تجديد الدين .. أم تزويره ؟!
جمال سلطان
في اللغة نفهم أن تجديد الشيء هو إعادته "جديداً"، أي إلى الحالة التي كان عليها أول مرة، وتجديد الثوب هو إصلاحه وتحسينه حتى يقترب أو يعود "جديداً"، أي على الحال التي كان عليها في أوله وبدايته، وفي الاصطلاح الإسلامي لا يكون معنى التجديد الديني بعيداً عن المعنى اللغوي؛ فتجديد الدين ـ من ثم ـ يكون بإعادته "جديداً"، أي إلى الحالة التي كان عليها أول مرة، وهو وجه القاعدة الذهبية في الإصلاح الإسلامي: إنه لن يصلح حال هذه الأمة إلاّ بما صلح به أولها، وهو هدي النبي وسلف الأمة الصالح وخير القرون، وبالتالي فكل حديث عن "الإصلاح" في الدين والفكر الديني يبعد عن هذا الأصل الصريح فهو باطل وتزوير وإضلال للخلق عن الصراط السوي.
هذا مفتتح من الضروري استذكاره كلما تحدثنا عن التجديد، وهو الحديث الذي ينتشر بين الحين والآخر في كتابات فكرية من الشرق والغرب عبر أكثر من جهة وصوت، حتى إن ترداده أصبح مألوفاً عن البيت الأبيض الأمريكي ووزارة الداخلية الفرنسية ومجلس العموم البريطاني، من خلال تصريحات رصدتها الصحافة العالمية وسجلتها باندهاش واستغراب.
ناهيك عن بقايا حفريات الماركسية العربية ممن لم يُعرف عنهم ابتداء إيمان بدين أو عقيدة، أو غيب أو يوم آخر، أو وحي ينزل من السماء على قلب بشر، فإذا هم الآن يملؤون الدنيا صخباً بالحديث عن ضرورة "تجديد" الدين الإسلامي، وأستطيع أن أقول اليوم بضمير مستريح أن الغالبية العظمى من الكتابات والتصريحات والمؤتمرات التي تتحدث عن "تجديد الإسلام" في السنوات الأخيرة هي أحاديث مسمومة وملغومة، والهدف منها هو إضعاف حضور الدين أصلاً في ضمير المؤمنين، وتذويب حماسة الشباب لنهضة دينه، وترويض غيرتهم على حرمات الله، بحيث يتعايشون مع "المنكر" حتى دون نكران من القلب والضمير، وتطويع ضمائرهم لكي تتعايش مع حال الانكسار الذي تعيشه الأمة.
وقد سبق وقال أحدهم إننا بحاجة إلى "فقه الانكسار" أو "فقه الهزيمة"؛ لأن الأمة الآن ليست تعيش أجواء الخلافة العفية المستعلية، وإنما أجواء الذيلية والتبعية، ومن ثم فإننا لن نمل التحذير من مثل هذه الدعوات المشبوهة إلى "تجديد الدين" أو الفكر الديني التي تنفخ فيها بعض الجهات كل فترة، خاصة وأن الملاحظ أن جل الحديث متوجه إلى جوهر الإسلام وأحكامه وشعائره، بحيث يتم تطويع ذلك كله بما يلائم "حقبة الإحباط".
ولا تكاد تجد أي لفتة في أحاديث التجديد عن مسألة "تجديد تدين الناس" أي استنهاض هممهم المشروعة، ودعوتهم إلى الاعتصام بحبل الله وقرآنه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، أو الانتصار لدين الله، أو الحض على تعزيز خطوات الدعوة إلى الله، وفي بعض العواصم العربية أعرف أشخاصاً ينتمون إلى دنيا الفكر والتأليف لا يحسن أحدهم قراءة آية واحدة من كتاب الله قراءة صحيحة، ومع ذلك تقدمه الصحافة والإعلام والفضائيات كمجدد للفكر الإسلامي، على الرغم من الآراء "والفتاوى" المضحكة والمستهجنة التي يطلقها هؤلاء، ولا يقبل بها عقل ولا منطق، فضلاً عن دين وشريعة.
وانظر إلى أحوال المتحدثين عن تجديد الدين، في أفكارهم وكتاباتهم المشهورة، وفي سلوكياتهم وعلاقاتهم الفكرية والإنسانية والسياسية وحتى الاجتماعية، تعرف ما هو "التجديد" الذي يبحثون عنه وينشدونه أو يروجون له، إنه شيء آخر غير دين الله، وتجديد آخر غير "تجديد الدين" الحق بإعادته بين الناس في واقعهم وضمائرهم حياً نابضاً طاهراً ربانياً كما كان أول مرة، وكما علمنا النبي الخاتم - صلى الله عليه وسلم -، وكما عهدناه في السلف الطيب الصالح وخير القرون.
الكلام هنا لا يتصل بالتفسير التآمري للأحداث كما يحلو لبعض "المتحذلقين" من المثقفين أن يقولوا، وذلك أن "التآمر" في حد ذاته أصبح ظاهرة قديمة، ولا يوجد أحد الآن من خصوم هذه الأمة يحتفل بإجهاد ذهنه للتسلل إليها، وإنما العبث أصبح علنياً وفاجراً، يحتقر إنسان الأمة الحالي، كما يحتقر تراثها السالف، كما ينعدم لديه الإجلال والقدسية التي يحملها ضمير المؤمن تجاه دينه، وعلى كل مخلص في هذه الأمة أن يتنبه لهذه السموم الجديدة، وأن ينبه إليها، وأن يبذل الجهد العاقل والراشد والمتزن في التصدي لها؛ فقد آن لعفوية ردود الفعل أن تطوى صفحتها، خاصة وقد رأينا رأي العين، كيف أن هذا الدين العظيم ينمو وينتشر ـ بفضل الله وحوله ـ على الرغم من تزايد وتعاظم الحصار والعدوان، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
التعليقات (0)