لاصوت يعلو فوق صوت المعركة، شعار سمعناه كثيرا قبيل وخلال كل الحروب التدميرية والعبثية التي أدخلنا فيها حكام ديكتاتوريين وصلوا الى كراسي السلطة على ظهور الدبابات، ورجال عصابات اختفوا خلف عمامة ولحية وجلباب، استغلالا لتديَن الشعوب المغلوبة على أمرها. هذا الشعار الذي مكَن أصحابه من اسكات صوت العقل من خلال جملة من الاتهامات وكلً حسب اتجاهه فاذا كان قومي عروبي كحال يوزباشي بني مر، ومهيب العوجة، وصبي القرداحة، فأنت عدو للعروبة وكل ما يمت لها بصلة وعلى وجه الخصوص تاريخها "المجيد"، اما اذا كان سيد البازورية أو الاستاذ السلوادي خالد بن مشعل "الطوشة" فأنت حينها واضافة لكل التهم السابقة، كافر مارق ملحد زنديق، اضافة لتهم أخرى وحسب البازار السياسي وموازين القوى في الشرق والغرب صعودا ونزولا فقد تكون شيوعي ملحد أو متأمرك متصهين
كنا صغارا حين غامر اليوزباشي بالشعوب العربية قاطبة وبمواردها على ضآلتها في ذاك الوقت، وصدَع رؤوس آبائنا وأجدادنا بالشعارات الكبيرة الرنانة والطنانة من "ما أُخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة" الى "سنرمي اليهود في البحر" وعندما وقعت الواقعة في حزيران 1967 ظل الاعلام المصري وعبر صوت العرب، وعلى لسان احمد سعيد يردد الأكاذيب تلو الاكاذيب حول اسقاط عشرت الطائرات المعادية في حين ان كل الطيران العربي على "خيبته" قد تم تدميره في مطاراته في اللحظة الاولى من الحرب، ليستفيق العرب بعد ستة أيام فقط واذ باسرائيل قد سيطرت على أضعاف مساحتها فمن سيناء الى الجولان والضفة الغربية وقطاع غزة والأغوار وكان بامكان اسرائيل حينها ان ترمينا جميعا في البحر
وحين نطق بعض العقلاء على قلة عددهم بالحقيقة محملين اليوزباشي أثار تلك المغامرة الغير محسوبة على الاطلاق، اتهمهم الاعلام الرسمي أولا والشعوب العربية للاسف ثانيا بانهم اعداء العروبة وفلسطين وثورة يوليو، وبانهم طابورا خامسا، وعليه تم اسكاتهم بطريقة أو باخرى
طبعا تمثيلية اليوزباشي حول مسؤوليته عن الهزيمة التي دللَها اعلامه باسم نكسة ليخفف من وطأتها، واستعداده للتنحي وان تكن قد انطلت على اغلب الشعوب العربية الا انها لم تنطلي على تلك القلة التي تم اسكاتها
وحين جاءنا سيادة النائب الذي لم يصدق انه اصبح رئيسا باقصائه لاحمد حسن البكر، وبعد مجزرة دموية قتل فيها أغلب رفاقه ولم يُبقِ منهم الا الأمُي والجاهل وبائع الثلج، فان أول مغامرة زج بها العراق وشعبه وجيرانه أيضا هي الحرب على ايران، وان كنَا نختلف مع آيات وملالي ايران واسلوب ثورتهم وفكرها التصديري، فاننا لم نكن لنقف مع ديكتاتور بغداد البائد في هذه الحرب، الذي وجد الاعلام العربي ومعه الجماهير العربية تسبغ عليه ألقابا كبيرة وليست على مقاسه بتاتا مثل "حامي البوابة الشرقية" وبقدرة الجماهير العربية وأقلام كتابها التي تشترى وتباع في بازار رخيص يعرض فيه كل شيئ بدءا بالقلم وليس انتهاءا بالضمير مقابل ثمن ما زلنا نصر على انه بخس وان تجاوز عشرات الملايين من براميل نفط أبناء العراق أو ملايين دولاراتهم، بقدرة هؤلاء يصبح هذا الديكتاتور القومي البعثي الشوفيني قائدا مؤمنا بعد ان كتب بيده على علم العراق عبارة "الله أكبر" وهو لا علاقة له بالله من بعيد أو قريب الا ليكون له الله وكتابه غطاءً يُغطي به قبحه أمام جماهير متدينة بالفطرة ومغلوب على أمرها كما ذكرت في البداية
انتهت الحرب بعد ثمان سنوات بنتيجة واحدة وهي القضاء على أكثر من مليون من شباب العراق وكذا مثلهم في الجانب الايراني، وتآكل موارد العراق واستنزاف موارد جيران العراق الذين مارس تجاههم الديكتاتور البائد أكبر عملية ابتزاز في التاريخ، وخسارة أجزاء ليست قليلة من أرض العراق ليعود ويمنح جزءا آخرا منها بعد فترة لايران بالمجان، والاصوات العاقلة والمتزنة القليلة التي ارتفع صوتها في حينه اتهمت بموالاة ملالي وآيات طهران وما يعني ذلك من تهم المجوسية والصفوية والتفرس، ودائما كانت الحجة جاهزة فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة وان كان لاناقة ولا بعير ولا حتى "زمال" للشعوب العربية بتلك المعركة اللهم الا نتائجها الكارثية
خرج هذا الديكتاتور من حربه الكارثية مع ايران ليغزو جارته الكويت التي وقفت معه ابان سنوات الحرب العراقية الايرانية، وان كنت أصر اليوم على القول بان وقوف الكويت الرسمية وباقي حكومات الخليج الى جانبة لم يكن سببه غياب العقلانية عن النظم الحاكمة في الخليج، وهي التي ما زالت تؤكد يوما اثر يوم على عقلانية كبيرة وروح مسؤولية أكبر في التعامل مع الاحداث التي تمر بها المنطقة، ولكنه الابتزاز الذي مارسه الديكتاتور البائد على تلك الحكومات في وقت لاتساعد الظروف الدولية حينها الا التجاوب مع ابتزازات الديكتاتور البائد، هذه الظروف الدولية التي تغيرت كليا بالتزامن مع غزو الكويت فالاتحاد السوفييتي بدأ بالانهيار، وجدار برلين انهار والمنظومة الشرقية المسماة بحلف وارسو على وشك الانهيار، وبدأ يطفو على السطح وبقوة عالم أحادي القطب تقوده الولايات المتحدة الامريكية، التي تمكنت من تشكيل تحالف دولي عريض تمكن من اخراج قوات الغزو من الكويت وتحريرها واعادتها الى ابنائها، الذين أعادوا بنائها بسرعة قياسية بعد أن عاثت بها قوات الغزو الصدامي خرابا ودمارا وحرقا
ما يهمنا هنا ان هو ان أغلب الشعوب العربية ومن أمامهم حكومات كثيرة وأقلام وكتاب أكثر قد تبنَوا أكاذيب النظام كما في الحرب الاولى مع ايران التي أصبحت "قادسية" جديدة دون أن يعلم الشارع العربي وأغلب حكامه وكثيرٌ من مثقفيه حقائق القادسية الاولى والجرائم التي ارتكبت خلالها وأنهار الدم التي سالت باسم الله والدين، وهكذا اصبحت المعركة العبثية الثانية لهذا النظام والتي انتهت بهزيمة ساحقة ماحقة، أصبحت أم المعارك ونصرا مؤزرا يحتفل فيه النظام واعلامه كل عام ويشاركه احتفالاته رهطٌ من أصحاب الاقلام المأجورة، ولم يكن من نصيب الاصوات الحرة التي تعالت تُجرم الديكتاتور وتهوره ونزقه ونزواته الدموية التدميرية الا تهما شنيعة وشتائما بذيئة، وكله بذريعة ان لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والحقيقة ان المعركة الحقيقية والعادلة حينها، والتي يجب ان لا يعلو صوتا فوق صوتها هي معركة التحالف الدولي من أجل تحرير الكويت من أنياب ديكتاتور العراق وبعثه اللعين، وليس العكس
وعلى نفس المنوال كان الحال في عملية تحرير العراق من حكم الديكتاتور صدام حسين الذي حكم العراقيين بالحديد والنار و"القنادر" أيضا، فقد اتهمت كل الاصوات التي وقفت الى جانب الشعب العراقي وخلاصه وتحريره بالتأمرك والتصهين، وكانت الغالبية تدعو الى الوقوف الان الى جانب الديكتاتور في معركته ضد القوات الامريكية والبريطانية، وتأجيل المواقف الاخرى التي تناقش جرائم الديكتاتور وتاريخه الدموي ودائما طبعا بذريعة ان لا صوت يعلو فوق صوت المعركة
دخلت أيضا المنظمات الفلسطينية مجموعة من المعارك العبثية وعلى حساب سيادة بلدان عربية وارواح شعوبها، وكثيرا ما دعا زعماء هذه المنظمات الى اسكات الاصوات العاقلة تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة دون النظر ابدا الى نوع المعركة واطرافها والاهم من ذلك جدواها، وحاولت تلك المنظمات ابتزاز انظمة عربية كثيرة بحجة قدسية القضية الفلسطينية التي تمكنت من خلالها من التأثير على الجماهير العربية
وفي عام 2006 زج زعيم الحزب الالهي لبنان في أتون حرب مدمرة بعد أن أقدمت عصابته على خطف جنديين اسرائيليين بدون أي سبب وفي أراض غير متنازع عليها، وقد أتت تلك الحرب على أخضر لبنان ويابسه، ولكن بما ان الحرب انتهت دون القضاء على الحزب الالهي وزعيمه فقد اعتبر الهزيمة الكبيرة التي مُنيَ بها نصرا الهيا يحتفل به كل عام ويحتفل معه المُغرر بعقولهم وجيوبهم، أما من أطلق صيحة حق ومنطق وعقل فقد تم وصمه بمعاداة الارادة الالهية التي يصر "السيد" على انها منحته نصرا الهيا
وحين ألقى الخارج للتو من عالم "قنادر" صدام حسين وأجهزته البوليسية فردتي حذاءه تجاه الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش، بعد أن خلصهم من "قنادر" صدام بارواح أمريكية وأموال أمريكية، اختصرت الجماهير العربية، وأغلبية كتابها - نستثني أغلبية العراقيين والكويتيين هنا - كل معاني الشرف والكرامة والنخوة والرجولة والبطولة في حذاء الدخيل على عالم القلم والكلمة، في حين وُصف كل من دان هذا الفعل الحذائي الهمجي، بعكس كل الصفات التي اختصروها في حذاء الزيدي، والحق يقال فلا بارك الله بشرف ورجولة لايمكن التعبير عنهما الا بحذاء يُرمى بوجه ضيف
وهذه الايام نحن أمام معركة عبثية جديدة زجت بها حركة "حماس" ومن خلفها النظام الديكتاتوري المجرم في سوريا و "آيات الله" في طهران، هذه المعركة التي لم يكن لها أي مبرر سوى صناعة الفوضى غير الخلاقة التي يراها نظامي دمشق وطهران العامل الوحيد الذي يُمكن أحدهم من الهروب من المحكمة الدولية لمعاقبة قتلة رفيق الحريري، وحصول الآخر على مزيد من الوقت لاستكمال جنونه النووي
الاصوات تعالت ومنذ اللحظة الاولى لاسكات أصوات العقل، وخصوصا تلك التي وجهت الى القيادة المصرية التي أدركت الاهداف التدميرية لقيادة "حماس" ولنصر الله ومن يقف خلفهما في دمشق وطهران، وكذا تعالت نبرة الاتهامات من تخوين وعمالة وتواطؤ تجاه الاقلام الحرة التي أكدت على ان سبب ما يجري هو حركة "حماس" ومن يقف خلفها، وان الخاسر الوحيد في هذه المعركة هو الابرياء الفلسطينيون رهائن الحكم الطالباني "الحمساوي" وان قيادة "حماس" التي تختفي تحت الارض ستقول لنا في النهاية ورغم كل الدمار وكل الضحايا من المدنيين بأن نصرا الهيا آخر قد تحقق فقط لان قيادتها لم تصاب بأذى كما تبجح خالد مشعل باسما من دمشق، هذه القيادة وأعضاؤها وسلامتهم هي الخط الوحيد الذي يعتبره هؤلاء أحمرا، وهو ما أكده أحدهم بعد القضاء على نزار ريان، حين اتهم اسرائيل بتجاوز الخط الاحمر، وكأن ارواح خمسمائة فلسطيني وتدمير غزة على رؤوس ساكنيها لا يصل في خطورته الى الخط البرتقالي حتى
اليوم نسجل كما سجلنا سابقا وكما سجل غيرنا كثيرون ان هذه المعركة معركة عبثية، دفع تجار حروب، وزعماء عصابة تخفت وراء اللحى والجلابيب شعب غزة في أتونها، استجابة لرغبات سورية وايرانية..عصابة اوغلت في الدم الفلسطيني منذ تأسيسها وقبلها منذ تأسيس العصابة الأم، وان نتائج سياسية خطيرة جدا ستترتب بعد هذه المعركة، اضافة للنتائج الدموية والتدميرية التي ما زال يعانيها أبناء غزة
ان شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، يجب ان لا يجد له أذنا صاغية من كل قلم حر، وعلى الجميع أن يتحلى بمسؤولية كبيرة، وجرأة أكبر لتسمية الأشياء بمسمياتها بعيدا عن التدليس والتزييف. هذه المعركة التي يتحمل مسؤوليتها زعماء عصابة "حماس"، وهم وحدهم عليهم أن يتحملوا عواقبها، وبعيدا عن الصراخ العربي والاسلامي فان شعب غزة الذي انتخب "حماس" لترحمه من فساد "فتح" ورجالها، يعرف انه أخطأ في اختياره لحركة "حماس" التي ضحكت طويلا على شعبنا باللحية والسبحة والجلباب، وما ان تمكنت من الوصول الى السلطة حتى انقلبت على من انتخبها قتلا واعتقالا وعلى المخالفين لها حسما دمويا، والحقيقة ان قيادات "حماس" في غزة لا تخشى اسرائيل أكثر مما تخشى من أبناء غزة الذين ينتظرون اللحظة المناسبة للاقتصاص منهم ومن جرائمهم التي ارتكبوها خلال الثمانية عشر شهر الماضية منذ تاريخ انقلابهم الدموي
ان الوفاء لارواح الضحايا الابرياء الذين يسقطون يوميا، يتجلى في محاولة معاقبة قادة "حماس" وفضحهم وتعريتهم، فهذه المعركة معركتهم ومعركة أسيادهم، التي يجب على كل الاصوات ان تعلو فوقها، وليس التساوق معها والترويج لها ومحاولة جر أطراف أخرى الى مستنقعها، فهل ستعلو أصواتنا رغم كل الاتهامات أم ان التاريخ يعيد نفسه فقط ؟ لا أظن ذلك والأيام القادمة بعد سقوط غزة ستثبت ذلك
التعليقات (0)