موجز من تاريخ قصور الساف
و سلقطة (من القطر التونسي)
بقلم الباحث = عبد السلام الزراع
قصور الساف لم تذكر توثيقا إلا في بعض نصوص القرن الثامن عشر ميلادي "مقديش"(1) . حتى في كتاب المناقب للهواري لم يأت ذكرها إلا بذكر الشيخ الطاهر المز وغي " استقر في النهاية المطاف في بادية سوسة ".
هل هذا يعني أنها لم تكن موجودة في عصر (القرن السابع)؟.
الموقع الجغرافي
تتمركز قصور الساف فوق ربوة لغرب وادي له منحدر حاد جرفته سيول الإمطار المنصبة من المرتفعات المحيطة بالبلدة من الغرب و الجنوب و لم يكن اختيار الموقع عشوائيا أو اعتباطيا بل كان مدروسا وفق مقاييس تخطيط المدن.
كانت المدن و القرى في العصر الحفصي أو الاغلبي تقام على أنقاض المدن الفينيقية أو الرومانية , و يتخذون من الأماكن المرتفعة مكانا للسكن والاستقرار خوفا من هجومات العدو في شكل رباطات .
اغلب المؤرخين اعتبروا تأسيس مدينة قصور الساف تم على خلفية انقراض مدينة سلقطة و تقلص نفوذ قصورها و رباطها البحري إبان الزحف الهلالي و هجومات النورمان على السواحل التونسية "افريقية" و ما خلفته من دمار للعباد و العمران’ما دفعنا إلى تبني الفرضية القائلة إن مدينة قصور الساف قرية مستحدثة نشأت في العصر الحفصي و اسمها اقترن باسم الشيخ الطاهر المزوغي .
أما الفرضية الثانية التي ذهب إليها المؤرخ و الباحث محمد بن حسن إن مدينة قصور الساف قديمة كانت تعرف تحت اسم أخر "تماجر " احتمال ضعيف لا تؤيده البحوث و الوقائع و ظل الغموض يكتنفه من عدة جوانب .
لا يتسنى لنا البحث في نشأة قصور الساف إذا تجاهلنا الامتداد التاريخي للمدينة على مر العصور=الفينيقي و الروماني و الإسلامي و الفاطمي الخ..... و خصوصا ما خلفته في تخومها و ضواحيها من آثار في العالية و المقلوبة و الحريقة و غيرها التي لاتزال إلى ألان مجهولة المعامل .
سلقطة عبر التاريخ
سلقطة مدينة تاريخية عرفت بجمال شواطئها , تبعد عن المهدية مسافة 12 كلم و عن مدينة قصور الساف 5 كلم .
لمدينة سلقطة وضع جغرافي مميز , تمتد في ثلاثة أهلة ملاصقة أولها بداية بلدة الشابة (رأس قبودية ) جنوبا و ينتهي في نقطة من الأرض داخل البحر تعرف برأس البلد و ينتهي عند نقط أخرى تسمى برأس شبورو و ثالثها ببدء من رأس شبورو إلى إن يصل قبودة بمدينة المهدية .(2).
الهواري (584_664 هجري )(1189-1265 م) علي بن محمد أبي القاسم الهواري التونسي الصوفي من أصحاب الشيخ الطاهر المز وغي اشتهر بالصلاح و كتابة المناقب من مؤلفاته مناقب الأولياء و بيان ترباتهم و مزاراتهم
العهد الفينيقي
يعود تأسيسها إلى العصر البوني ( الفينيقي ) حوالي 1100 ق م حيث تم ظهورهم على السواحل التونسية حين اقبلوا على افريقية وجدوها أهلة بالسكان تحتلها فبائل عديدة لها حضارتها و تقاليدها , و نظمها السياسية و ليس ما تروجه البعض عنها أناس متوحشون "
(3). عندما استوطنوا الفينيقيون من ضمنها سلقطة نشروا فيها الحضارة و العمران و
أسسوا بها ميناءا لاهتمامهم بالتجارة و لا تزال أثاره إلى ألان (4)
الفينيقيون مشتقة من مادة يونانية فقد تحدث هوميروس في الإلياذة و الأوديسة ) عن الفينيقيين مشيرا إلى حسهم التجاري و مهاراتهم في البيع و الشراء و قد كانوا يأتون من الشام ولقد أسسوا العديد من المعالم التجارية منها ( حضر موت ,سوسة و اوتيقا, بنزرت).
(5). تمكن الأسطول الفينيقي من التفوق و فرض هيمنته بالاعتماد على مهاراتهم في التجارة و حذقهم لصناعة السفن , زد على ذلك فان الملاح الفينيقي أصبح معروفا لحذقه ضبط الاتجاه و التعرف على المسالك البحرية تجنبا للتيارات السريعة التي لا تستطيع السفينة مجابهتها في القرصنة . (6)
أسست سلقطة على أيدي هؤلاء التجار الماهرين و لقد وجدوا في السواحل التونسية (افريقية) مواقع مميزة أقاموا فيها المستوطنات (منها سلقطة ), لما وجدوا فيها من قيمة كبرى من حيث إبعادها الدفاعية و الاقتصادية و التجارية.(7)
لقد كان الفنيقيون امة بحرية لذلك اتخذوا من البحر حضارة شامخة ’كانت جل عنايتهم في ما ينمي الثروة مثل التجارة و الصناعة و الفلاحة و غراسه الأشجار و حفر الآبار و لا يستبعد قد تم جلب شجرة الزيتون من الشام و غرسها في الأرضي التونسية . (8)
و لكن في الحقيقة الأمر إن الرومان هم من دعموها و شجعوا على الغراسة بافريقية (9)
العهد الروماني
بعد سقوط قرطاج و أفول الحضارة الفينيقية استوطنها الرومان (سلقطة) و نشروا فيها حضارة و أسسوا بها ميناء كبيرا متخذين إياه للتصدير لمختلف منتجاتهم الزراعية (الزيت و الخمور )(10)
كانوا أهالي سلقطة في تلك الحقبة وثنيون ق م اعتنقوا النصرانية و أطلقوا عليها اللفظ اللاتيني sullectum أي المكان المختار أو المفضل .
و من التجارة الأكثر ازدهارا عند الرومان هي الزيت فقد استعمل لإشعال القناديل و في المطبخ و كذلك كانوا يستعملونه عوضا عن الصابون في الاستحمام’ سنة 300 ق م وجد بروما زهاء 2300 بائع زيت ) دليل على المحلات التجارية الكثيرة التي شيدت بجانب المساكن .(11)
سلقطة في العهد الروماني ازدهرت كثيرا لكثافة أنشطتها البحرية ثم تطورت إلى صناعات تحويلية و كان بها العديد من المراكز للصيد البحري تحتوي على خزانات كبيرة لتمليح الأسماك. (12)
من جملة المعالم الرومانية لمدينة سلقطة الحمام العمومي ما له من مكانة هامة في حياة الروماني يدرج ضمن ممارساته اليومية .
احتوت مدينة سلقطة على العديد من الحمامات الفسيحة و الفاخرة اين يقضي بها الإنسان معظم أوقات فراغه تعويضا عن المقهى و النادي , فضلا على الاستحمام , كانت تمارس فيها مختلف الألعاب الرياضية و المطالعة ,وجدت بها الحدائق للتنزه و المكتبات و الإحياء التجارية الخ.....
الحمام مؤسسة هامة في حياة الروماني و لقد عثر في سلقطة الرومانية لمدخل حوض سباحة على لوحة فسيفسائية مرصعة عليها أبيات من الشعر (أنفوديس invidus) (13) .(14)
حين ظهر الدين الجديد اضطهدت أنصاره اضطهادا فضيعا حتى تحول مسرح الجم إلى مذبحة رهيبة لذلك بني النصارى الأولين سلقطة المدافن (داموس معروف ب catacombe)الذي يطلق عليه المحليون (غار الضبع) يأتي في المرتبة الثالثة بعد مدافن سوسة و قرقنة ....(15)
ففي مدخله هيكلا أو كنيسة بها محراب و يقال إن هذه المداخل تصل إلى العشرات الكيلومترات قد استعملت من قبل الرومانيين منفذا ليصل إلى المسرح الجم بساحل البحر (سلقطة ) .
تحدث التيجاني في رحلته حيث قال " عندما حوصرت الكاهنة بقصر الجم كان يأتيها الطعام و الشراب من النفق الذي يربط القصر بساحل سلقطة ....الخ).(16)
يتكون هذا المدفن الضخم من عدة أروقة تسير الإنفاق تحت الأرض لا يتجاوز عرض الواحد منها أربعة أمتار إما الارتفاع زهاء ثلاثة أمتار كان يضم بجدرانه تجويفات كانت موضوعة بها الجاثمين من مختلف الأعمار , أروقة متداخلة منها المتشابهة و البعض الأخر غير نافذ, لمعرفة مكونات هذا المدفن علينا الرجوع إلى الطقوس الرومانية الخاصة بالموت ." كان اليونان و الايطاليين القدامى هم فرع من الجنس الهندي – الاوروبي من عقائدهم إن الموت لا يضع حدا لهذه الحياة بل هي ميلاد جديد من النوع أخر و نقطة تحول في الحياة و في عقيدتهم إن النفس بعد انفصالها عن الروح لا تتنقل إلى البدن أخر و لا تصعد إلى السماء بل تبقى قريبا من الأرض مع البشر و الدليل على ذلك إن طقوس الدفن عندهم هي الاحتفال بدفن الجثة و ينادون روح الميت باسمه ثلاث مرات و يتمنون لها إن تعيش سعيدة تحت الأرض و كانوا يكتبون على القبر " هنا يرقد فلان و كانوا يضيفون في المدافن الأشياء التي يحبها الميت من الملابس و سلاح و أدوات لأنه على قيد الحياة و كانوا يذبحون الجياد و الرقيق و يدفن بالقرب من الميت قربانا يحتاج إليهم " (17)
العهد البيزنطي
من المهدية إلى مدينة سلقطة ثمانية أميال و من المهدية إلى قصر الجم 33 ميلا تقريبا و المعروفة بقصر الكاهنة التي حصرها العدو و في ذلك القصر حفرت نفقا في الصخر إلى مدينة سلقطة تمشي فيه العديد من الخيل و كان ينقل الطعام إليها من سلقطة إلى الجم "(18).
في 31 أوت 533 م نزل القائد البيزنطي ( Bélisaire) في رأس قبودية (caput vada) على رأس أسطول ضخم لزعزعة أركان الامبراطوية الرومانية في افريقية ..(19)
في إعقاب 583 م أصبحت سلقطة تابعة للنفوذ البيزنطي.
لكنها تراجعت فيما بعد في العهد البيزنطي و أسسوا حول مينائها القصر الجديد الذي كانت تحميه قلعة مربعة (50 م 50م ) .(20)
سلقطة ما بعد الفتح الإسلامي
لقد وجد العرب الفاتحون في سلقطة اثأرا لمنارة بناها الفنيقيون على المرفأ لكنهم فظلوا الاستقرار بعيدا عن مفاجئات البحر بقصور الساف (21)
تحتل نفس المكانة التجارية التي كانت عليها قبل الفتح الإسلامي " فالسفن انطلاقها من الإسكندرية فيكون طريقها من المرسى المهدية إلى المرسى سلقطة إلى إن تصل جزيرة قرقنة ....الخ .(22)
سلقطة بدون شك مركزا للمرابطة و لكنها فقدت وظيفتها في العهد الفاطمي مما أدى إلى التحول المنطقة بأسرها إلى منتجع أو منتزهات لأمراء العبيديين ثم الصنهاجيين مما أدى لانقراض القصر في العهد الحفصي و أنشأت قصور الساف كمركز صوفي أي رباط خلفي لمدينة سلقطة .
أصبحت سلقطة في العهد الفاطمي ربضا من ارباض المهدية .(23)
و لقد كشفت الحفريات فيها عن مآثر عديدة للعهد الفاطمي منها الخزف الملون و المطلي و الزجاج المذهب المصنوع بالمنصورة,
بعد إن عاشت سلقطة فترات متعاقبة من الشموخ و الرقي الحضاري أتى الزحف الهلالي على الأخضر و اليابس مما أدى إلى انقراضها بشكل نهائي و انتقل سكانها إلى الداخل (قصور الساف ) خوفا من بطش هؤلاء الإعراب مما أدى إلى التخلي عنها نهائيا في القرن 13 ميلادي .
المصادر و المراجع
1)نزهة الانظار محمود مقديش تحقيق على الزواري و محمد محفوظ دار الغرب الإسلامي بيروت 1988 ج 1 ص
2) ص 29 يوغرطة حسن فنطر 1984). الدار التونسية للنشر 1984
--( عبد المولى ص 19 تاريخ قصور الساف سلقطة .
3) نفس المصدر ص 20). ( عبد المولى تاريخ قصور الساف سلقطة .1984
4) نفس المصدر ص 20.
5) الفينيقيين بناة المتوسط ص 75 حسن فنطر).
6) 151 ناجي جلول h . Et la mer) (ص 98 حسن فنطر نفس المصدر el alia page 48
7) ( ص 86 معجم المدائن التونسية أحمد الحمروني ).تأليف أحمد الحمروني ميدياكزم الطبعة الثانية 1998
8)ص 86 خلاصة تاريخ تونس ).حسن حسني عبد الوهاب
9 ص 19 نور الدين النوري الزيتونة ثروة
10) (عبد المولى ص....24. قصور الساف سلقطة )
11) (ص26 comment vivaient les romains ).
Joan formen ed fernand nathan 1975
12) ص 22 عبد المولى تاريخ قصور الساف سلقطة )
13) (ص124 محمد الشريف تاريخ تونس ).
14) (ص ...2627...عبد المولى قصور الساف سلقطة ).
15) (رحلة لتيجاني ص...57.. تحقيق حسن حسني عبد الوهاب ).
16)رحلة التيجاني ص 57-59).
17) (Neji djalloul l’homme et la mer page 151).)
18) ص 682 البكري المسالك و الممالك.
19)(Histoire de l’Afrique de nord p 50 paris 1968).
Edmond jouhand
20) (ص 128 الربطات البحرية بافريقية في العصر الوسيط الوزارة الأولى كتابة الدولة للبحث العلمي و التكنولوجيا مركز الدراسات و البحوث الاقتصادية و الاجتماعية السلسة التاريخية عدد 9 تونس 1999.
21) 684 ص ج 2 البكري المسالك و الممالك )البكري دار العربية للكتاب تونس 1992.
22) ص .23 عبد المولى تاريخ قصور الساف سلقطة 1984
23) (l’homme et la mer neji Djalloul p 151 ).
التعليقات (0)