سنتناول في هذه الدراسة تيمة التناص بالتجريب على المجموعة القصصية " سنوقد ما تبقى من قناديل" للأديب القصاص عبد الغفور خوى ، وهي آخر مجاميعه القصصية و ليس أخيرها ، وقد اختار هذا العنوان من إحدى قصصه المعنونة بنفس الاسم .
إن للعنوان دلالة هامة في سير أحداث هذه الباقة المتنوعة و المشكلة من القصص التي تختلف من حيث الشكل ومن حيث المضمون و الذي يجمع بينها هذه الرؤية الثاقبة إلى مستقبل زاهر في فضاء من الحرية و رحابة الصدر التي تجمع مختلف الفئات المشكلة للمجتمع.
إن سيميائية العنوان ودلالته تشير إلى الفضاء الرحب الذي يريده الكاتب إن أيقونية الكتابة وطبيعة الخط بشكله ، و سين التسويف ، ولونه المضيء ، وصيغة التنكير و الجمع في لفظ قناديل ، كل هذه المعطيات تشير إلى هذه الإضاءة القادمة من هذه القناديل التي أنارها الكاتب في دنيا الفكر و الأدب .
إن هذه المجموعة القصصية مرتبطة بالواقع المعيش ، بالواقع المأزوم الذي يبحث له الكاتب المبدع عن رجل ثابتة في عالم التقدم ، عالم التميز ، عالم الفكر و الثقافة ، في إطار رؤية إلى العالم ، عالم جديد بكل المقاييس ، إنه عالم القيم و الفضيلة و الاستقرار الروحي و الأمن الاجتماعي.
إن الأديب عبد الغفور خوى سجل وبكل صدق قيم المحبة و الإخاء ، وتحدث عن واقع يرفض كل ما هو مخل للسير العادي و الطبيعي لنمطية الحياة بلغة حركية ، تخلخل هذا الثابت هذا الجمود ، ولكن في الاتجاه الصحيح ، و المفهوم القويم للحركية.
إنه بهذا الأسلوب الجديد في الكتابة يزيح جانبا هذه النظرة العبثية الماجنة إلى الحياة، نظرة الإهمال في شتى مجالات الحياة . إهمال المنظومة التربوية المرتبكة التي هدها الزمن وتآكلت بفعل الإهمال ، هذه المنظومة التي تعتمد على الطرق و المناهج البيداغوجية العتيقة يكون فيها الأستاذ هو قطب المعرفة و مصدر العلوم ، لا يناقش في أفكاره و لا يعطي للتلميذ فرصة التعبير و البوح عن نفسه، يهش وينش بعصاه ملوحا بها في وجه التلاميذ الذين يقفون مبهوضين أمام هذا الموقف المتعنت .
وهذه السلطة و التجبر كانت واضحة وموزعة بشكل جلي في جل القصص المشكلة لهذه الباقة وبأوجه مختلفة و متنوعة ظهرت على لسان الحيوانات ، على لسان الحمل الذي يرمز به إلى الضعف وهذا الضعيف ينبغي عليه أن يبحث عن الوسائل الممكنة و اكتشاف طرق تقيه من عضات الضواري .
لقد تأثر الكاتب عبد الغفور خوى بكتابات عبد الله بن المقفع عندما سرد حكاياته على لسان الحيوانات وهذا ما نراه في قصة " الذئب و الحمل " عندما فكر الحمل مليا وقطع ورقة من الشجرة وكتب عليها " ارتد هذا الجلد الاصطناعي الواقي ، فإنه يحميك من الرصاص و مخالب و أنياب الضواري" .
إنها لعبة الصراع الأبدي بين القوي و الضعيف صراع فرض الذات ، وسيطرة لغة العصا ، لغة الهراوة الغليظة ، هراوة الأستاذ ، هراوة الضواري ، إن الكاتب بعمله هذا يتناص مع نظرية داروين البقاء للأصلح غير أنه صاغها بأسلوب أدبي لبق مبينا الحلول المتعددة والممكنة .
وقد أكد الكاتب أن هذه اللغة الفاشية لا تولد إلا العنف فكلما تطورت وسائل العقاب كلما تطورت وسائل النجاة من العقاب ، وهذا ما نراه في قصة التلميذ الذي تأثر كثيرا بالعنف القائم من جهة واحدة وهي جهة الأستاذ ، فكان رد فعله أدهى و أكبر وهو " أثناء عودته من المدرسة أخرج التلميذ إحليله وكتب ببوله على الأرض أنا تلميذ غير مهذب" .
إنها قمة في الحرفية و التقنية في الكتابة و الجمالية في التصوير إنها روعة في نقل المشاهد الحية و المتابعة اليومية و المباشرة لما يجري في مدارسنا ونراها رأي العين .
إن الكاتب يعالج مشاكل المؤسسة التربوية من خلال المؤسسة الأدبية وشروطها في الإنتاج و التلقي دون إحالة إلى مسألة الانتماء إلى المنظومة التربوية .
و القارئ لهذه المجموعة القصصية يشعر و كأنه يقرؤ كتابا في الانتربولوجيا تعمق جيدا في واقع الإنسان في حياة الإنسان بتغيراتها لكنه ينظر إليها من زاوية تربوية و أخرى اجتماعية وثالثة سياسية و اقتصادية وهذا دليل على عمق ثقافة الكاتب ، إنه ذاك الكاتب المتمرس ، إنه يتربص الحركات و السكنات ويتابع بامتياز ما يجري في الواقع وعلى أرض الواقع، منطلقا من الواقع ليعود إلى هذا الواقع .
و أنت تقرؤ هذه القصص تشعر و كأن الكاتب يحمل على كتفيه آلة تصوير أوكاميرا فيديو ينقل فسيفساء الواقع بشكل حركي ، يتابعه عن قرب لتأسيس بناء عميق الدلالة بناء قويم ، قائم على أسس صلبة .
وهذه الحركية تظهر من خلال الحوار المتعدد الأصوات و النبرات في القصص كما نجد في " درس في التراكيب" فكانت الحركية قائمة بين التلاميذ و الأستاذ من خلال اختلافهم حول جذر لغوي ، حول تراكيب الحروف المكونة من ح.ر.ب ، فالتلاميذ يركبون هذه الحروف في جملة بريئة تربوية ، و الأستاذ يركب نفس الحروف بطريقة تليق برؤية معينة ، هذه الرؤية التي تساهم في بلورة فكر ظلامي قائم على العنف و على الحرب ، و الكاتب يهدف من خلال هذه القصة رفض هذا النوع من الفكر الذي يقصي الآخر ، فكر يحجر على الأفكار النيرة الآملة في المستقبل الجميل ، الأفكار المتفائلة التي تفتح باب الحوار على مصراعيه.
إن الكاتب يرفع صوت الحب و التسامح و الكلام الجميل مشيرا إلى سماحة اللغة وجماليتها وشساعة فضائها فهي التي تسمي " الأعمى بصيرا و النار عافية و المقبرة روضة " إنها قمة في التسامح على المستوى الدلالي و اللفظي .
إن الكاتب هو ذلك المثقف العضوي الذي يساهم في رسم خارطة الطريق وتحديد منهج صالح للرفع من مستوى المجتمع ويعمل على تطويره دون الخروج عن المبادئ العامة المشكلة له.
إن بذلك ينشد إلى خلق فضاء جديد يتقاطع فيه الماضي مع الحاضر و يعود إلى الماضي دون الركون فيه و العودة إلى الحاضر دون نسيان الماضي مع الأمل في المستقبل الجميل.
إن هذا التقاطع يدفعه إلى التناص مع ثقافات سابقة مؤثرة في الموروث القرائي ، و هذه التمفصلات تتقاطع بشكل إيجابي مع النص القرآني مع لغة القرآن دون خدش أو لمس في لغة القرآن يستخدمها بشكل بديع ، بأسلوب المعجب ببلاغة وفصاحة القرآن.
وهذا التناص نلاحظه مثلا عندما أقام الكاتب ذلك الحوار الجميل في قصة" قبس و يأتي الفجر" حينما قال " إني لا أحب الآفلين" وهي إحالة إلى قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام عندما شرع في عبادة الشمس . وهناك إشارة أخرى لتناص لغة السرد في هذه المجموعة مع الخطاب القرآني عندما قال " اتبعني و لا تسأل عن شئ حتى أحدثك عنه " إن هذه اللوحة وهذا المشهد إحالة إلى قصة سيدنا موسى مع الخضر.
هناك تقاطعات متعددة تحيل إلى النص القرآني على مستوى الألفاظ و العبارات و العناوين كما نجد في قصة " أهل الكهف" وهذا دليل على تأثر و إعجاب الكاتب بالأسلوب القرآني الفصيح البديع.
وبهذا تتكرر الكلمات و تتكرر معها العبارات و تتكرر معها الصور و الدلالات. و هذا التكرار يساهم في حركية القصص و إعطائها صفة الواقعية و الجمال .
إن تكرار لفظ القناديل عدة مرات في هذه الباقة من القصص ، يدل على الرسالة التي يحملها الكاتب وهي رسالة تنوير عقول الناس ، إتمام الرسالة التي بدأها الأنبياء و حملها العلماء ، و عبر عنها بكل حب و إخلاص المبدعون و الأدباء ، إنها رسالة سامية ، مقدسة نبيلة المعالم وسامية الأهداف.
إنها صيغة أخرى من صيغ الحركية التي تبث الحياة من خلال هذه الصيغ التي اختارها الكاتب ، وهذه التراكيب ، وهذا التسلسل المنطقي للأفكار ، في سيمترية النصوص ، و كأنها قصائد شعرية منتقاة ، فنجده في قصة " أول الحياة حلم" يتحدث بشكل شاعري جميل عن تلك العروس التي نسجت خيوط هذه القصة وكانت هي الشخصية البارزة فيها ، و الشخصية المتطورة بتطور أحداث القصة. يحركها الكاتب وكأنها عرائس ، يتحكم في خيوطها ابتداء من ليلة زفافها ثم عندما تحركت لمعانقة الشاطئ وهي حافية القدمين وفي يدها صورة شاب لم تهنأ بمعانقته لأن القصيدة لم تكتمل ف " تطايرت حبات الرمل و انتحر الحب في القصيدة قبل أن تغنى" و غرق العريس في البحر وضاعت الأحلام و" لا تبقى للعرائس سوى الصور" التي " أعادتها إلى حمالة صدرها" .
إن الكاتب هنا نجح في نقل صورة مأساوية ، نعيشها يوميا هي معاناة الشباب مع مأساة الهجرة السرية ، و ظاهرة الحريق عبر قوارب الموت .
إن القارئ لهذه القصة يشعر و كأنه يشاهد فلما دراميا يغرق فيه البطل وتنجو البطلة وتستمر المأساة الدرامية التيتانيكية.
و القارئ لمجموعة " سنوقد ما تبقى من قناديل" يشعر بشئ من الغرابة في المعاني وهدف الكاتب من ذلك الرفع من إيقاع الخطاب القصصي ، و الغاية من ذلك هو رفع المستوى القرائي و الاستيعابي عند القارئ المتلقي .
إن الكاتب لا يلجأ إلى تمويه و تعتيم الصورة و المشهد القصصي و إنما هدفه هو خلق تلك الغرابة المألوفة المتعلقة بشئ نعرفه لكن لم نعد نتعامل معه فأصبح غريبا عنا، إنه اعتمد أسلوب الصدمة و الدهشة المساعدة على خلق الغرابة .
محمد يوب
14.07.10
التعليقات (0)