تاريخ مصافحات محمود عباس
إذا كان البعض ينعى على المرحوم ياسر عرفات شغفه بالتقبيل ؛ فربما لن يحفظ التاريخ لخليفته محمود عباس سوى كثرة "المصافحات" والمفاوضات والمحادثات واللقاءات الديبلوماسية دون جدوي أو طائل تحقق من ورائها.
ومن جهة أخرى فإنه وبكل بساطة وعند رصد تاريخ محمود عباس فلن يكون أفضل من توثيق صور "مصافحاته" فهي وحدها إنجازاته.
وعلى هذا النسق فقد إنتشرت صور هذه "المصافحات" في كافة الصحف والمجلات والمواقع الألكترونية الغربية كدليل فعلي على أنها الإنجاز الحقيقي الوحيد الملموس لمحمود عباس حتى تاريخه...... بل وقد لا يتيح له الوضع على الأرض سوى الخروج بهذا الإنجاز مستقبلا.
وفي هذا السياق ولغرض توثيق منجزات أبومازن تقول وسائل الأنباء الأمريكية أن محمود عباس بعد خلافته للرئيس ياسر عرفات عام 2004م نظر إليه العالم بأنه الرجل الذي سيحقق إتفاق السلام النهائي مع إسرائيل . ولكن بعد العديد من "المصافحات" الديبلوماسية منذ عام 2004م إلى تاريخه فلا يزال هذا الحلم بعيد المنال وقد عانى الرجل الكثير من التملص والمراوغات الإسرائيلية.
محمود عباس يصافح رئيس وزراء إسرائيل الأسبق أرئيل شارون (يوليو 2003م) قبل وفاة ياسر عرفات في نوفمبر 2004م , وكانت إسرائيل والولايات المتحدة قد أعلنتا وقتها عدم الإعتراف بشرعية ياسر عرفات ووصفته بالإرهابي تارة والمتشدد تارة أخرى لسبب أنه يرفض التنازل أو أن يشجب عمليات المقاومة ويرضى بلعب دور الشرطي الفلسطيني الساهر على أمن اليهود ...
وفي ذات الوقت بدأت الولايات المتحدة في تلميع صورة محمود عباس ونعته برجل السلام على أمل الحصول منه على التوقيع بالإستسلام المنشود دون قيد أو شرط وبلا مقابل .... وفي هذا السبيل فقد وصف الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش وقتها ... وصف أرئيل شارون بأنه "رجل سلام" على الرغم من موقف أرئيل شارون المعارض والرافض بشدة لإتفاقات أوسلو التي وقعها رئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين في وقت سابق بعد مباحثات شاقة مع ياسر عرفات .. وموقف شارون لم يكن بغريب فقد جاء في الآية رقم (100) من سورة البقرة قوله عز وجل : [أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون].
وبعد أن نسقت واشنطون أول مباحثات بين شارون وعباس في صيف 2003م لم ينجم عن تلك المباحثات الشيء الكثير . ثم أصبح شارون بعدها عديم الأهلية بسبب إصابته في يناير 2006م بسكتة دماغية حادة لم تقتله ولكنها أدخلته في غيبوبة تامة حتى تاريخه.
محمود عباس يصافح رئيس الوزراء الفلسطيني إسماعيل هنية من حركة حماس خلال فترة قصيرة من تشكيل حكومة وحدة وطنية في مارس 2007م . والتي سبقها فوز حركة حماس الحاسم في إنتخابات نيابية عامة جرت داخل مناطق السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية.
ولكن وبدعم وتحريض من إدارة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش تراجع محمود عباس عن إلتزامه تجاه نتيجة الإنتخابات رافضا مشاركة السلطة مع أكثر منافسيه تشددا فيما يتعلق بمطالب التحرر الفلسطيني العادلة.
وقد نشبت جراء ذلك داخل أراضي السلطة الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية معارك مسلحة دموية بين الكتلة التي تقودها حركة حماس من جهة وبين الكتلة الأخرى التي تقودها حركة فتح من جهة أخرى . وإنتهى السجال المسلح بإنسحاب القوات الأمنية التابعة لمحمود عباس عن قطاع غزة (المحاصر وقتها من جانب الجيش الإسرائيلي) لمصلحة حركة حماس . وإنتقلت إلى الأحياء التابعة للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
في فبراير 2007م . وبعد "مصافحته" لوزيرة الخارجية الأمريكية "كونداليزا رايس"؛ محمود عباس "يصافح" هنا "إيهود أولمرت" الذي خلف أرئيل شارون على رئاسة الوزراء .
جمعت بينهم كونداليزا رايس وقالت لهم "تسلوا بالمصافحة والتحدث فيما بينكم" فالإدارة الأمريكية مشغولة الآن بأفغانستان وغزو العراق ومعالجة الآثار العاجلة لهجمات 11 سبتمبر ...
أدى إنشغال الولايات المتحدة إلى بزوغ فجر إيران في المنطقة التي تدخلت لمصلحة حركة حماس وحزب الله اللبناني وتكوين ما أطلق عليه الإعلام الأمريكي لاحقا مسمى "محور التشدد" الذي ضم سوريا وإيران وحركة حماس وحزب الله اللبناني.
وبعد فشل إسرائيل الذريع في الإطاحة بحركة حماس وتفكيك حزب الله اللبناني أدركت الولايات المتحدة حجم ومدى تأثير التدخل الإيراني في تكريس صمود حماس وحزب الله . وصاحب ذلك قلق أمريكي وإسرائيلي بتسارع وتيرة القفزات الإيرانية نحو التسلح النووي وتنامي نفوذها الإقليمي . وهو الأمر الذي دفع الولايات المتحدة إلى الضغط بجدية على الحكومةالإسرائيلية لتحقيق تقدم ما في المباحثات مع محمود عباس على أمل تشجيع الأنظمة العربية التي سميت بالمعتدلة للوقوف إلى جانب إسرائيل والولايات المتحدة فيما يتعلق بتصفية النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة المحيطة وبما يضمن سلامة إسرائيل وعدم وجود أية قوى إقليمية أخرى منافسة ومهددة لها أو تستطيع الوقوف في وجهها على أقل تقدير.
في مواجهة "محور المواجهة" تشكل "محور الإعتدال" الذي ضم كل من مصر والأردن والسلطة التي يرأسها محمود عباس ولبنان ...... وفي الصورة محمود عباس يصافح رئيس الوزراء اللبناني "سعد الحريري" خلال لقاء في بيروت (ديسمبر 2009م) بترتيب من الولايات المتحدة . وكان الهدف بالطبع هو تكوين محور مناهض لمحور المواجهة في المنطقة.
وبالرغم من جهود الولايات المتحدة فإن المراوغة الإسرائيلية وحصارها لغزة بعد غزوها له وكذلك لجنوب لبنان وإستخدامها لأسلحة قصد منها إبادة أكبر عدد من أبناء فلسطين وتدمير أقصى ما يمكن تدميره ؛ كل هذا أدى إلى تسارع نمو محور المواجهة على حساب محور الإعتدال في الشارع العربي ، وإتخذ سعد الحريري من جانبه حلا وسطا بين المحورين يتوءام مع الوضع الداخلي في لبنان سواء في علاقته بسوريا أو بدور حزب الله اللبناني في التصدي لأطماع إسرائيل في جنوب لبنان والتي كان آخرها الغزو الفاشل عام 2006م.
بالإبتسامة العريضة والبشر يعلوان وجهه ؛ محمود عباس "يصافح" حليفه الرئيسي الرئيس حسني مبارك في فبراير 2005م . أدى فوز حركة حماس الكاسح في إنتخابات 2006م النيابية وتدني نفوذ محمود عباس حتى وسط حركة فتح التي ينتمي إليها ويتولى قيادتها .. كل ذلك أدى إلى إعتماده بشكل متزايد على مساندة الأنظمة العربية التي إصطلح على تسميتها بالمعتدلة . وقد نجح محمود عباس في دفع الحكومة المصرية للمشاركة في الحصار الإقتصادي المفروض على غزة على أمل أن يؤدي ذلك إلى "إنتفاضة جياع " داخل القطاع تطيح بحكومة حركة حماس .. كما أفلح محمود عباس في الحصول على وعد مصري بإقناع الأنظمة الحاكمة في دول عربية محورية لتفويضه (تفويض محمود عباس) للتباحث مع إسرائيل على إعتبار أن دعم حركة فتح ومنظمات أخرى داخل إطار منظمة التحرير الفلسطينية خلال تلك الفترة لمحمود عباس في توجهاته للمباحثات لم يكن بالقوة المفترضة.
الفجر الكاذب في أنابوليس (Annapolis) بالولايات المتحدة ....... وهكذا أفلح محمود عباس بعد "مصافحته" لحسني مبارك في الحصول على ما يشتهي .... وهو هنا بعد مصافحته دبليو بوش "يصافح" من جديد الرئيس الإسرائيلي إيهود أولمرت وبينهما الرئيس دبليو بوش خلال مؤتمر سلام خاص بالشرق الأوسط دعت إليه الولايات المتحدة وعقد في أنابوليس منتصف نوفمبر 2007م . وقد حضر المؤتمر معظم قادة الأنظمة العربية التي تعرف بالمعتدلة.
ومهدت أنابوليس إلى سنة كاملة من المحادثات المفتوحة بين أولمرت وأبو مازن ... هذه المباحثات الغير ملزمة هدفت إلى تحقيق "عرض توافقي" لخطة سلام يجري إنجازها في الوقت الملائم وفق ما كان يرتجى .. ولكن حتى هذا العرض التوافقي المنشود فشل محمود عباس واولمرت في تحقيقه.
وخلال ذلك وجد أولمرت نفسه داخل إسرائيل في مواجهة إدعاءات بالفساد مما أدىبه في النهاية إلى التنحي عن منصبه .. وأما الرئيس الأمريكي بوش فقد أصبح هو الآخر "بطة عرجاء" يمضي السنة الأخيرة من فترة حكمه . وهو ما دفع بمحمود عباس للوقوف في حالة جمود "على جانب الطريق " لمدة عام كامل . وصحب ذلك عدوان إسرائيلي على قطاع غزة المحاصر.
مجزرة مصافحات
لم يحتمل محمود عباس البقاء مجمدا على الخط دون مصافحة أحد فشهدت تلك الفترة زيارات علاقات عامة ومباحثات ودية عرفت بإسم "ربما يمكنك مساعدتي" صافح خلالها أبو مازن كل من بابا الفاتيكان بنيديكتوس السادس عشر خلال زيارته للضفة الغربية (مايو 2009م) . ثم ساركوزي في القاهرة (مارس 2009م) . وفيلاديمر بوتين في موسكو (أبريل 2009م) .ثم طار إلى اقصى الشرق ليصافح الرئيس الفيتنامي "نافوين منه" في العاصمة هانوي (مايو 2010م) محبطا بحالة عدم وجود تقدم في مجال المحادثات مع إسرائيل وبحثا عن دعم معنوي وسياسي .
محمود عباس "يصافح" الرئيس التركي عبد الله جول في إستانبول (يونيو2010) . حاول محمود عباس خلال هذه الزيارة حث تركيا وفي معيتها إيران على عدم تشجيع حركة حماس عبر دعمها أو تأييدهم لها أو التوسط بينها وبين إسرائيل مخافة تسبب ذلك في تنامي قوتها مستقبلا .... لكن يبدو أن طلب أبو مازن قد جاء متأخرا جدا وغير منطقي بالنسبة لتوجهات تركيا الحالية وعزم إيران لعب دور أساسي في المنطقة .
وتعتبر تركيا أتاتورك الحليف الإقليمي الأقوى والأقدم إسرائيل . ولكن بعد وصول الإسلاميين إلى السلطة في أنقرة والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة وعدم رغبة الولايات المتحدة في الضغط الجدي على إسرائيل للدخول في محادثات سلام مثمرة مع السلطة الوطنية الفلسطينية ؛ كل هذا دفع تركيا للدخول بقوة إلى جانب إيران لهدف ملء الفراغ وتحريك الجمود الذي أحدثه مواقف الولايات المتحدة المنحازة تماما إلى إسرائيل.
محمود عباس "يصافح" المبعوث الأمريكي الخاص إلى الشرق الأوسط السيناتور الأمريكي "جورج ميتشيل" في رام الله (أغسطس 2010م) . في اليوم الثاني من دخوله البيت الأبيض كلف الرئيس أوباما مبعوثه الخاص ميتشيل لتحقيق إتفاق سلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية . ولكن الشهور الثمانية عشر الأولى من مهمته لم تكن مثمرة وإنشغل خلالها في رحلات مكوكية بين محمود عباس وبنيامين نتنياهو بغرض التوسط للوصول إلى تسوية وسط بينهما لإعادة المباحثات . وحتى ينصت الإسرائيليون لمطلب أوباما بتجميد شامل لبناء المستوطنات ؛ وهو المطلب الذي رفضه نتنياهو بشدة .
قابل محمود عباس في سبتمبر 2009م الرئيس أوباما ونتنياهو وهو هنا خلال مصافحته للرئيس أوباما يحاول عدم "مصافحة" نتنياهو أو الظهور معه في صورة تجمع ثلاثتهما ينيويروك لأنه كان يمانع في دخول مباحثات مباشرة مع نتنياهو بسبب رفض الأخير تجميد مؤقت لبناء المستوطنات في الضفة الغربية ، وإشتراطه بدء المفاوضات من نقطة الصفر .
ولكن محمود عباس خضع بالطبع لضغوط أوباما في النهاية ووافق على إجراء مباحثات مباشرة مع نتنياهو في واشنطون (سبتمبر 2010م) بغض النظر عن رفض نتنياهو تجميد مؤقت لبناء المستوطنات
أخيرا محمود عباس" يصافح " نتنياهو (سبتمبر 2010م) قبيل الدخول في مباحثات مباشرة برعاية الولايات المتحدة. وحضور كل من الرئيس المصري حسني مبارك والعاهل الأردني والملك عبد الله بن الحسين ... ويقال أن أوباما قد حث محمود عباس على التنازل عن رفضه الدخول في مباحثات مباشرة مع نتنياهو حتى يظهر للعالم بمظهرمختلف عن نتنياهو المتعنت فوجدها محمود عباس فكرة مبلوعة ..... ولكن في حقيقة الأمر ما باليد حيلة فليس بالإمكان أبدع مما كان والقضية الفلسطينية تمر بأضعف حالاتها بعد أن سقطت البندقية من يد المقاومة ولم يعد في اليد سوى أقلام للتوقيع على تنازلات بالجملة ؛ وكذلك إنشغلت حماس بتوفير لقمة العيش لشعبها ومده بالخدمات الضرورية والدواء في ظل أطول وأقسى حصار يتعرض له شعب مقاوم خلال التاريخ المعاصر.
محمود عباس وبعد مصافحته لنتنياهو أمام أوباما يعود فيصافحه مرة أخرى بعد مصافحته للرئيس حسني مبارك ومصافحته الملك عبد الله بن الحسين ..... ربما كان يقصد محمود عباس بإعادة مصافحة نتنياهو تطبيق المثل العربي القائل : "كثرة السلام تقل المعرفة".
التعليقات (0)