأس "الزعيم" وأين ترقد رفاته-إلى قبلة للزوار في إطار حركة نشيطة فكرية وسياسية وإعلامية..غاية هذه الحركية،لئن كانت لا تخلو من محاولات التوظيف السياسي،فهي بالأساس دعوة إلى الانخراط في استكمال مشروع الحداثة البورقيبي استلهاما من تجربة قائده الثرية بالعبر والدروس إبان الحركة التحريرية ضدّ الاستعمار ثم في العهد الأول للاستقلال...
تزامنا مع هذه الاهتمامات يسترعي الاهتمام انخراط التونسيين بأعداد كبيرة وبقوّة في الانشغال بالشأن العام،خصوصا منهم شريحة الشباب في المواقع الاجتماعية (فيسبوك بالأساس) التي تحوّلت إلى المنبر الإعلامي الأكثر إغراء وانتشارا وتأثيرا،مضمونه يعتمد الكلمة والصورة ومقاطع الفيديو ويتّسع لكمّ هائل من الأخبار والتعاليق والتسويق لأطروحات متباينة،يمتزج فيها الهزل بالجدّ،واللهجة الهادئة المهذبة مع أخرى متوتّرة ولاذعة...يُلاحظ بوضوح أنّ المساحة الفيسبوكية لم تعد تترك المساحة الكبيرة للتغطية الرياضية والغنائية والدردشات الهامشية...هي تُركّز على التطلعات المتصلة بقضايا حماية الثورة وتفعيل أهدافها وبالانفلات الإعلامي والأمني ومظاهر من الفوضى تشكو منها مؤسسات عمومية وخاصة لتصل حتى إلى بيوت الله من مساجد وجوامع،وبقضايا بطالة حاملي الشهادات العليا والشباب التي تعزّزت بالبطالة الفنية لأعداد تجاوزت العشرة آلاف عامل في مؤسسات اقتصادية أضرّت بها الإضرابات والاعتصامات وركود القطاع السياحي الذي يُعَدّ في مقدّمة القطاعات المشغّلة،وقد زاد "الطّين بلّة" عودة أعداد كبيرة من التونسيين العاملين في ليبيا نتيجة الوضع المأساوي الذي يعيشه هذا البلد الشقيق في انتفاضته ضد الاستبداد...
من الموقع الاجتماعي على الشبكة العنكبوتية فايسبوك يمكن أن ننتقي:
"هل تصبح ثورة تونس أضحوكة العالم بعد ثورة رومانيا ؟
في سنة 1989 قامت ثورة مليونية من أمجد ثورات الأرض في رومانيا و تمكن الشعب من تحقيق النصر و قاموا خلع ثم تصفية الديكتاتور الطاغية شاوشيسكو ، فرح الشعب بالحرية و بالنصر على الطاغية لكنهم تناسوا طغاة نظام شاوشيسكو، أطاحوا بالرئيس و لم يطيحوا بنظامه فكانت النتيجة عودة نظام شاوشيسكو إلى هرم... السلطة بعد سنة و نصف . و عاد الطغيان من جديد و تم تصفية رموز الثورة جسديا و إعتقالات بالجملة و إعدامات بالجملة لكل رافض لهم. هذآ تاريخ و غير بعيد! زعمة توانسة يتعلموا من التاريخ؟؟"
"الصحافة التونسية الى مزبلة التاريخ ...و جميع وسائل الاعلام ... عاش الفايسبوك العظيم."
هكذا تبدأ القصة ، دولة كافرة تحتاج الى الاسلام ، و هكذا يأتي البطل ليعيدها الى جذورها الاسلامية و يطبق شرع الله ، و هكذا يختلط الاسلام بالسياسة ، و هكذا تنتهي القصة حتى لا تكون انتخابات تونس 2011 انتخابات الجزائر 1991.
في المشهد المقابل مؤسسات حكم مؤقتة تباشر مهامها تحت وقع ضغطٍ يومي شديد الوطأة ناتج،من جهة،عن تشكيك في شرعيتها ومصداقيتها،ومن جهة أخرى،عن صعوبة تأمين السير العادي للحياة العامة في البلاد في ظلّ عدم عودة منظومة الإنتاج الاقتصادية إلى مسارها الطبيعي بالشكل المطلوب الذي يتّسق وظاهرة مطلبية شعبية تريد الاستجابة لمشاغلها للتّوّ..وفي نفس ذات السياق جهود تُبذل من أجل العمل على الإيفاء بالاستحقاق الانتخابي المعلن ليوم 24 جويلية 2011 في مناخ لا يخلو من مزايدات وتوتّرات وعراقيل جدية تفصح عنها،بالخصوص،أشغال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.ذلك أنّ النظام الانتخابي المراد اعتماده في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي الذي سيتولّى مباشرة أعباء الحكم وصياغة الدستور الجديد للبلاد ليس محلّ اتفاق من الجميع من منطلق أنّه يُعَدُّ الجسر التشريعي الوحيد للعبور بتونس إلى ما بعد المرحلة الانتقالية الحالية التي أفرزتها الثورة.نقلت الوكالة التونسية للإعلام (وات) في تغطيتها لأشغال الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة هذه العيّنة التي تقول:
"أكد المتدخلون على ضرورة أن يعكس المجلس الوطني التأسيسي تطلعات ومطامح الشعب التونسي بمختلف أطيافه الفكرية والسياسية وأن يكون مفتوحا أمام كل شرائح المجتمع، لاسيما الشباب الذي صنع ثورة 14 جانفي ونجح في تخليص البلاد من كابوس الظلم والاستبداد... وحذرت أطراف أخرى من الإعلام المقنع والإعلام المموه ومن مغبة توظيفهما للتأثير على الناخبين تماما كالتوجه نحو الإعلام الأجنبي للترويج لأفكار وأطروحات أطراف دون أخرى...تكريس مبدأ المناصفة في تمثيل المرأة والرجل صلب المجلس، معبرين عن رفضهم اللجوء إلى الإعلام الأجنبي للقيام بالحملات الانتخابية... "
الخلاصة،لئن كانت الثورة في إطاحتها بالدكتاتورية عملا تاريخيا رائعا،فإنّ التحديات التي تطرحها لاستكمال شروط نجاحها ليست بأهون من إسقاط حاكم طاغية،ذلك أنّ الأهمّ هو تأمين شروط عدم تفريخ استبداد جديد وولادة دكتاتورية أخرى من رحم الثورة.
التعليقات (0)