تحالف الحضارات
المقدمة......
(( ولقد كرمنا بني آدم...)) (1)
إن تناول موضوع الحضارة أياً كانت هويتها لابد أن ينطلق من الأمة التي تتبناها، وتحاول تجسيد مفاهيمها، وتتعامل مع أبنائها على ضوء تلك الأفكار والقيم؛ حتى يكونوا أمام تجسيد حضاري يرسم صورة ما تعتقد به، وليس مجرد فكر تجريدي لا يقوى على التطبيق، ولا يقاوم الشبهات المثارة بوجهه، فالأمة ما لم تتوحد في داخلها لا تستطيع أن تحمل لواء حضارة تتسع لبقية الأمم على أسس المشتركات الإنسانية، ووفق موازين العدالة.
إن المتلقي لكل معطى حضاري ينظر إلى آفاق التطبيق والممارسة أكثر مما يجنح إلى التحليل النظري؛ لذا كانت حضارات العالم وفي مقدمتها الحضارة الإسلامية أمام استقطاب واحترام أبناء الأمم الأخرى؛ لما تمتعت به من تجسيد حي للمعاني الإنسانية بشكل جعل من بني الإنسان أمام أمة وحضارة تحترم خصوصياتهم؛ فنحن أمام مسؤولية أكبر من أن تكون مجرد تعدد الحضارات أو حوار الحضارات، أو تنسيق أو تعاون بل نحن أمام مسؤولية تحالف الحضارات علـّها تصل إلى الاندماج الحضاري تأسيساً على المشترك الإنساني الواسع الذي تلتقي عليه المدارس الفكرية المختلفة.
أمتنا الإسلامية مدعوة اليوم لأن تضطلع بمهمة أداء الدور الحضاري الإنساني من جديد انطلاقاً من تغيير وضعها الداخلي، ومن خلال مراجعة كاملة لعوامل التشرذم والفرقة باتجاه توحيد كلمتها، وتعزيز عوامل التوحّد والوحدة بين مختلف مكوناتها المذهبية والفكرية على أساس القرآن الكريم والسنة المطهرة، لأخذ الدور الريادي في بناء حضارة إنسانية عادلة.
تعدد الحضارات :
تحتل ظاهرة التعدد الحضاري في عالم اليوم أهمية ملفتة للانتباه، ومحفوفة بالخطر من خلال كونها تعبيراً عن حقيقة تكوينية مودعة في خلقة الإنسان تنامت على مرّ الزمن، وتمظهرت على شكل منظومة معرفية لها سياقاتها التي تميزها عن غيرها من الحضارات، واستقطبت أعداداً من الناس ممن جُبــِل عليها، وآمن بها، وتفاعل معها.. ولو كانت هذه الحضارات قد عاشت عصر الحواجز، وزمن البطء، وعدم التسييس لما تعرضت لنمطية التفاعل الحاد، لكنها وبسبب التفاعل المستمر، واختلاف زوايا النظر بدأت تنحى مناحي تدقّ أجراس الخطر، وتوشك أن تعرّض العالم لتداعيات تتهدد معها المعطيات الحضارية برمتها.
من هنا بدأ بعض نظريات تفاعل الحضارات يصب بقوالب ونمطيات تهدد سلامة العالم، وتنذر بوقوع خطر وشيك، والخطر هو أنّ مثل هذه النظريات شقت طريقها إلى أروقة الفكر، وتكاد تتحول عند البعض إلى حقائق لا يرقى لها الشك، ولا يطالها الحوار!! كالذي ذهب إليه (صاموئيل هنتغتن) في كتابه (صدام الحضارات)، وما سيكون عليه مآل العالم بعد مرحلة الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي من مواجهة صدامية حتمية بين الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها حاملة لواء الليبرالية - كما تزعم - من جانب والكونفوشيوسية والإسلام من الجانب الآخر!! وحين تخرج مثل هذه النظريات من الحيز العلمي لتتحرك في الفضاء السياسي على أعلى المستويات تكون قد بلغت أقصى مديات الخطورة.
كما نحت نظرية (فرانسيس فوكوياما) في كتابه (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، منحى الأسر الحضاري الذي يوحي بشلل التاريخ، وموت المعرفة التي وصلت إليها الليبرالية باعتبارها المدى الأقصى المقدّر في حياة الإنسان، ما يعني التمرد على حركة التاريخ بكل ما يختزنه من العوامل الدينامية، والاستسلام إلى الارتطام بجدار الوهم الحتمي الساكن!! والمستوحى من انطلاقات المرحلية المحكومة بمحدودية الذات التي لا تقوى على استشراف آفاق الجديد المستقبلي، ولا استكناه المخزون المودع في أعماق الإنسان، والعاجزة عن سبر غور التاريخ الذي يعكس تدفقاً حضارياً على طول مساره؛ ليعطي كل جيل وفي أية حقبة قدراً حضارياً وليس كل القدر، وتعاطياً مع إنسانها حتى نهاية الإنسان.
لابد من وعي الأمس التاريخي على أنه أبعد من أمسنا، ووعي الغد الممتد إلى أبعد من غدنا؛ حتى لا نتصور أن نهايتنا هي النهاية مثلما أن نتصور بدايتنا هي البداية، كما لا نعتبر إنسان أول المرحلة الإنسان الأول ولا يمكن اعتبار إنسان آخر المرحلة الإنسان الأخير، وستظل مديات الإنسان أطول من مدى إنسان ما، وستبقى ترشحات إنسان المرحلة مختلفة بالذات، وغير منفتحة على الحالة الإنسانية التي تتجاوز الزمن، وترتبط بالحقيقة؛ حتى لا يتحول انفتاحنا المرحلي إلى انغلاق معرفي تأسره الذات، وتعرقل حركته الأزمات التي تتمظهر على شكل حروب وخصومات لا طائل من ورائها، ولا تترك إلا الويلات على الإنسانية كلها.
تحالف الحضارات
الحلف: "ما يلازم الشيء ولا يفارقه... تحالفوا تعاهدوا"(1).
ويبقى التحالف يتحرك في إطار التعامل الاستقلالي السلبي لأطراف التحالف ما يستبطن التعامل في دائرة المصالحة والهدنة والتكييف من دون أن يدخل دائرة التأثير الإيجابية التي تمنح أطراف التحالف حرية الانفتاح الواثق فيأخذ من الآخر بثقة، ويمنحه بثقة، وهو ما يحقق بمرور الزمن تراكمية معرفية تؤثر في السياقات الحضارية، وتجعل إنسان اليوم أكثر إنسانية من إنسان الأمس، كما تمنحه دينامية مستمرة لإحداث فوارق مستقبلية تتدفق على شكل قفزات نوعية متصاعدة على مسار الزمن.
فإذا كان من شأن التحالف حفظ العلاقة الحضارية عند حدود التعايش، وتقبل الآخر، وتجنب أخطار الصراع أو الصدام الحضاري وهو إنتاج لا يستهان به لكنه يبقى رهين الانغلاق على الذات من دون أن يخطو نحو الآخر؛ ليتفاعل معه نحو تحقيق "التطوير الحضاري" الذي يولد من رحم المعرفة، وما تفرزه التجارب الإنسانية في مجالات الفكر والأخلاق والفن والأدب وسائر المجالات، وهو ما سيفضي إلى (الاندماج الحضاري)، في مرماه المنشود.
فدمج الأمر يدمج دموجا: استقام، وأمر دُماج ودِماج.. مستقيم، وتدامجوا على الشيء اجتمعوا.... وأدمج الحبل: أجاد فتله. الجوهري: دمج الشيء دموجاً إذا دخل في الشيء، واستحكم فيه، وكذلك اندَمج وادّمج، بتشديد الدال،... كل هذا إذا دخل في الشيء، واستتر فيه... وفي الحديث: من شق عصا المسلمين وهم في إسلام دامج فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، الدامج: المجتمع... ومنه حديث علي (عليه السلام):
(بل اندمجت على مكنون علم، لو بحت به لاضطربتم اضطراب الأرشية في الطي البعيدة)، أي اجتمعت عليه وانطويت، واندرجت(2).
الرسالة الإسلامية تتسم على مستوى النظرية والتطبيق بإلزام معتنقيها بالتعامل مع أبناء البشرية كافة مهما كان جنسهم أو لونهم أو قوميتهم، على أنهم أعضاء في المكون الاجتماعي المطلوب إقراره والحفاظ عليه، وقد زخر القرآن الكريم والسنة المطهرة بالنصوص التي تؤكد على ذلك، كما أنّ السيرة المطهرة عبقت بأروع الصور التطبيقية التي جسدت تلك المفاهيم، كل ذلك يبعث المسلمين الملتزمين على التمتع بالنظرة الحضارية التي تؤهلهم للتعاطي الإنساني مع كل من يدخل في دائرة تعاملهم، ولم تخلُ مقاطع التاريخ من تجليات تلك الصورة لإسلامية الناصعة في التعامل الإنساني، سواء أكان التعامل في إطار الدولة التي أقيمت، واحتضنت رعايا من غير المسلمين وهم ينعمون بكامل الحرية، أم في ظل نفس الدولة الإسلامية التي امتدت إلى بعض بلدان الغرب فكراً ونظاماً سياسياً، لتترك فيها أحسن الآثار التي بقيت إلى الآن على الرغم من تقادم الزمن، وتكاثف عوامل التشويه، أم في الانتشار الإسلامي المعرفي الذي حصل على يد المسلمين القاطنين في بلدان العالم المختلفة، والذي اتخذ شكل موجات من المهاجرين وهي تولـّي وجهها صوب بلدان المهجر المختلفة، أو فيما تبلورت على شكل اتفاقات ومواثيق مع الآخر.
لم يكن للدولة الإسلامية ولا لرعاياها المسلمين مثل هذه الدينامية الفاعلة، ولا الروحية المنفتحة، والتعاطي المتحضر، لو لم تتوافر لها آليات محددة، قائمة على قاعدة أخلاقية، وخلفية فكرية مستمدة من رؤية كونية واضحة وراسخة، تموّل المسلم فكراً، وتبعثه سلوكاً على كل هذه المسارات، كي يتفاعل إنسانياً مع الآخر، من دون أن يرد في سلوكه، أو حتى يخطر في باله إلغاء الآخر، أو الإضرار بمصالحه، أو الإساءة إلى أمنه أو التصديع بكرامته، بل جعلت من المساهمة في بناء الصرح الحضاري الإنساني الذي يقوم على العدل، والعلم، والمحبة، والسلام، كفيلاً بتحقيق الرفاه الإنساني المنشود، وضماناً لتجنيب العالم النزعات العنصرية الشاذة، التي تقضّ مضجعه، وتعكر عليه صفو حياته.
مثلما توافرت الشريعة الإسلامية على أحكام التعامل مع الآخر، ومن موقع احتضانه فقد زخرت بمنظومة أخرى تكفلت برسم تفاعله، وضبط حركته في الأوساط الاجتماعية التي يتواجد فيها، في نفس الوقت حددت له قاعدة من الأفكار والمفاهيم التي يمكن أن يشيد عليها صرح التعاون مع الآخر مهما كانت المسافة الفكرية معه وفي أي حقل من الحقول الحياتية من الناحية الميدانية، كل ذلك على هدي الدين الإسلامي الحنيف، وطبق المسار الحضاري الإنساني المنفتح، ليترك أطيب الأثر على إنسان ذلك البلد.
ومن أشد ما يُمنى به التعاون الحضاري والدولي من أخطار هو افتقاره للجذور الفكرية والقاعدة القيمية التي تحميه من التعرض للتأزم أو الهيمنة ومن ثم التحول إلى الحروب الإقليمية والدولية..
ما شهدته أوروبا من حروب دامية راح ضحيتها الملايين من بني الإنسان كان بسبب تفشي النزعات العنصرية كالفاشية والنازية التي قامت على خلفية فكرية تدعو إلى التمايز العنصري البغيض.
ولئن كانت دول العالم المتحضر اليوم قد أقامت عرى التعاون مع الدول الأخرى بحيث لم ينحسر العمل بمبدأ التعاون في أفق محدود، إلا أن اقتصارها على الأسس المادية، وتحقيق المصالح المستوحاة منها جعلها تتأثر بطبيعة المصالح، وتمتد بامتدادها بالشكل الذي جعل مسارها متموّجاً من حيث المرتبة أحياناً ومتعاكساً من حيث الاتجاه أحياناً أخرى، وقد يصل إلى مستوى الأزمة وحتى الحرب.
بينما توافرت في الأداء الإسلامي على صعيد العلاقات قاعدة فكرية ثابتة خارجة عن دائرة المصالح المادية وغير متأثرة بها أحياناً، وهي ما تعطي قيمة ثابتة مستمدة من "الثابت الحضاري"، وقاعدة متغيرة داخل المصالح المادية وإن كانت خاضعة لمنظومة القيم ومحكومة بمعاييرها وهي ما تسمى "المتغير الحضاري".
إن أزمة التعاون الإنساني على الصعد المحلية الإقليمية والعالمية هي أخلاقية في العمق وتمثل خرقاً لكرامة الإنسان وخروجاً على فطرته التي فطره الله عليها: ((فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون))(3).
بعد هذا التوضيح أنتقل إلى مكونات الحضارة كما أستنتجه من القرآن الكريم، والذي أشار إليه في أكثر من آية، بيد أن هاتين الآيتين الكريمتين من سورة إبراهيم تشيران بشكل شامل إلى ثماني مكونات للحضارة.
((ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون))(4).
مكونات الحضارة على ضوء الآية الشريفة:
1 - كلمة {قاعدة التوحيد}: فهي ليست مجرد لفظ الكلمة، وقد أشير إلى جملة معان ٍ لها، لكن المعنى الجامع هو كلمة التوحيد، والتي تشير بالضمن إلى التدين الفطري الذي أودعه الله تعالى في الإنسان، وفطره عليه، وهو ما يوفر له محتوى داخلياً وفهماً معنوياً للحياة يميز به المؤمن عن غيره أيّاً كان دينه.
2- طيبة {الطهر والنظافة}: أصل الطيّب تستلذه الحواس وما تستلذه النفس (5).
3 - أصلها ثابت {(الأصالة}) أصل الشيء قاعدته التي لو توهمت مرتفعة لارتفع بارتفاعه سائره (6) .
4 - فرعها في السماء {(الوجه الحضاري)} فرع الشجرة غصنه، وجمعه فروع (وفرعها في السماء) واعتبر ذلك على وجهين، أحدهما: بالطول فقيل فرع كذا إذا طال، وسمّي شعر الرأس فرعاً لعلوّه... والثاني: اعتبر بالعرض فقيل تفرّع كذا وفروع المسألة، وفروع الرجل أولاده (7) .
5 - تؤتي أكلها {الإنتاجية}.
6 - كل حين {(العطاء المتواصل)} الحين وقت بلوغ الشيء وحصوله... وحيـّـنت الشيء جعلت له حيناً(8).
7 - بإذن ربها {(ربانية الهوية)} الربّ في الأصل التربية، وهو إنشاء الشيء حالاً فحالاً إلى حد التمام.. فالربّ مصدر مستعار للفاعل، ولا يقال الرب مطلقاً إلا لله تعالى المتكفــّل بمصلحة الموجودات.. ويقال ربّ الدار وربّ الفرس لصاحبهما(9).
8 - للناس {(إنسانية المدى / الهدف)} الناس قيل أصله ناس فحذفت فاؤه لمّا أدخل عليه الألف واللام، وقيل قلب من نسي وأصله إنسيان على إفعلان، وقيل أصله من ناس ينوس إذا اضطرب.. (10).
الربط العضوي بين القاعدة المعرفية وما يترتب عليها من مظاهر هو المائز الحقيقي بين الحضارة والمدنية، وبذلك اختلفت الظواهر الحضارية عن الظواهر المدنية، كما اختلف رواد الحضارة عن رواد المدنية، فكونفوشيوس وأشعيا الثاني وفيثاغورس وبوذا وزاردشت ما بين عام 600 الى 480 قبل ميلاد السيد المسيح (ع) يصنفون على ريادة الحضارة، وقبلهم وبعدهم أنبياء الله وأوصياؤه كانوا كذلك.
وقد تحولت هذه الحقيقة الدينية الى مسلمّة علم اجتماعية لينادي بها، ويعمل وفقها الكثير من المصلحين من أمثال جون آدمز، غاندي، مانديلا وآخرون كثر.
العناصر الحضارية بثوابتها ومتغيراتها:
1 - آلية العقل: حث الاسلام على استخدام العقل في استكناه الوجود من حولنا؛ للتعرف على آثار خلق الله: ((فانظر إلى آثار رحمت الله كيف يحيي الأرض بعد موتها إن ذلك لمحيي الموتى وهو على كل شيء قدير))(11)
مثلما يراد للعقل أن ينطلق بالانسان الى حيث الحجة العلمية، وأريد للجاهل أن يرجع للعالم فيما لا يعلم، بحسب القاعدة العقلية "رجوع الجاهل الى العالم فيما لا يعلم"، وهو ما عكسه القرآن الكريم".... ((فاسألوا اهل الذكر إن كنتم لا تعلمون))(12)
فبالعقل آمن الانسان بالله سبحانه، وبالعقل آمن برسله، وبالعقل استحق ان يكون خليفة الله تعالى في ارضه.
2 - الاقتناع العقائدي: رفض الاسلام التقليد الاعمى في مجال الاعتقاد، بدعوى الاستمرار على ما كان عليه الآباء، أو بدعوى التبعية الاجتماعية العمياء، من دون أن يعانق الانسان الشأن العقائدي بالادلة، التي تعطي العقل حصة كافية من الاقتناع:
((بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون))(13).
ومن هنا كان على كل مسلم التسلح بالادلة الكافية التي تجعله على وضوح مما يعتقد به، وفي نفس الوقت قادر على التعاطي الفكري مع الآخرين من دون أن تتحول العقيدة لديه الى تقليد للبيئة، أو استمرار مشلول للآباء والأجداد.
3 - القيمة العلمية: حثّ الاسلام على العلم من أول شوط التنزيل القرآني على رسول الله (ص): ((اقرأ باسم ربك الذي خلق))(14)، واعتباره مائزاً للتفاضل بين الناس، حتى ينفتحوا بالعلم على كل الميادين، ويعمّروها، ويساهموا في بنائها على أساس تسخير الامكانات العلمية، وتذليل العقبات التي تقف أمامها من دون ان يكرّس لتدميرها في ميادين الحروب والنزاعات.... ((قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون...))(15)، ... ((انما يخشى اللهَ من عباده العلماء...))(16)، وقد جعل الاسلام العلمَ فريضة على كل مسلم قال رسول الله (ص):
(طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة).
وأراد للعلم ان يكون الاداة الفاعلة مع الوجود من حولنا، لنحاول من خلاله التعرف على أسرار الكون وسبر غوره، كما أن التعاطي العلمي في الوسط الاجتماعي يختلف من حيث الفعل والاتجاه عن أي تعاطٍ يفتقر للاساس العلمي، بحيث ان المنطق العلمي يسود في العلاقات الاجتماعية وفق السنن العلمية التي أودعها الله في المجتمع، تماماً كما هي السنن الفيزيائية المودعة في الطبيعة، كل ذلك مبني على حقيقة ان الانسان كائن اجتماعي، وخاضع لـ "قانون التأثير والتأثر الاجتماعي" بالوسط الذي يتواجد فيه. كما أن الاسلام لم يحظر على المسلم أن يأخذ العلم من غير المسلمين، بل أمره أن ينهل من ميادين العلم أيّاً كان مصدرها طالما تأتي في سياق المصلحة العامة والخدمة الانسانية، فقد جاء في الحديث الشريف: (اطلب العلم ولو في الصين)، وكما جاء: (الحكمة ضالة المؤمن فخذ حكمتك حتى من أهل الكفر والنفاق).
من خلال اهتمام الاسلام بالعلم والعلماء جعل بناء المجتمع يقوم على قاعدة العلم والمعرفة بالنحو الذي يكون فيه العلم عامل انفتاح وارتقاء مستمرين، وألا يقف عند مستوى معين لأن العلم لا حدود له ((وفوق كل ذي علم عليم))(17)، وإنه يأخذ من الماضي بمقدار ما يزخر من العبر، ويختزن من التجارب ((لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الالباب..))(18)، من دون أن يتحول الموروث التاريخي الى مقدس بكل ما فيه من سلبيات... ((إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون))(19).
4 - استثمار موارد الطبيعة غير المحدودة: إنّ الله أودع في الوجود طاقات لا حد لها، وخيرات جمّة تفوق حاجة البشر، تسعهم على كثرتهم، لو احسنوا استثمارها ووظــّفوها في البناء، واعتمدوا مبدئي إجادة الانتاج وعدالة التوزيع، وفي غيابهما يحصل الشقاء، وتحل الكارثة، وهو ما يعتمد على دور الانسان في حسن الاستثمار من دون أن تتحول الجهود الانسانية بالاتجاه الذي يثير حوافز التسابق اللاواعي، الذي يحوّل التعاون الانساني لاستثمار الطاقات الكامنة في الوجود الى صراع بين الناس، على أساس تزاحم المصالح، وغلبة القوي للضعيف، أو سوء استثمار الموارد الطبيعية بالطريقة التي عرّضت العالم الى كوارث تمظهرت على شكل سيول وفيضانات في مناطق والى تصحّر وجفاف في مناطق اخرى، وقد اعتبر الاسلام سوء التدبير في مجالي الانتاج والتوزيع من الظلم والكفر، هما سرا الازمة الاقتصادية، ولذلك استحثه على تجنب ذلك :
((وآتاكم من كل ما سألتموه وان تعدوا نعمة الله لا تحصوها إنّ الانسان لظلوم كفــّار))(20).
وليس ما ذهبت اليه المالتوسية من أن موارد الطبيعة محدودة قبالة الازدياد المضطرد للسكان ما ينذر بالكارثة الوشيكة!! ومنه تتفرع ملكة الانفتاح عند المسلم على أكثر من صعيد، ولم يكن ولوج المجال الاقتصادي، والتعاطي على أساس تبادل المصالح، وعقد الصفقات التجارية واحترام والتزام المواثيق الدولية القائمة على اساس المصالح الانسانية لكل البشر الا مصاديق لذلك.
5 - الكرامة الإنسانية: جعل الإسلام للإنسان بما هو إنسان كرامة، وأراد لها أن تصان من الاعتداء، وتـُحمى من الإساءة، ويُنأى بها عن التمييز، وتتعافى من الجهالة.
((ولقد كرمنا بني آدم.....))(21)؛ وبذلك يطلّ الإنسان في الاسلام من أفق الكرامة الرحب بعيداً عما مُنِي به من نزعات عنصرية، أو قومية أو طبقية، مزقت حياته، وجعلته يتعثر بعقبات كأداء عاش معها ذلّ العبودية، واكتوى بنار المهانة على أكثر من صعيد ففي الوقت الذي ينتشر فيه القتل في المجتمعات المعاصرة لأتفه الأسباب نرى الإسلام يعتبر من يقتل النفس عن عمد كأنما يقتل الناس جميعاً... ((من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً...))(22)، كما شجب كل انواع العبودية التي يتعرض لها الانسان، وشدد على ضرورة منحه الحرية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)!، ومن هنا كانت النزعات العنصرية والاقليمية والطبقية موضع رفض، لأنها إساءة لكرامة الانسان، وامتدت ضحاياها الى كل بقاع العالم، وقد أفرزت الحرب العالمية الثانية ما يزيد على خمسين مليون ضحية (17 مليون عسكري وأضعاف هذا العدد من المدنيين)(23).
6 - احترام التنوع البشري: إن الله أراد للناس أن يكونوا قبائل وشعوباً كحالة متنوعة، وأراد أن يسودهم التعارف الذي يتم من خلال إقرار التنوع البشري، وبعث هذا التعارف لتحقيق التفاعل المتحضر، الذي ينفتح على كل هذه التنوعات، من دون أن يختنق في اطار الشعوبية او القبلية او الطبقية وجعل التقدم في الهرم الاجتماعي منبعثاً في طبقته العليا تلقائياً بدفع من الطبقة الأقل، وتصميم هيكليته على أساس سلامة البناء الانساني؛ ليصونه من الخطر الذي يعصف به من منطلق الأحقاد، أو الأنانية، مما يجره الى الحروب والنزاعات، وشتى انواع الازمات.
((يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير))(24).
أن النظرة الفوقية لبني الانسان على أية خلفية كانت دقت إسفيناً في مجال التعامل، وسبّبت عزلة تحيّز فيها أطراف التعامل، وجعلت الكثرة الكاثرة من الناس بمنأى عن الاقلية المستبدة فهي لم تكن فقط غير صالحة لترويج التعامل بين الاطراف المتعددة بل حولتها الى حالة هي للتنافر والاحتراب أقرب منها للتقارب والائتلاف.
لقد عانى العنصر الملوّن في امريكا الامرّين طيلة حقبة طويلة من الزمن، ومنذ بدأت تجارة العبيد التي تكفلت فيها شركات خاصة بنقل اعداد غفيرة من الجنس الاسود؟ من سواحل افريقيا الى امريكا، ومن ثم التوقف عنها إبّان حكم جيفرسون عام 1801، بيد أن المعاناة ظلت مستمرة للجنس الملون في الداخل الامريكي، ولم تصل امريكا بباراك اوباما الى سدة رئاسة الجمهورية إلى بعد رحلة طويلة امتدت 225 سنة وعبر اربع واربعين رئاسة ليكون الرئيس الثالث والاربعين في الوقت الذي انفتح الاسلام على الاسود منذ بداية الشوط الاول ليجعل من بلال الحبشي مؤذناً والاذان في ذلك الوقت بمثابة وزارة الاعلام.
7 - إشاعة العدل: جعل الاسلام العدل هدفاً انسانياً لاينفك عن جهد المسلمين من اجل تحقيقه، بأي موقع من مواقع تأثيرهم، وفي أيّ مجال من مجالات التصدي، وهم قبل غيرهم مؤتمنون عليه، ولا يُسمَح لهم بالتفريط بهذه الأمانة:
((إن الله يأمركم ان تؤدّوا الامانات الى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إنّ الله نعمّا يعظكم به إنّ الله كان سميعاً بصيراً))(25)، والعدل يمتدّ الى كل جوانب حياة الانسان وعليه تتوقف سعادته، وأنّ أشد ما منيت به البشرية من المآسي والويلات، وما تفشى في أوساطها من الجرائم والانتهاكات، جاء في الأغلب بسبب الظلم الاجتماعي وغياب العدل، وأن العدل والظلم يدخلان في دائرة الحسن والقبح العقليين، لذلك اشترط الاسلام العدل في الكثير من المسؤوليات، سواء على مستوى قيادة أمة، أو القضاء في الحكم، أو الإمامة في الجماعة، أو بعض أنواع الشهادة.
(العدل يصلح الرعية)، (بالعدل تتضاعف البركة)، (ما كرهته لنفسك فاكرهه لغيرك وما أحببته لنفسك فأحبه لأخيك تكن عادلاً في حكمك)....
إن وعي الشعوب من جانب، وتعميق الجانب الانساني فيها من الجانب الآخر جعلها في حالة تناغم وإنصاف بحيث بدأت تجتاح عواصم العالم ظاهرة التعاطف المدني إحساساً بما تمر به البشرية من ظلم وإقراراً بمبدأ العدل الذي يلجأ له كل بني الانسان، مثل هذه الارضية الصالحة من شأنها ان تكون مناخاً للتعاون، والتعامل، وصيانة الحقوق الإنسانية المختلفة.
بخصوص المرأة وموقعها في الفكر الاسلامي وما تواجه من تحديات في واقع الامة الاسلامية فقد خصّ الله (تعالى) المرأة بمكانة خاصة ومتميزة في كل حقول الحياة الفردية والاجتماعية في اكثر من آية لهذه المكانة.
ان واقع الامة في بعض جوانبه والذي يُقصي المرأة يعكس بذلك التقاليد والعادات، ولا يعكس فكر الأمة.
من هنا فإن أزمة المرأة في العالم الإسلامي هي بسبب التقاليد "أزمة تقاليد" وليست أزمة فكر، فيما نجد أن المرأة في "أزمة فكر" في العالم الغربي والحضارة الغربية؛ ما انعكس على شكل بطرياركية في مؤسساته.
لم تحصل المرأة عل حقها بالانتخاب حتى عام 1919م في زمن الرئيس الأمريكي (ولسن)، وبعد تعديل الدستور للمرة التاسعة عشرة ولم تمارس المرأة حقها بالانتخاب في امريكا إلاّ عام 1924م، ولم يكن حظها أوفر في بريطانيا إذ تمتعت بهذا الحق عام 1945م، وكذلك في سويسرا عام 1977.
في حين نجد أن المرأة المسلمة ومنذ عصر صدر الإسلام وقفت إلى جانب رسول الله (ص)، وبايعته في بيعة الشجرة ((اذ يبايعونك تحت الشجرة))(26)، وهذا هو عقد سياسي على أعلى المستويات.
إن حاجة المجتمع أي مجتمع إلى العدل تنطلق من كونه مرتبطاً بالنفس وتربيتها، وإن الإنسان في مراحل حياته المختلفة بأمسّ الحاجة للعدل، ولا يصبر على فقدانه العدل في السياسة أو الاقتصاد أو الاجتماع على مستوى الأسرة أو المدينة.. وإن فقدانه له إسقاطات سلبية على الإنسان ما لم يتحول إلى سياق ظلم ينعكس على الآخرين لذلك قيل (الكفر يدوم والظلم لا يدوم)، بينما (الظلم تجاوز للحق وهو على ثلاثة أنواع: ظلم بين الإنسان وبين الله تعالى... وظلم بينه وبين الناس... وظلم بينه وبين نفسه...)(27).
8 - مبدأ السلم: الإسلام دين الله الخاتم وهو مشتق من السلم وأحد أسماء الله الحسنى هو "السلام" وتحية الاسلام التي يفتتح المسلم بها يومه مع الناس هي "السلام عليكم" وهذا الانتشار الواسع لمفهوم السلم في حيز المنظومة المعرفية والوعاء الاخلاقي وما ينعكس على السلوك الخارجي في سياقات التعامل مع الله والانسان والوجود من حوله يشير الى قيمة حضارية تعزز السلم في العالم، وتدفع بالإنسان لبناء حضارة إنسانية تشاد على قاعدة السلم، وتنأى بنفسها عن كل أنواع الحروب..
إن السلم هو الاساس فيما بين الانسان والمركب الحضاري، ولا يسمح له أن يخرج عن الطبع المسالم إلا استثناءً إذا ما تعرّض الى حرب عدوانية وبذلك يؤذن له لرد غائلة الخطر ((أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأنّ الله على نصرهم لقدير))(28).
ومع اشتعال الحرب واضطرار المسلم للدفاع عن نفسه يبقى الأصل الإسلامي يفعل فعله في دفع المسلمين لقبول السلم والجنوح لها، ((وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم))(29)، مثلما لا يشرف المسلم أن يكون معتدياً وأن يكون مسلماً، فيشرفه أن يكون جانحاً للسلم إذا جنح الآخرون له.
وقف السلم مقابل الحرب والإرهاب كذلك، والإرهاب عملية أجنبية عن الطبع البشري السويّ، ولا يرضاها أي إنسان، بل يحكم عليها بأنها خروج عن الجبلة الإنسانية، وهي غير محددة بقومية معينة، ومثلما يكون للإرهاب هويته الخاصة، التي لا تتحدد بدين أو جنس أو بلد أو شعب معين، فإنّ ضحايا الإرهاب كذلك ليسوا محددين بهوية معينة، يسعهم مفهوم "ضحايا الإرهاب" ويشملهم كلّ ما يقع عليهم من ضرره، ويترتب على حياتهم وأمنهم واقتصادهم من استحقاقات تنتج عنه، وهذا يستدعي بالضرورة مواجهة الإرهاب ومعاقبة الإرهابي أيــّاً كان، والانتصار للمتضررين من الإرهاب من دون الاقتصار على طرف متضرر معين، فمن غير المعقول أن تقتصر الإدانة على الإرهاب إذا صدر من شخصية عدّت من المسلمين لكن إرادتها -أي الإدانة- تشلّ مع الإرهابيين غير المسلمين، أو مع أعداء الإسلام، كما أن من المستنكر أن يُسكــَت عن كل ما اقترفته أيادي الإرهابيين بحق المسلمين، في الوقت الذي تقام الدنيا ولا تقعد للمتضررين من غير المسلمين، مثلما حصل في غزة من أعمال بربرية يندى لها جبين الإنسانية حياءً.
9 - الإحسان للناس: تحقيق السعادة لكل بني الإنسان هدف إسلامي ينطلق منه المسلم في حواره، وسعيه، وعمله، ومن ثم من غير المسموح أن يتخلى المسلم، أو ينجرّ للتخلي عن هذا الدور((فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك...))(30)، ((ولا تستوى الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم))(31)، من هنا أدرك المسلمون مسؤوليتهم في الإحسان لغير المسلمين، مهما كان دينهم، وأيّاً كانت توجهاتهم، وقد عاش غير المسلمين أحلى سنوات عمرهم في بلدان المسلمين، لا ينغص حياتهم قانون، ولا يهدد مصالحهم مسلم، كان النصارى واليهود يعيشون في ربوع دولة الأندلس الاسلامية بكل اطمئنان، يمارسون عباداتهم في المعابد والكنائس من دون اضطهاد، وارتقى بعضهم إلى رتب عالية في سدة المسؤولية بكل ثقة، والعالم الإسلامي اليوم يزخر بوجود غير المسلمين، يشاركون في الحياة الاجتماعية،
ويتسنمون مواقع مختلفة، من دون غضاضة، وهكذا فإن المسلم رافد إحسان في المجتمع، وعنصر تطويق للإساءة التي تحاول اجتياحه، فالمجتمع الذي يتبادل "النزعات العدوانية" يكون قد انحدر إلى الحضيض، على عكس المجتمع الآخر الذي يعتمد آلية المبادلة بالإحسان، والذي يرتقي بالمجتمع إلى مستوى المجتمع المدني المتحضّر.
ولا تقف المسألة عند حدود الحب والإحسان بل يُشاد على قاعدة الحب والإحسان صرح ثقافة التعامل مع الآخرين، وتحل ثقافة الانفتاح بدلاً من الانغلاق، والتواصل بدلاً من القطيعة، وثقافة التعايش بدلاً من الاحتراب، وثقافة التعدد السيادي بدل ثقافة التسيّد.
لا يمكن أن أترك العراق وما تعرض له دون وقفة مسؤولية، العراق الذي مثل مَعلماً حضارياً على طول التاريخ، وأفاض بثرواته العلمية والمادية والمعنوية على كل بني الإنسان يوم حكمته القيم الإنسانية، وكيف تحول لاحقاًَ بفعل الدكتاتورية والإرهاب إلى بؤرة توتر في المنطقة؛ ما تسبب بهدر الدم، والثروة، والكرامة، والسيادة فيما عرض العراق لما حل به من احتلال، ونحن هنا يجب أن نميّز بين فعل المقاومة وفعل الإرهاب ففي الوقت الذي تمارس الأولى (المقاومة) دورها في مواجهة الاحتلال، ولها قيمها ورموزها وخطاباتها وفكرها، وحرصها على سلامة المواطنين وثورات الوطن، نجد الإرهاب يشيع القتل والدمار، في أوساط الأبرياء من دون رحمة.
10 - عدم الضرر والإضرار: لا يُسمَح للإنسان بأن يلحق الضرر بنفسه ولا بالآخرين، تحت أي عنوان من العناوين بناءً على القاعدة المشهورة التي جاءت في عدة أخبار (لا ضرر ولا ضرار)، ... (لا تــُضار والدة بولدها ولا مولود له بولده)...(32) وهذا ما يجعل المسلم في مأمن من إضرار نفسه أو إضرار المسلمين به، ليس فقط على مستوى أفراد الأسرة من الأبوين والأبناء بل على مستوى المجتمع كله، من هنا لم يسمح الإسلام للمسلمين بأن يُسيئوا للآخرين، ما يجعلهم جديرين بتجسيد الحقوق الإنسانية وصيانتها.
وعليه لم ولن تجد ثقافة الانتحار طريقها إلى الإسلام وهي غير ثقافة الاستشهاد، بحيث إن الانتحار نهى الله (تعالى) عنه باعتباره يُورث الموت، أما الاستشهاد، فهو الحياة بعينها، وكما لم تجد ثقافة الاحتلال والحرب والاعتداء أي مجال في منظومة الإسلام المعرفية.
11 - فعل الخير: التسابق لإسداء المساعدة، وفعل الخير يضفيان على المسلم صفة العطاء، ليغمر كل من حوله بالإحسان:
((ولكل وجهة هو مولــّيها فاستبقوا الخيرات أينما تكونوا يأتِ بكم الله جميعاً إنّ الله على كل شيء قدير))(33) .
وجاء في الحديث:
(خير الناس من نفع الناس)، ويذهب الإسلام بالمسلم إلى الحد الذي يُؤثِر فيه الآخرين على نفسه حتى إذا كان محتاجاً ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة..))(34)، فإذا كان شعار الإنسان المادي هو الأخذ فإن شعار الإنسان المتديّن هو العطاء (الإنفاق من الرزق)... ((ومما رزقناهم ينفقون))(35)، وإذا كان مدى التعامل المادي هو الانتفاع الشخصي، فإن مداه عند المؤمن هو البذل وإيثار الآخر.
12 - إلزامية العهد: اعتبر الإسلام العدل الاجتماعي ركناً أساسياً في حياة الإنسان، وفرض على المسلمين الحفاظ عليه، وإرساء قواعده، واعتبره أساس الحكم (العدل أساس الحكم)، ومن هنا يأتي الالتزام بالعهد، باعتباره المقوّم الأساسي في علاقة الإنسان بالله، وبالنفس، وبالإنسان الآخر، والإسلام يفرض على المسلمين الالتزام بالعهد بغضّ النظر عن أن ذلك يحقق لهم مصلحة أم لا، ويدفع مفسدة أم لا، كما أن العقود مما لا تختص بالإسلام، وهو من الأمور العقلانية في المجتمع، وأن رعايتها واحترامها من الأمور الفطرية التي لا ينفك عنها الاجتماع البشري، ودرج عليها منذ أول نشوئه .....(( وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسؤولاً))(36).... ((والموفون بعهدهم إذا اهدوا....))(37).
13 - حسن الجوار: لقد حضي الجار في الإسلام برعاية خاصة، مهما كان دينه أو درجة قرابته، أو مستواه، ((... وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجُنب والصاحب بالجنب وابن السبيل وما ملكت إيمانكم))...(38)، (ليس حسن الجوار ألا تؤذي جارك بل حسن الجوار أن تتحمل أذاه)، وحين يُولي الإسلام الجار هذه الدرجة من الاهتمام فالأمر يعكس العمق في التفاعل، والتعايش مع الآخر حتى إذا امتد إلى دائرة الخارج المنزلي، خصوصاً أن مجال الجار يتعدى الآحاد من البيوت، ليصل إلى العشرات، وهو ما يفتح بمرور الزمن مجالاً واسعاً من "العلاقات الجوارية".
14 - مبدأ الوسطية: ((وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً...))(39)، لا نريد بالوسطية زمام المبادرة، والتيهً في غياهب خيارات الأمر الواقع، وتبرير كل ما يُمنى به من الوهن في التفكير أو ضعف في الأداء على أنه من وحي الوسطية، الوسطية التي نريد هو المفهوم الذي يرسم من وحي المبدئية الثابتة التي تترك خيارات في الأداء على كل المستويات، ليتميز من خلالها الفارق الجوهري بين الوسطية المبدئية "وسطية الشهادة" في صناعة الحاضر وبين ثقافة التبرير الوسطي لخيارات الضعف "وسطية الازدواج"،أو "وسطية التلفيق"، فمبدأ الوسطية يمنح العاملين به زمام المبادرة، والتحلي بالواقعية، والثبات الغالب في صناعة المواقف، الوسطية تعني أنك تنطلق للآخرين أو عليهم لا أنك تنطلق منهم.
"وسطية الازدواج" التي درج عليها بعض الجماعات هي أن يرسم طريقها من خلال التوفيق بين أطراف الخصومة أو الاختلاف فهو لا يمكن أن يعطي الحق بالكامل لطرف أو نزعه عن طرف آخر، بينما يفترض أن تكون الوسطية كمنهج بين الأطراف المتنازعة أحياناً مع طرف ما بالكامل أو ليست مع أي منهم بالكامل؛ لأنها انطلقت متجردة عنهم في حين أن الوسطية المفترضة مجرّدة عن كل الأطراف، وانها معيار مستقل عنهم وتنصفهم من خارجهم فقد تكون مع هذا الطرف أو ذاك، وقد تكون بعيدة عنهم جميعاً.
هذا ما يصوّره القرآن الكريم ((لتكونوا شهداء على الناس)) ولم يقــُل شهداء من الناس، هذه الإطلالة الموضوعية للوسطية من خارج الذوات تتكفل بإنصاف الحق، فحين يكون طرفا الاختلاف، الرسول (ص) وأبو جهل فالوسطية المبدئية ليست بعيدة عنهم جميعاً، بل مع الرسول (ص)بالكامل وبعيدة عن اعدائه بالكامل وحين يكون أطرافها المجاهدون في سبيل الله تكون الوسطية المبدئية معهم جميعاً ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين))(40).
15 - تجانس النظرية والتطبيق: لقد أكد الإسلام كثيراً على ضرورة توحيد الاتجاه بين النظرية والتطبيق، ولم يسمح بالتناقض بين اتجاههما ((يا أيها الذين آمنوا لِمَ تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون))(41).
من هذا كان الشعار يتحرك بالإسلام محاذياً للواقع، ومعبّراً عن طبيعته، فمنذ الصدر الأول للإسلام وقف كل من سلمان الفارسي وصهيب الرومي وبلال الحبشي إلى جانب العربي كأبي ذر الغفاري والمقداد في حمل الرسالة، والذود عن حياض الإسلام، وبقيت هذه المزيّة الرائعة في المجتمعات الإسلامية بارزة يدركها كل من عاش في بلدان المسلمين، أو عاش المسلمون في بلدانهم، فالشعار الذي يطرحه المسلم لا يستبطن غيره، ولا يبتعد عنه كثيراً وعليه درج الآخرون حين يلتقون شعاراً إسلامياً (بعدم التمييز العنصري)، أو (إشاعة العدل بين الناس)، أو (الرفق بالحيوان)، أو (عدم الإضرار بمصالح الآخرين) يدركون بأن هذه الشعارات لها دلالة على المسلمين، ((الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآب))(42)، فقد جاء في الحديث الشريف: (الإيمان معرفة في القلب وإقرار في اللسان وعمل بالأركان)، و(ليس الإيمان بالتمني ولا بالترجي إنما هو ما وقر في القلب وصدقه العمل).
بيد أن التفاوت بين الشعار وتطبيقه من حيث الرتبة لا يعني التناقض بينها مما أعدته الآية الشريفة من "كبر المقت" وإن دلّ أحياناً على ضعف الإرادة خصوصاً حين يكون الفرق شاسعاً بين الشعار وتطبيقاته، المفارقة تكمن في الاتجاه المتناقض بين "الشعار والتطبيق"، بين "المدعى والمطبّق"، بين "المسموع والمرئي"، فحين يكون الشعار والتطبيق باتجاه واحد وإن تفاوتا في الرتبة فهو أمر متوقع ومعقول في الغالب، إذ ليس كل من تحدث بأخلاق القرآن الكريم جسّد تلك الأخلاق باستثناء المعصومين (ع).
16 - تجسير العلاقة وتوطيدها على أساس الثقة:
الأمة التي تريد لنفسها أن تتماسك في داخلها، وتعكس ذلك على أمم العالم لابد من أن تشيع بين أبنائها الثقة الكافية في كل ما يمتّ بصلة بها من الناحية الفكرية والنفسية والسياسية، ولما كانت حريصة على جذورها المبدئية المقرونة بثوابتها في التاريخ الموغل بالقدم وبتطور الحياة من حولها في مختلف أمم العالم مثل هاتين الإطلالتين (العمودية في التاريخ)و (الأفقية في الحاضر) تحتمان عليها أن تتقصى أعلى درجات الدقة في نقل الحقيقة من خلال دقة الخبر، وهو ما حضي باهتمام بالغ في العلوم الإسلامية: علوم القرآن، علم الحديث، وعلم الرجال... ((يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين))(43)..
أشدّ ما يفتك اليوم بالأمة الإسلامية هو مرض التشكيك، والذي تتداعى أمامه الكثير من مقومات القوة والتماسك ما أفضى في بعض جوانبه إلى الفرقة والتنافر بين أبناء الأمة الواحدة، ولم تكن ثقافة اليأس وعدم الثقة اللتين يروّج لهما البعض إلا من أعراض هذه الظاهرة المرضية..
إننا في الوقت الذي نشعر فيه بوجود مشاكل في واقع أمتنا لكننا نؤكد في ذات الوقت على مكامن القوة المودعة فيها من الطاقات المعنوية والمادية، فهي تملك ثلثي احتياطي نفط العالم، وتحتل موقعاً أستراتيجياً في ثلاث قارات وهي تشغل 51 بلداً ولهم ثروة سكانية تتجاوز المليار والربع، وهي اليوم لم تكن كما كانت عليه بالأمس على الرغم من كل ما تواجه من عقبات ومصائب..
إن مثل هذه المقومات مضافاً إلى المقوّم المعنوي بإيمانها بالله (تعالى) وارتباطها برسالات السماء، وانفتاحها على العلم والمعرفة يجعلها جديرة بأن تحتل موقعها بين الأمم، وتسهم في بناء حضارة قوامها العدل والحب والعلم.
17 - مبدأ التعاون في العمل: ركز الإسلام على ضرورة بناء المجتمع بناءٍ إنسانياً متحضراً يقوم أولاً على أساس العمل ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون...))(44)، وثانياً أن يكون العمل على أسس المحبة، والسلم، والعدل و... إلخ، وهذا لا يتحقق إلا من خلال البرّ والتقوى، ... ((وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان..))(45)، وقد حدد بذلك الإسلام موقف المسلم من طبيعة العمل على أساس الفرز النوعي بين (منطلق البر والتقوى) و(منطلق الإثم والعدوان) كما حثه على التعاون من المنطلق الأول (نهاه عن التعاون من المنطلق الثاني) وبذلك يكون الإسلام قد عمل على تطويق العمل الضارّ بالتضييق والحصار، فيما أطلق العنان أمام العمل الصالح بالتعاون ليتسع، وينتشر؛ ليعم الإنسانية كلها، فقد ورد في الحديث عن أمير المؤمنين الى مالك الاشتر: (الرعية أحد اثنين إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق).
ولما كان للتعاون منطلق ومضمون ومعيار وهدف، فإنه يتغيّر بتغيّر هذه العناصر فهناك تعاون على صعيد البناء وإفشاء السلم وإشاعة العدل واحترام حقوق الإنسان، وهناك تعاون على صعيد الهدم واعتماد الحرب وإشاعة الظلم وانتهاك حقوق الإنسان، وهو ما يعكس الفروق الأساسية بين أخلاقية كل من المنظومتين وفكرهما وثقافتهما وإدائهما.
18 - مبدأ التحاور: اعتبار الحوار القائم على الدليل العلمي، هو الجسر الطبيعي الذي تمتد من خلاله الأفكار، والقيم، وتتحقق القاعدة الإنسانية العريضة لتوطيد العلاقات الاجتماعية الصالحة، لتفاعل الآراء وتبادل وجهات النظر، مهما كانت درجة الخلافات.. ((قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين))(46)، كما شجب المجادلة التي تفتقر إلى الحجة والدليل، ((ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير))(47)، فالإسلامي لا يرفض الحوار، ولا ينظر إليه على أنه نوع من الغلبة، ولا صيغة من صيغ العدوان، بل يعتبره فرصة لإبداء الرأي، والاطلاع على رأي الآخر، فيدخله بكل ما يقتضيه "حرم الحوار" من أدب في الاستماع إلى الآخر، وما يتطلب من مرونة بين أطرافه، وصراحة في التعبير عن الرأي.
للحوار زوايا لا بد أن تؤخذ بنظر الاعتبار:
أ - الحوار على أساس (المشترك): أراد الإسلام للمسلم أن ينطلق في الحوار مع الآخر على أساس المشترك بينهما، من دون البدء أو الاستغراق في نقاط الخلاف التي من شأنها تأزيم العلاقة، وإسقاط المفاهيم ضحية ذلك الشعور المتأزم، ((قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم...))(48)، والمشترك قد يكون إنسانياً، وقد يكون دينياً، وقد يكون مذهبياً، وحين يكون المحاور ذا ملكة سليمة في التفكير والشعور والأداء، عندها سيجيد فن التحرك على المشترك المناسب، مع كل من يحاوره، وحول أي موضوع يختلف معه عليه.
ب -صياغة الحوار: اعتمد الإسلام مبدأ الحوار وصياغته أساساً في التداول الحواري، وحمل المسلمين على تبنـّي أنسب الأساليب في حوارياتهم مع الآخرين ((ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون))(49)، الخيارات التي تنفتح أمام المحاور الإسلامي بناءً على خبرته الحوارية تتبعه اختيار الأحسن للآخر من حيث الصياغة، فالمحاور الإسلامي قد تكون أمامه خيارات في الآليات والمضامين، إلا أن دائرة الخيارات في الأسلوب أوسع بكثير، وهذه ولاشك هي أداته في العرض، وهو كما يقال (العرض جزء من الجوهر).
ت -تجنب الفرض والرفض المسبقين: لا يرضى الإسلام من المسلم أن يفرض نفسه صواباً مطلقاً، أو يرفض الآخر على أنه خطأ مطلق، قبل أن يلتقيا على مائدة الحوار التي تفترض احتمالية الخطأ والصواب لدى الطرفين، ((... وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين))(50)، والفرق هائل بين العقليتين عقلية الفرض على الآخر وإلغائه، وعقلية الاعتراف بالآخر وافتراض صوابه، وهو ما يجعل الجو الحواري مناسباً للتعريف، والتعرف على الرأي والرأي الآخر.
ضمانات التعاون:
1- تأصيل التعاون على قاعدة المشترك الفكري والأخلاقي الإنسانيين؛ ما يجعل المناخ الاجتماعي والسياسي شاهداً على النمط والأداء التعاوني وضاغطاً باتجاه الحفاظ عليه.
2 - تحويل نظرية التعاون، وخطته في العمل إلى حيز التنفيذ مع توفير كل مستلزمات التفعيل.
3 - العمل بمبدأ "التعاون المجتزأ" الذي يسري مفعوله في أي حقل من الحقول المتفق عليها من دون أن يتأثر بالمختلف عليه ومن باقي الحقول، وبالنظر لتعددية الحقول المنويّ التعاون فيها وهي تختلف من بلد لآخر فإن صياغة كل عقد اتفاق بحقل أو أكثر من الانتهاك بدعوى الاختلاف في مجالات أخرى أمر في غاية الأهمية.
4 - ترويج ثقافة التعاون: وهو ما يسهم إلى حد كبير بتوفير المظلة التعاونية لشعوب كل أطراف التعاون، كما يحد من عملية التجاوب لأية ممارسة خرق من قبل أي من الأطراف.
5 - تقديم القدوة "الأنموذج" لأطراف التعاون الذي يتحلى بأخلاقية التعاون، وحسن الأداء إن الانشداد للقدوة "الأنموذج" يحمل المتأسين على جعل روافده من القيم؛ من هنا كان الدفاع عن أي أنموذج من المتصدين سواء أكان دكتاتورياً أم شعبياً هو دفاع عن قيمه ومبادئه ولو بالإجمال.
6 - مراعاة المواثيق والاتفاقات ذات الطابع الدولي ما يجعل الخروقات المحتملة أمام مسؤولية دولية أكثر منها مسؤولية محلية.
خطوات على طريق الوحدة (51)
1 - اعتبار القرآن الكريم المرجع الحاكم على كل ما دونه من الأحاديث، والرجوع إليه في صياغة العلاقة بين أبناء المذاهب، وتربية أبناء المذاهب، وتربية أبناء الأمة على المشترك القرآني في شتى مناحي الحياة.
2 - التأسي بالسيرة المطهرة، وما تعكسه من صورة رائعة في حفظ وحدة المسلمين.
3 - التعامل مع المذاهب الإسلامية بطريقة تحفظ كرامتها وكرامة أبنائها، وتحرم دماءهم، وأموالهم، وكل ما يتعلق بهم.
4 - إيجاد أجواء الحوار والتلاقي المستمر، لتداول شؤون الأمة والوقوف على مصالحها لتحديد المخاطر المحدقة بها.
5 - الامتناع عن لغة الفتاوى التكفيرية، والتحريضية التي تدفع باتجاه إثارة النعرة الطائفية واستباحة الآخر المذهبي.
6 - نشر ثقافة التقارب، وإلقاء الضوء على المشتركات المذهبية في وسائل الإعلام المختلفة مثل الفضائيات والصحف والمؤتمرات.
7 - تجنب البحث في الاختلافات العقيدية والتاريخية والفقهية، وجعل مثل هذه الموضوعات حصراً بيد العلماء والمختصين.
8 - طرح هموم إسلامية عامة، وأهداف ترتبط بمستقبل الأمة الإسلامية كلها، والنظر إلى العالم الإسلامي على أنه عالم يهمّ جميع المسلمين حاضراً ومستقبلاً.
9 - التأكيد على الوحدة الوطنية في كل بلد، وتعميق الوشائج بين أبناء الشعب الواحد لتعزيز وحدة الأمة بكل شعوبها.
10 - طرح مشاريع وحلول إنسانية من وحي الفكر الإسلامي، والتي من شأنها أن تقلص المسافات بين أبناء الأمة الأسلامية وبقية أمم العالم.
11 - تبنــّي اللغة العربية ليس من منطلق عنصري، بل من منطلق الحرص على فهم القرآن الكريم فهماً عميقاً، وفهم الحديث الشريف، وما كــُتِب من كتب قيمة مرتبطة بالتراث الإسلامي بهذه اللغة، وجعل اللغة العربية لغة التداول الفكري المعمّق، ولغة الاستنباط مع الاحتفاظ بحق كل اللغات الأخرى غير العربية مثلما احترمها الإسلام، وع.ها، وحافظ عليها على مدى التاريخ.
12 - جعل الوحدة الإسلامية بين شعوب بلدان العالم الإسلامي همّاً حقيقياً تتصاغر دونه بقية الهموم، وتجنــّب النعرة العنصرية التي ثارت في بعض بلدان الغرب.
13 - جعل الوحدة الإسلامية نمطية عمل، وليس مجرد تنظير، ويبقى الوحدوي العامل منظــّراً مرة، ومطبـّـقاً مرة ثانية، ومضحياً من أجلها ثالثة، ولعل أروع من جسّد الوحدة الإسلامية المعاصرة في العراق تنظيراً وعملاً، وتضحية هو السيد محمد باقر الصدر (رض).
إبراهيم الجعفري
لنــدن
18 جمادي الثاني 1430 هج
الموافق 2009/6/12م
الخاتمة
أودّ أن أقول لكم جميعاً وأنتم من بلدان مختلفة: إننا لم نقرأ (عزالدين القسام) من خلال الإعلام الزائف ضد (عز الدين القسام)، كما لم نقرأ (عمر المختار) من خلال الإعلام الزائف ضد ليبيا، ولم نقرأ الخطابي (عبد الكريم الخطابي) من خلال الإعلام الزائف ضد المغرب، أو (عبد القادر الحسيني الجزائري)، من خلال الزيف ضد الجزائر، ولم نقرأ كذلك الكثير من القادة كـ (حسن البنا) (والشيرازي) الذين قادوا هذه الثورات المختلفة، لم نقرأهم من خلال أعدائهم إنما قرأناهم بعد جهد، ومعاناة؛ فأنصفناهم، وشعرنا أننا عندما ندقق، ونصل إلى عمق الحقيقة نبذل جهداً، ونتحلى بأخلاقية عالية جداً..
ما لم يتمتع المثقف بحالة من النضال والبصيرة النافذة والأخلاقية العالية وشجاعة الاعتراف لا يصل إلى الحقيقة التي تأبى إلا أن تصل إلى هؤلاء ولهؤلاء فقط، أما الملاحظات على ما تفضل به احد الاخوة، فأود أن أقول: إننا ندين الموقف الأمريكي كأستراتيجية، ولنا أستراتيجيتنا التي تتناقض تناقضاً حقيقياً مع الأستراتيجية الأمريكية، وأقصد بكلمة أستراتيجية هو أنها لا تتبدل مع الإدارة، ولا تتبدل مع الحزب الحاكم.. الولايات المتحدة لها أستراتيجيتها، ونحن لنا أستراتيجيتنا، الشيء المعروف لم نكن نحن مع الحرب؛ لأننا كنا نعمل، وقدمنا فلذات أكبادنا من أجل تغيير النظام، ولم يخلُ بيت من البيوت في العراق إلا وفيه شهيد، من اجل تغيير النظام الحاكم، ولكننا عندما طـُرِحت أمامنا مؤتمرات كانت واجهة للحرب رفضناها بالجملة، ولم نحضر هذه المؤتمرات، وأرجو منكم وأنتم مثقفون أن تقرأوا جيداً مواقفنا قبل الحرب وبعدها.. نحن رفضنا دخول المؤتمرات (مؤتمر لندن، ومؤتمر صلاح الدين، و مؤتمر الناصرية، و مؤتمر بغداد) كنا نـُصِرّ على أن نميل إلى طرق اخرى من دون أن نعرّض العراق للحرب، وما يتبعها من احتلال، و بعد أن اصبحت الحرب تاريخاً والاحتلال واقعاً كنا من دفع الضريبة، وثمن مواجهة هذه الأمور على الأرض العراقية فلا يساومنا في ذلك المساومون على الإطلاق، وقد قلتها من على منبر جامعة الدول العربية في 4/11/ 2005 ، و منكم من قرأ كتاب الصلف الأمريكي لـ (ثيودور) يصلكم كل هذا الكلام الصلف الأمبريالي يقول: إن المسلمين لا يكرهون الامة والمدنية الأمريكية وإنما يكرهون التمايز، ويكرهون السطو والاستعمار والاحتلال وأعبّر عن رأي أبناء الأمة الإسلامية، أودّ ان أقول: إني اختلف مع التفسير القائل ان العسكرية تصنع حضارة.
العلوم قد تتملكها العسكرية، وغير العسكرية، فالعلوم حيادية والعالم حياديّ، فلم يكن (وليم هارفي) أو (اسحاق نيوتن)، أو غيرهما عسكريين إنما الحكومة التي تريد أن توظف الحقائق العلمية، والاكتشافات العلمية لتفرض عسكرة كما في العراق، هذا ليس في أمريكا هذا في العراق، الكومبيوتر دخل في الأمن والمخابرات، ولم يدخل مثل بقية الدول في تحليل الدم ومعرفة الشخص أو تاريخ مرضه ،أول ما استخدام للكومبيوتر كان في أول السبعينيات لمتابعة المواطنين، ورصد حركاتهم وسكناتهم، هذه حقيقة، وفي نفس الوقت، العسكرة في الجيوش الأمريكية على الرغم من خلافنا الحضاري معها لكن العسكرة محكومة بالقرارات السياسية وليس العكس...
نحن ضد الآلية العسكرية، أوعسكرة العمل السياسي، أو جوسسته، إنما نحن مع عمل سياسي منفتح، ويراعي الثوابت الإنسانية، المنطلقة من الأمة كقاعدة حضارية.. لقد اشتعلت نيران الحروب في هذه الأمم (أوروبا)، وليس في غيرها! أين ذهبت حرب المائة والست عشرة سنة التي يسمونها حرب المائة عام، أين حدثت هذه، حدثت هذه بين الأمة الفرنسية والأمة البريطانية في داخل كل أمة حصلت حرب، حرب الثلاثين عام من عام 1618 الى عام 1648 في المانيا بين شمالها وجنوبها، أين دارت الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية وطحنت 65 مليون ضحية؟.
لم تكن هذه الحرب في الأمة الإسلامية بل كانت في أوروبا، هذه أخلاقيتهم، هذه الحضارات التي نشأت من امة على طريقتها واُستفرغت من المحتوى الاخلاقي والفكري، فقد مـُنيـَتْ بشتى أنواع الدمار وعـمَّ الدمار بلدانها.
لقد كنا نقدّر بعض الذين فكروا بعقل متحرر في فرنسا مثل (روسو)، و(مونتسيكيو)، وكثير من هؤلاء، (جون آدمز)، ثاني رئيس لأميركا بعد (جورج واشنطن)، وقد كان رئيسا لاميركا عندما حصلت ثورة الاستقلال عام 1783 قال: اميركا لم تتحرر من الاحتلال البريطاني إلا بعد أن تحرر عقلها وتحرر قلبها وبعد ذلك استطاعت ان تحقق التحرير، هذا المفهوم الاخلاقي قاله القرآن قبل (جون آدمز)، حيث يقول تعالى:
((إن الله لا يـُغيّرُ ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)).
عجباً واستغراباً ممن يقول إن الأمة وصلت إلى حد اليأس..
لماذا إخواني؟ نحن الآن نختلف عن عام 1909، عام 1909 أين كنا؟؟ كنا في دولة الرجل المريض (الدولة العثمانية)، ما كان ابناؤنا وبناتنا يدخلون المدارس آنذاك، وكان التخلف سمة الحياة، أما اليوم فهناك اكثر من بلد من بلدان العالم الاسلامي فيه دولة، وأكثر من ثورة، وأكثر من صحوة، وأكثر من مفكر، والمرأة تدخل البرلمانات، كل شيء الآن يتحقق وبشكل مطرد، نحن اليوم لسنا كما كنا سابقاً، نعم.. لسنا في القمة، ولكن لسنا في القاع إنما على السفح..
أرجو ان نبتعد عن هذه الحالة، ولا يستبد بنا اليأس فنحن أمة تملك مقومات النمو والارتقاء، والأمم التي سبقتنا تفشـّى فيها التخلف ونشبت فيها نيران الحروب أكثر بكثير من أممنا، أية أمة من أمم العالم بعد ألف وأربعمائة سنة تنبض في داخلها الحياة بأروع معانيها، الأمة الروسية 1917 في الثورة البلشفية سقطت في عام 1985، وجاءت (البروسترويكا)، وكل شيء انتهى، ملكت العالم، وكانت المعادل الأميركي في العالم.. أين أصبحت؟.
ألف وأربعمائة سنة والأمة الاسلامية تنبض بالحياة في كل مكان من العالم الإسلامي، هل نحن قليلون؟ نحن (51) بلداً، وتعدادنا يصل الى مليار وربع المليار إنسان.. نحن موجودون، ثلثا احتياطي نفط العالم بأيدينا، ونملك ثروة حضارية، وثقافة، وخطاب، ورموز، وتاريخ؛ احدهم يقول: الأمة الإسلامية حسمت أمرها عندما فسـَّرت الحياة بعد الموت، ولذلك اقول لأتباعها: ما هذا الخوف والتردد؟. هل حضرنا إلى هنا حتى نلعن ألامة، أم جئنا لنتحدث بالمشتركات؟! الأمة تحتاج إلى من يأخذ بيدها، وينتشلها، ويصعد بها إلى الأعلى.. هل توجد أمة من أمم العالم لم تتعرض للتلكؤ؟ وليس فيها خونة؟
يكفي أن تكون الأمة الإسلامية أمة عبقريةوان لم تكن امة عباقرة أمة تمتلك الصعود.. أمة صاعدة وإن تراوح البعض منها هنا وهناك.. ألف وأربعمائة سنة والأمة تتحدى، وتواجه تحديات لو مرت على أية أمة من أمم العالم لأصحبت رماداً تذروه الرياح.
هذه أمتنا يوجد فيها سنة، ويوجد فيها شيعة، نحن لا نستسلم، فحين نعالج موضوع السنة والشيعة مرة ننظر له من منظور مذهبي، فقه وفكر وفهم، وليس في ذلك مشكلة، ولكن عندما يتحول التعايش المذهبي والتعدد المذهبي إلى تعصّب طائفي ونعرة طائفية، نرفض ذلك رفضاً قاطعاً.
من يتحدث عن الوحدة يـُحاصر فعلاً، وما أجمل أن تتحدث بالمبادئ والقيم وتتعرض الى الحصار! لأنه دلالة على أن فعلك كبير، وعندما يكون فعلك كبيراً تكون ردود الفعل كبيرة أيضاً، وعندما تتحدث وتمرّ بمصالح الخونة والسيئين من المؤكد انك ستـُحارب، وتــُرمى بالحجر..
ماذا يعمل الشيعة ؟ الشيعة لا يريدون أن يعملوا مشروعاً شيعياً إنما يريدون مشروعاً وطنياً؛ لأنهم جزء من الحالة الوطنية العامة التي تضم إخوانهم وأشقاءهم المسلمين من أبناء الدين الإسلامي، وإخوانهم الوطنيين العراقيين، بل يُصِرّ الشيعة على الخروج بمشروع وطني عراقي يرتقي إلى حجم الوطنية العراقية، وواجهت ضربات كثيرة، واستطاعت أن تلثم جراحها. تعلمون جيداً ما الذي حصل في جسر الأئمة، وماذا كان موقف الشيعة ممثلاً بالمراجع والحركات والحكومة والأفراد كافة.. تعلمون ماذا حصل للضريح المقدّس في سامراء؟ ومع ذلك وقف الشيعة يهدّأون الأجواء لئلا تتحول إلى فتنة طائفية... هل تعلمون أننا أخــّرنا الإعلان عن الحكومة ثلاثة أشهر؛ لأِن بعض الفرقاء السياسيين يريدون أن يتحاصصوا، ويأخذوا مواقع الإخوة السنة العرب، وأصررتُ على عدم أعلان الحكومة ما لم أتأكد من أن ستة من الوزراء ونائب رئيس الوزراء سيكونون من الإخوة السُنة.
وهذا مفهومنا للوحدة......
التعليقات (0)