تجربة "بلدنا" الليبرالية
كمال غبريال
GMT 6:00:00 2011 السبت 19 مارس
بحر السياسة المصرية الذي بقي جافاً لعقود طويلة قد امتلأ الآن بالمياه، لا نبالغ بأي حال لو قلنا أن كل مصري صار الآن يفكر في مصير بلاده، ويتشاور مع معارفه فيما ينبغي لنا أن نفعل، وكيف نستطيع أن نحقق ما نتمناه.. راحت إلى غير رجعة أيام السلبية والإحجام عن الخوض في أحاديث السياسة اللعينة، وذهبت معها أيام شعورنا نحن المهتمين بالشأن العام بالعزلة وقلة الحيلة.. الآن ليس فقط الشباب الذي كان لاهياً منخرط بالكلية في الهم الوطني السياسي، بل ربات البيوت أمهات وجدات، صرن يشعرن وكأنهن صانعات قرار، أو على الأقل ملكفات من قبل أنفسهن بالبحث لمصر عن الطريق القويم الذي ينبغي أن تسلكه.. هي الحالة الأروع بلاشك لأي أمة، وهذا بالتحديد ما يجعل آمالنا في النجاح تتأسس على قاعدة صلبة، وليست مجرد أحلام عصافير أو مثقفين!!.. هذه هي النتيجة التي أوصلتنا إليها ثورة 25 يناير 2011، والتي لا تستطيع أي قوة أن تنزعها منا، أو تلتف حولها إلى هذا الاتجاه أو ذاك.
ما تبدى واضحاً أثناء الثورة وبعدها، أن الأغلبية الكاسحة من الشعب المصري تطلب الحرية والكرامة الإنسانية، كما تتمسك بالوحدة الوطنية تمسكها بالحياة على ضفاف النيل.. قد استطاعت هذه الجموع المليونية فرض إرادتها بالمظاهرات، واقتلعت نظاماً عتيقاً في الاستبداد والفساد، بحيث نستطيع القول أن القطاع الأكبر أو الأهم من مهمة هدم القديم قد تتم الآن بنجاح، لكن يبقى أمامنا مشوار البناء طويلاً وشاقاً، ومحفوفاً بالمخاطر والمزالق.. المهمة الأولى والملحة لبدء عملية البناء هي بالتأكيد تنظيم وإعداد الفريق الذي سينجز المطلوب، وماذا يكون هذه الفريق غير كل تلك الملايين عاشقة الحياة والحرية والكرامة الإنسانية؟!!
لدينا في الساحة السياسية المصرية عنصران من الزمن القديم، وهما قاعدة الحزب الوطني وفلوله، والجماعات الدينية باختلاف أطيافها، التي التحقت بها أخيراً الجماعة الإسلامية.. هؤلاء منظمون ويعرفون طريقهم جيداً، ولاشك أنهم ينظرون إلى الملايين من صناع الثورة الحقيقيين نظرة استهانة وتربص، متيقينين أن ثمرة الثورة لن تلبث أن تسقط بين أيديهم.. لا نرى الأمر بالطبع كما يراه كثيرون، مبعثاً للرعب أو خيبة الأمل، بل بالعكس تماماً، فالارتعاب من الفزاعة الإسلامية الشهيرة، أو من عناصر نظام مبارك عتية الفساد، صار جزءً من الماضي الذي لن يعود، الماضي الذي كانت الساحة السياسية المصرية فيه خالية، ليمرح فيها الخصمان اللدودان ظاهرياً، والمتحالفان من تحت المائدة.. الآن وقد "تحرر من أسره أسير الزمان" كما يقول الشاعر، فإن أمواج الجماهير العتية سوف تقذف بكل هؤلاء، كما يقذف البحر بالنفايات، لكن لكي يتم هذا لابد وأن تنتظم تلك الجماهير في تشكيلات وأحزاب وجمعيات قادرة على الفعل المنظم والممنهج، والمختلف بالتأكيد عما يحتاجه التظاهر الذي نجحت فيه الأمة المصرية بامتياز.
من يطالع صفحات الفيسبوك الافتراضية الآن يستطيع أن يلمس الحل والمشكلة في آن لمعضلة التنظيم.. فهناك العشرات أو المئات من محاولات التجمع في شكل أحزاب أو إئتلافات، وهي حالة تشظي لابد منها بداية، لكي ننتقل بعدها إلى المرحلة التالية، وهي التجمع في عدد محدود من التشكيلات، يمثل كل منها تياراً فكرياً محدداً، لكي تدخل بعد ذلك في تنافس سياسي بين بعضها البعض، ليتمكن بعضها من الوصول إلى السلطة، ويبقى البقية على كراسي المعارضة، والتي لا يقل دورها أهمية في الدول الحديثة، عن الدور الذي يؤديه الممسكون بالسلطة.
نلاحظ أن الكثير أو ربما كل التشكيلات الابتدائية التي تحاول التجمع الآن تنحو لفكر الائتلاف الوطني، بمعنى أن يجمع التشكيل أطيافاً واسعة من التيارات السياسية، قد يجمعها الاتفاق على الدولة المدنية والوحدة الوطنية مثلاً، ثم تختلف فيما بينها حول كل ما عدا ذلك.. لا نرى هذا المنهج الائتلافي صالحاً لتكوين تشكيلات ابتدائية، ولا لتكوين أحزاب قوية حقيقية بعد ذلك، فالائتلاف يكون على مستوى الوطن بداية، على أساس "حد أدنى" لابد أن تتفق عليه أي أمة تريد أن تعيش كأمة موحدة قادرة على التقدم باتجاه ما، وبدون أن يتفق الجميع على هذا "الحد الأدنى"، لا يمكن لهذه الأمة أن تذهب إلى أي مكان، اللهم إلا إلى هاوية التصدع والسقوط.
هناك بعد ذلك الائتلاف بين أحزاب أو تيارات سياسية على قضية أو مجموعة قضايا محددة، تذهب لأبعد من ذلك "الحد الأدنى" الوطني، لتحقيق رؤيتها المشتركة للقضية أو القضايا محل الاتفاق، وقد يقتضي هذا أن يقوم هذا الائتلاف بتشكيل حكومة، أو جبهة معارضة، لكن الائتلاف لابد في جميع الحالات أن يتم بين أحزاب قوية ومنظمة وموحدة الرؤية داخل كل منها، كما يتأسس الائتلاف على التحديد الدقيق لقضايا الاتفاق، تنحية لها عن سائر مناحي الاختلاف.. يقودنا هذا إلى الاحتياج إلى أحزاب قوية، قبل أن نفكر في التجمع في ائتلافات وطنية، ونحن نرى في محاولة حرق المراحل هنا، فنبدأ من جموع لا يربطها تنظيم ولا فكر واضح ومحدد، لنقفز إلى ائتلافات وطنية مباشرة، أن هذا المنهج لن يؤدي إلا إلى محاولات مجهضة، لتكوين كيانات وهمية لا تلبث أن تتصدع عند أول منحنى أو لحظة اختبار.. ويجدر بنا هنا أن نشير بالتحديد إلى محاولات مخلصة للوطن، تخطئ بتبني نهج الائتلاف في تشكيها الابتدائي، مثل محاولات ناصريين وقوميين واشتراكيين وليبراليين التجمع في حزب واحد، بتصور أنه يكفي إجماعهم على الدولة المدنية والوحدة الوطنية.. هم هكذا يتسرعون في الائتلاف قبل أن يأتي أوانه، فهؤلاء الفرقاء سوف يجتمعون يوماً للدفاع عن قضاياهم المشتركة، في مواجهة غيلان أو ذئاب الفكر الديني السياسي، لكن ينبغي أولاً أن يؤسس كل منهم تشكيلة التنظيمي القوي، والذي يجمع بين منتسبيه "حد أقصى" من التوافق حول كل قضايا الوطن.. نقول "حد أقصى" وليس توافقاً تاماً، فالتوافق التام ليس وارداً بين البشر، فهو منهج القطيع الذي نرجو أن نودعه إلى الأبد، لكن لا مهرب لأي حزب سياسي حقيقي من أن يتأسس على التوافق على هذا "الحد الأقصى".
الآن لنرى آفاق تكوين أحزاب سياسية حقيقية على النحو الذي أسلفنا.. أمامنا تجارب الفشل الذريع في المرحلة الماضية، لمحاولات صفوة أو نجوم سياسيين تكوين أحزاب، بمحاولة اجتذاب الجماهير لتلتف حولهم، وهي ما نراها محاولات لتكوين نظم أبوية (بطريركية) مماثلة للنظام الأبوي الذي أسقطناه، حيث يشتركان في الدور المحوري الذي يلعبه الأب (البطريرك) سواء كان رئيس جمهورية، أو رئيس حزب سياسي.. ففي مقابل فشل أحزاب المعارضة النخبوية في اجتذاب الجماهير، لم نفاجأ أثناء الثورة وبعدها بتلاشي عدد ما قيل أنهم ثلاثة ملايين عضو في الحزب الوطني الديموقراطي، وجميعهم كانوا قد التفوا حول الأب (البطريرك) رئيس الجمهورية.. يحق لنا هنا أن نزعم أن ما أسقطته الثورة ليس فقط حسني مبارك، وإنما كل أب (بطريرك)، سواء كان في موقع سلطة أو موقع معارضة.. أسقطت المنهج البطريركي ذاته، وأن تشكيلات ما بعد الثورة ينبغي أن تبدأ من القاعدة.. من تجمعات صغيرة لجماهير تتفق على "حد أقصى" من الرؤية لقضايا الوطن، وتفرز هذه التجمعات قياداتها من بينها، ولا بأس وإنما يلزم أيضاً أن تضم بينها أفراداً من النخبة بصفتهم أفراد لا أكثر ولا أقل، لكي تتجمع التشكيلات الصغيرة المتماثلة في الفكر مع بعضها البعض بعد ذلك، لتكون أحزاباً حقيقية قوية.
أعرض في النهاية لتجربة أتصورها رائدة في تطبيق هذا المنهج، وهي تجربة تكتل "بلدنا" الليبرالي، حيث لجأ إلى كاتب هذه السطور عدد من الأفراد والمجموعات ليبرالية الفكر، للاستعانة به في تشكيل حزب ليبرالي، فكان أن أرشدهم إلى نقطة البداية العلمية، التي لا تحرق المراحل في محاولة متسرعة، فالحزب الحقيقي أشبه بقطار متعدد العربات، يصح أن نقول وجوب احتوائه على ثلاثين عربة على الأقل، بعدد محافظات مصر، وعلينا البدء بتكوين عربة واحدة منه، ترتكز أساساً في مدينتنا الإسكندرية، ولها أجنحتها ومنسقوها في سائر مدن مصر ومحافظاتها، بل وحتى أفراد من المصريين في كافة أنحاء العالم، ليجمعنا تنظيم محكم إدارياً، وموحد فكرياً على ما قلنا أنه "الحد الأقصى".. ثم نبحث بعد ذلك عما يمكن أن ننضم إليه من تشكيلات ليبرالية، لنكون من ارتباط "عربات القطار" حزباً ليبرالياً قوياً وقادراً.
حدث بالفعل ما خططنا له، وتم عقد جمعية عمومية من شباب الثورة وشيوخها، واختارت اسماً للتكتل هو "بلدنا"، كما تم انتخاب أمانة عامة كلها من الشابات والشباب، ومجلس أمناء من الشيوخ لتقديم الخبرة والمشورة.. الآن وبالتوازي مع السعي لضم أعضاء جدد للتكتل، وبداية ممارسة الفعاليات بالشارع المصري، نسعى إلى العثور على مجموعات أخرى مماثلة، لنكون معاً حزبنا الليبرالي المأمول.. ولا بأس هنا من أن نعرض البيان التأسيسي لتكتل "بلدنا":
بيان تأسيسي لجماعة "بلدنا"
صادر عن الجمعية التأسيسية
المنعقدة بالإسكندرية يوم 8 مارس 2011
نحن مجموعة من المصريين تسعى للتجمع فى كيان قانوني، يكون نواة لتكوين حزب قادر على تجسيد آمال شعبنا في مستقبل أفضل، عبر الاندماج مع سائر التشكيلات التي تنشأ الآن في مختلف أنحاء البلاد، وتشاركنا ذات الرؤى والتوجهات.. ولحين التقدم ببرنامج تفصيلي، نكتفي ابتداء بالركائز الأساسية لرؤيتنا:
1. مصر دولة ديموقراطية تمتد جذورها إلى فجر التاريخ، والانتماء لمصر هو الانتماء الأساسي، ومنه يتفرع الانتماء إلى المحيط الإنساني الرحب، والسلام والتكامل والتفاعل الإيجابي مع العالم أجمع هو الطريق لتحقيق التقدم والرخاء للشعب المصري.
2. الدولة وأجهزتها تستمد شرعيتها من سيادة الشعب، وللشفافية وحرية تداول المعلومات أهمية جوهرية لتمكين الشعب من الرقابة على أداء كافة الأجهزة، ضماناً لتوفر النزاهة، وتقييماً لنجاح الأجهزة في تحقيق ما يناط بها من وظائف وأهداف.
3. يتأسس عقدنا الاجتماعي على الحرية الفردية، وصولاً لتحقيق مجتمع حر وحداثي، تسوده قيم العدالة والمساواة التامة في الفرص بيننا جميعاً نحن ملاك الوطن، ليحقق كل منا ذاته وجدارته، التي يترتب عليها ترقي ورخاء المجتمع ككل.
4. الاقتصاد الحر هو الطريق المستقيم الذي ينبغي أن تسلكه مصر للتوافق مع عصر العولمة الاقتصادية، لتتفرغ الدولة للرقابة القانونية المحكمة، بالتوازي مع رقابة مؤسسات المجتمع المدني والنقابات، لاستيفاء شروط السوق الحر، الكفيلة بضبط الأداء بما يحقق رفاهية المجتمع ككل، ويحفظ حقوق الفئات الأضعف، ويوفر لها الحياة الكريمة، بتوفير رعاية وضمان اجتماعي وتأمين بطالة، وبما يقطع الطريق على الاحتكار والاستغلال والفساد.
5. الانفتاح الثقافي على العالم هو سبيل الحداثة التي ننشدها، لنأخذ ونعطي واثقين من ذواتنا وقدرة شعبنا على رفد الحضارة الإنسانية وإثرائها بمساهمات الإنسان المصري.
6. تتأسس علاقات مصر بسائر الدول والشعوب على مبدأ تحقيق المصالح المشتركة، والالتزام بالمواثيق العالمية لحقوق الإنسان، والتي يجب أن تلتزم مصر بها دون تحفظات.. وتقوم سياستنا الخارجية على تحقيق مصالح الوطن الداخلية بكافة جوانبها الاستراتيجية، وفي مقدمتها الجانب الاقتصادي، مع إيلاء أهمية خاصة لعمق مصر الإفريقي، والمرتبط بنهر النيل كشريان للحياة المصرية.
7. وضع سياسات تحقق ترقيه نوعيه حياة كافة المصريين عن طريق:
• تطوير وإصلاح التعليم طبقا لمعايير الجودة الشاملة، بما يكفل أجيالاً قادرة على التفكير الحر المبدع.. والتعليم الأساسي حق لكل مواطن على الدولة، المسؤولة عن تمكين الجميع- عبر التأهيل بالتعليم المتخصص والتدريب- للمساهمة في الإنتاج، ما يعود مردوده على الأفراد والوطن.
• أن يتمتع كافه المصريين بعلاج عصرى جيد من خلال برنامج تأمين صحي شامل.
• توفير سكن صحي وملائم لأصحاب الدخول الدنيا، ضمن تخطيط عمراني يراعي الاشتراطات البيئية، ومواصلات عصرية مريحة، وغذاء صحي متوازن مطابق للمواصفات العالميه.
• توفير الخدمات الرياضية والثقافية والفنية لكافة المواطنين.
• المحافظة على البيئة والتنمية المستدامة هي المنهج للاستغلال الأمثل لموارد البلاد الاقتصادية.
• التركيز على تنمية الموارد البشرية، باعتبارها أعظم الثروات المصرية.
8. حريه الرأى والاعتقاد مطلقة، وتمكين كافة المواطنين من المشاركة السياسية الفعالة، دون وصاية أو حجر على فكر أو اتجاه، على أساس الالتزام بحقوق الإنسان الطبيعية وسيادة القانون، وحرية التعبير وإعلان الرأي بكافة الوسائل المباشرة والإعلامية لا يحدها سوى التقييم المجتمعي لها.
9. تحقيق الفصل بين السلطات الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية، في ظل توازن وتكامل لصلاحياتها الدستورية والقانونية، تحقيقاً لفاعلية الأداء، وتأمين الالتزام بالسياسات تحقيقاً للأهداف.
10. كفالة الكرامة الانسانية للمواطن فى تعامله مع أجهزة الدولة، وإصدار تشريعات تجرم كل أنواع التمييز بين المواطنين، سواء على أساس الجنس أو العرق أو اللون أو الدين، أو أي تفرقة بين مواطن ومواطن تحت أي مبررات، وتنقية القوانين من أي مواد ملتبسة قد تعطي مرجعية لأي تمييز.
تقدم الجمعية التأسيسية لجماعة "بلدنا" هذه الوثيقة للشعب المصري، وإلى كافة قوى الحرية والحداثة التي تتشكل الآن، بغية التجمع معاً لتكوين حزب قوي ينافس على السلطة، بجانب سائر التيارات الفكرية والسياسية، كنواة يمكن أن نبني عليها برنامجاً تفصيلياً، نقدمه ونلتزم به أمام الجماهير، التي تنتظر منا رؤية تجسد خطوات عملية تنقلها إلى حالة أفضل، تحقق لها ما تستحقه من ازدهار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مصر- الإسكندرية
التعليقات (0)