تتمخض إنجامينا الآن في الخرطوم .. فماذا سيكون المولود؟
الرئيس التشادي "إدريس ديبي"
كان من ضمن ما تمخضت عنه زيارة الرئيس التشادي إدريس ديبي الإعلان عن رغبة البلدين إقامة مشاريع تنموية مشتركة في الأراضي الحدودية .. وبما يهدف بالطبع إلى إشاعة عوامل الأمن والإستقرار والرضا بين الأهالي في تلك المناطق الحدودية الطرفية المشتركة .... وحيث غني عن القول أن عدم الإهتمام بالمناطق الطرفية وأهاليها يعد حجر الزاوية في كل المشاكل الداخلية التي يتعرض لها السودان الآن .. وأنه يجب الإستفادة من تجارب الدول الأخرى لاسيما الهند وكندا في كيفية التعامل مع سكان المناطق الطرفية الحدودية الذين يلقون هناك إهتماما بالغا ورعاية خاصة ومزايا نوعية حتى يتم الاحتفاظ بولائهم للدولة ويحول دون مشاركتهم في تهريب الأسلحة والأموال وتموين وإيواء المسلحين والمرتزقة.
الأحلام والآمال العراض التي جلبها معه إدريس ديبي وحرص على عرضها في الخرطوم باللغة الفرنسية (رغم إجادته الحديث باللغة العربية) جميلة ... ولكن لا ننسى أن عدم الثقة بين الخرطوم وإنجامينا تظل سيدة الموقف .. وأن كلام الليل بينهما عادة ما يمحوه النهار وسرعان ما تعود حليمة لعادتها القديمة ، لأن هناك ثوابت أخرى على الأرض بين الطرفين باتت تقتات وتسترزق من وراء الإستضافة والاستفادة من قوانين اللجوء السياسي في الخارج أو النهب المسلح والحرب بالوكالة في الداخل ......
إن إعادة السلام إلى ربوع دارفور لن يتحقق ما بين يوم وليلة حتى لو تم التوصل إلى إتفاق جدي دائم صامد بين الخرطوم وإنجامينا بمباركة فرنسا وليس مجرد حبر على ورق .
ومن ناحية أخرى ينبغي التأكيد أنه وبشأن مشكلة دارفور فإن 99% من أوراق اللعبة الدولية الكبرى في يد فرنسا وأن تشاد وإن كانت مخلب قط بوصفها محمية فرنسية (مستقلة) إسميا ؛ فإنه لا يمكن الإستهانة بطموحات رئيسها إدريس ديبي الإقليمية للإستيلاء أو وضع اليد على بعض من أراضي إقليم دارفور بهدف خلق عمق إستراتيجي له وتعزيز وضعه القبلي داخل تشاد بوصف أن قبيلته الزغاوة تمثل أقلية في تشاد ويقطن معظمها في دارفور.
وإزاء الحقائق الثابتة أعلاه فإنه يمكن للسودان إدارة المسألة من عدة وجوه:
1) السعي لدى دول الخليج قاطبة وعلى رأسها السعودية وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة والكويت لمزيد من الضغط على فرنسا ليس لرفع يدها فقط عن التدخل والتحريض والدعم المالي والعسكري اللوجيستي وإستغلال الأقمار الصناعية للكشف عن تحركات ومسارات وتجمعات القوات الحكومية في إقليم دارفور ؛ وإنما الأهم من كل ذلك إيقاف العبث التشادي في تلك المنطقة ، وتسفيه أحلام إدريس ديبي نهائيا من حيث إمكانية فصل أو أن يضم إليه جزء من إقليم دارفور نظريا أو عمليا ......
إن فرنسا لاشك في أنها ستصغي جيدا لكل أطروحات ومقولات ومقترحات مقدمة من دول الخليج العربي لأسباب تتعلق بمصالحها الاقتصادية التي باتت ملحة مؤخرا .... وأنه ينبغي الإقتناع على الأقل في المرحلة الراهنة أن كل سبل ومحاولات الإتصال الدبلوماسية السودانية المباشرة مع فرنسا لن تجدي ، خاصة ونحن نشاهد ونسمع ئيسها سيركوزي يتحرر من كل البروتوكولات ويعلن على الملأ في فرنسا أو حتى مصر أنه لن يضع يده في يد عمر البشير لمصافحته . أو بما معناه أنه لن يجلس مع عمر البشير تحت سقف مؤتمر واحد حتى لو عقد هذا المؤتمر في دولة عربية....ولا أعتقد أن سيركوزي سيبتلع أو يلحس كلامه هذا لاحقا وذلك من واقع التجربة مع "الخواجات".
2) ومن جانبها فإن على حكومة الخرطوم أن تسعى باسلوب علمي واقعي مدروس لوضع كافة حقائق وأوراق ومستندات الكتل السكانية في هذا الإقليم أمام الطاولة العربية الرسمية والشعبية لاسيما وأن معظم العرب لا تعرف ماهية وحقائق التداخل السكاني في هذا الإقليم وتحسب قاطنيه مجموعة من الأفارقة المسلمين ليس إلا . علما بأن التواجد الحيوي الإستيطاني القبلي الكثيف للعرب فيه بدأ منذ عهد الخليفة الراشد الثالث يتقاسم الإستيطان الدائم في المنطقة مع قبيلة الفور من واقع تاريخها المحفوظ بين دفتي العديد من مؤلفات الرحالة العرب من المغرب والمشرق ومؤلفات لغربيين تولوا قيادة العمل التنفيذي في الإقليم من أمثال سلاطين باشا وتقارير ومذكرات رسمية ومكاتبات لغردون باشا محفوظة في دار الوثائق البريطانية وغيرها من ثوابت على الأرض وبما لا يمكن لأحد إنكاره أو يزايد عليه كما يزايد الآن على نتائج الإحصاء السكاني الأخير وبالتالي فلا يعقل أن يتم تسوية مشكلة هذا الإقليم وفق ما جرى مع الجنوب الذي يبقى إفريقيا صرفا لا عرب ضمن منظومة سكانه عدا مناطق محدودة ومنها الرنك على سبيل المثال ....
3) ويبقى الإستعانة بالجامعة العربية وفق هذا المفهوم ضروريا لتعزيز هذا الطرح بإلحاح على الطاولة العربية الرسمية وأن يتواصل الجهد الشعبي عبر أندية وتجمعات المغتربين السودانيين في دول الخليج العربي للتواصل مع المجتمعات المحلية فيه بهدف شرح أبعاد هذه المشكلة من خلال معارض وندوات يشارك فيها المختصون من الخرطوم قناعة من الحكومة بأن العمل الرسمي الدبلوماسي وحده ما بات يكفي لفتح قنوات تتيح الإتصال بالراي العام الأجنبي عامة والعربي على نحو خاص وقيادات المجتمع المدني في تلك الدول والمجتمعات بما في ذلك أصحاب الملكات الفكرية والمواهب الفنية في مجال الأدب والصحافة والإتصال الجماهيري.
4) لقد أثبت تدخل الراعي القطري على أعلى مستوى هذه المرة بالضغط على فرنسا لوضع حد لطموحات إدريس ديبي وتدخله اللجوج في إقليم دارفور .... أثبت بالفعل مدى أهمية (تعريب) مشكلة دارفور بهدف سحب البساط من تحت أقدام من نجح قبل ذلك في (تدويلها) . وحيث كانت نتيجة التدويل دائما ليست في مصلحة حكومة الخرطوم لأسباب كثيرة معروفة يمكن تلخيصها في أن هناك بالفعل عزلة دولية تعاني منها حكومة الخرطوم شئنا أو ابينا وبغض النظر عن الحق والباطل في هذه المسألة لأن السياسة ليست مباديء بقـدر ما هي لعبة مصالح .
5) وعموما لا يمكن التعويل كثيرا على إدريس ديبي من ناحية حسن النوايا والموادعة . فهذا التشادي ثعلب مراوغ عاش في السودان عدة سنوات وسط قبيلته الزغاوة ، ولا يمكن ربطه من لسانه بقدر ما يجب الحرص على ربطه من يديه وساقيه وتكميم فمه إن أمكن ...... وعلى قناعة بأن زيارته للخرطوم مؤخرا لم تكن بمزاجه أو لهدف إستراتيجي بقدر ما كانت مناورة يتمنى في قرارة نفسه أن تكون قصيرة المدى والأمد جاءت تنفيذا لأوامر الأليزيه الذي يحمي له ظهره وبطنه ويؤمن له كرسيه المهتز في إنجامينا من السقوط بين عشية وضحاها لو تركته وحده لمصيره المحتوم.
التعليقات (0)