كنت في سلسلة المقالات السابقة قد حللت كثيرا من القضايا والمشكلات التي جاءت بها المسيحية اي كما دونت في الأناجيل الأربعة ورسائل بولص من مثل عقيدة الثالوث ومعجزات المسيح وتضارب الأناجيل وتضادها ..الخ . وقد انتهيت الى تهافت هذا الدين وأنه صناعة بشرية بامتياز وأعود في هذا المقال الى طرح مشكلة هي في غاية الأهمية في استكمال هذه السلسلة من الدراسات المضنية والمتعبة والممتعة في الآن نفسه . ذلك أن الكشف عن الحقيقة هو ما يهمنا وليس محاولت الأنتقاص أو الأستهزاء من هذا الدين أو من سواه ، لكن المشكلة تكمن في وعي المسيحي الذي لا يريد ان يستخدم عقله ويظل حبيس الإكراهات للنصوص الدينية كما سطرها مجموعة من أشباه المثقفين في زمن كانت فيه الخرافة هي السائدة وهي التي تصنع وتحرك الوعي . ثم راحت هذه الخرافة تتجذر مع حركة التاريخ الصاعدة حتى تحولت الى حقائق لا يرقى إليها الشك . وهذا موضوع سنعود إليه في مقبل .
والسؤال الذي نود طرحه هنا هل يوجد دليل أو اثبات تاريخي – بمعزل عن الأناجيل - على وجود شخص اسمه يسوع المسيح ؟
تروي الأناجيل حياة المسيح ، ونفهم من مجمل رواية الأناجيل أن المسيح قد أثر الى حد كبير في مجتمعه اليهودي الذي عاش فيه ، اذ تنقل في جميع مدن وبلدات فلسطين وأثار حركة شعبية مؤيدة ومعارضة على حد سواء في صفوف اليهود والرومان انتهت باعتقاله ومحاكمه محاكمة جماهيرية صاخبة انتشرت اصداءها واصداء دعوة
صاحبها المسيح في فلسطين كلها ، هذا فضلا عن المعجزات العجيبة التي رافقت حياته من شفاء المرضى واحياء الموتى والعجائب الكونية التي رافقت صلبه مثل الزلازل وتشقق الصخور والظلمة التي غطت الأرض لحظة صلبه وخروج القديسين من القبور !.. كلها أمور يفترض العقل والمنطق أن نجد ذكرا لها في أدبيات القرن الأول بعد الميلاد ، فماذا قال التاريخ عن حياة المسيح ؟
أن ما يثير الاستغراب هنا هو صمت التاريخ ، اذ لا نجد أي ذكر تاريخي
للمسيح ، بل ولا حتى مجرد اشارة عابرة له في أي مرجع لمؤرخ عاصر حياته !!.. اذ من الواضح أنه في أواخر القرن الأول الميلاد لم يكن سكان فلسطين ولا الكتاب والمؤرخون يعرفون أي شيء عن يسوع رغم أهمية الأحداث التي صاحبت حياته ودعوته، اذ لا توجد شهادات خطية للأحداث التي وصفتها الأناجيل ، شهادات من مصادر غير مسيحية ومعاصرة للمسيح ، فالناس الذي عاشوا وكتبوا في النصف الأول من القرن الأول الميلادي لم يشيروا بأي اشارة ولو عابرة الى وجود شخص اسمه عيسى المسيح ، وكذلك الأمر بالنسبة الى الجيل الثاني ممن يفترض أنهم سمعوا عن المسيح من شهود العيان ، فهم أيضا يصمتون عن حياة اي ذكر لشخص المسيح !!! ..
المؤرخ بيلتون في 1 ـ 79 عاش في فلسطين وسجل تاريخ المنطقة والأحداث التي جرت في هذه الفترة وأفرد فصلا مطولا عن مدينة أورشاليم ووصف بدقة متناهية مبانيها وشوارعها وسكانها ومعابدها كما أفرد فصلا عن ثورة لليهود نتجت عن الظلم الذي اوقعه الحاكم الروماني استيفنوا وقد قمعت هذه الثورة بشدة وانتهت بمقتل الألاف من اليهود . ولم يذكر هذا المؤرخ الذي كان يتوخى الحذر الشديد والدقة المتناهية اي شئ عن المسيح الرب الذي مات علىالخشبة والذي كان يصنع المعجزات ويحي الموتى ولا عن تلاميذه أو الزلازل وتشقق الصخور والظلام الذي ساد الرض يوم صلب المسيح . وهو شاهد عيان .
المؤرخ بولتارخ 20ـ 100 جاب المنطقة من شمالها الى جنوبها ووصف تاريخ الكثير من الأمم والحضارت التي كانت سائدة آنذاك في مصر والعراق حتى أنه افرد فصلا طويلا تحدث فيه عن القبائل التي تسكن سيناء وما يعرف ببادية الشام الآن لم يذكر عن المسيح ودعوته أي معلومة تذكر .
المؤرخ سالتوني مكث في فلسطين مدة خمس سنوات 65ـ 70 لم يرد في تاريخه ذكر للمسيح .
بيلتيوس الصغر 60 ـ 113 أفرد فصلا مطولا عن بيلاطس البنطي وعن فترة حكمه وعن أخلاقه ورحلاته وعن مدينة أور شاليم لم يذكر أي شيئ عن المسيح ومعجزاته .
يوست من طبرية الذي عاش في النصف الثاني من القرن الأول الميلادي ، وقد كتب مجموعة من المؤلفات التاريخية كان أحدها مكرسا لتاريخ الملوك اليهود حتى اغريبا الثاني أي حتى منتصف القرن الأول الميلادي وقد وصف حكم هيرودوس الأكبر وحكم هيرودوس انطيباس أي الزمن الذي عاش فيه المسيح وفق الرواية الانجيلية ومن المستحيل بالتالي الا يعرف يوست شيئا عن المسيح وحياته واعماله ودعوته ولا سيما وأنه من مواليد طبرية التي تقع على بعد بضعة كيلو مترات عن كفرناحوم التي جرت فيها عدة أحداث هامة في حياة المسيح الانجيلية ، ولكن الغريب أننا لا نجد سطرا واحدا ليوست يشير الى المسيح يسوع!!..
الفيلسوف واللاهوتي فيلون الاسكندري ( توفي في منتصف القرن الأول الميلادي ) والذي غدت أعماله أساسا للاهوت المسيحي ، ورغم ذلك فهو لا يعرف شيئا عن المسيح ذاته!! .. صحيح أنه عاش في الاسكندرية ولكن من الثابت أنه كان شديد الاهتمام بمتابعة حياة اليهود في فلسطين ، وقد نوه غير مرة في مؤلفاته ببيلاطس البنطي الذي لعب دورا هاما في مصير المسيح وفق الرواية الانجيلية ، هذا فضلا عن حديث فيلون المفصل عن طائفة الأسينيين التي كانت منتشرة في فلسطين والتي تلتقي الى حد كبير في الفكر والعقيدة مع دعوة عيسى ولكن رغم ذلك كله لا نجد في مؤلفات فيلون أي اشارة الى عيسى !! ..
المؤرخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس ( 37-100 ب م ) الذي كتب مجموعة كتب أرخت لحياة اليهود أهما كتابان : " تاريخ اليهود " و " حروب اليهود " وقد تحدث فيهما عن الكثير من " المسحاء الكذبه " الذين ظهورا في فلسطين مثل فيفدا ، ويهوذا الذي كان قاد انتفاضة شعبية واسعة تم سحقها بقوة .. لم يذكر شيئا عن عيسى المسيح !! ..
وقل ذات الأمر عن عدد من المؤرخين مثل سينيكا ( ت 65 ) وتاتست (45-119) وغيرهم ..
مخطوطات البحر الميت التي تعرف بلفائف قمران والتي تعود الى جماعة يهودية تعرف بالاسينية ، اذ تعود هذه المخطوطات الى ما قبل زمن عيسى بقرن والى ما بعده بنحو قرن ، أي أنها عاصرت الفترة التي يفترض أن المسيح قد عاش فيها ، وقد كانت عقائد الاسينيين قريبة الى حد كبير من افكار المسيحية ، هذا فضلا عن قرب خرائب قمران من الأماكن التي يفترض أن الأحداث الانجيلية قد جرت فيها ..ورغم ذلك لا نجد في هذه المخطوطات أي اشارة ولو خفية الى عيسى المسيح! ..علما أن هذه المخطوطات أشارت بدقة متناهية الى جملة من الأحداث التي وقعت في ذلك الوقت .
هذا فضلا عن خلو المصادر التاريخية من تقديم الدليل التاريخي على صحة بعض الاحداث الثانوية التي رافقت حياة المسيح مثل قيام هيرودوس بقتل الاطفال والتي لم يذكرها أي مؤرخ رغم تأكيد جميع الكتاب والمؤرخين على دموية هيرودوس ..
فما هي دلالة صمت المؤرخين حيال حياة عيسى ؟ نستبعد هنا مؤامرة صمت من المؤرخين ذلك أنهم ليسو ا يهودا من جهة ، ومن جهة أخرى حدث بهذا الحجم كان مادة غنية للمؤرخ لايمكن ان يغفل الاشارة إليها من قريب أو بعيد.
هذا يعني أن المسيح شخصية أسطورية ملفقة لم توجد على مسرح التاريخ والواقع والحقيقة .
ثم أن مدينة الناصرة التي جرت فيها احداث مصيرة وخطيرة ومركزية في الدين المسيحي لم يكن لها وجود في عصر المسيح أو الدعوة المسيحية ، وقد سكنت هذه المنطقة من قبل مجموعة صغيرة من الفلسطينين في عام 300 م ثم توسعت بعد ذلك اي في عام 375 نتيجة لهجرة كبيره من المنطقة الجنوبية بعد أحداث عاصفة . وأول كنيسة بنية فيها كانت في عام 475 م على ماذا يدل ذلك ؟
كفر ناحوم انتقل يسوع إليها من مدينة الناصرة في وقت مبكر من خدمته جاعلا ً منها مركزا ً له حتى أنها دعيت مدينته ( مر 2: 1 ) فيها شفى غلام قائد المئة ( لو 7: 1-10 ) وحماة بطرس المحمومة ( متى 8: 14- 17 ) والمجنون ( لو 4: 31- 37 ) والمفلوج الذي كان يحمله أربعة ( متى 9: 1- 8 ) وابن خادم الملك ( يو 4: 46- 54 ) وغيرهم كثيرين مرضى بأمراض مختلفة ( مر 1: 32- 34 ).
وفي كفر ناحوم قال يسوع الخطاب المدّون في يوحنا 6: 24- 71 وذلك بعد اشباع الخمسة آلاف، وكثير غيره من أقوال يسوع، جرت كلها في كفرناحوم ( مر 9: 33- 50 ). وفيها أيضاً دعى يسوع متى ( أو لاوي ) إلى الخدمة، وكان هذا جالساً هناك عند مكان الجباية ( متى 9: 9- 13 ) . ومع كل خدمة يسوع هذه وتعاليمه في كفر ناحوم لم يؤمن سكانها ولهذا تنبأ يسوع بخرابها الكامل ( لو 10: 15
كفر ناحوم هي تل حوم في الوقت الحاضر وهو مكان يبعد نحو ميلين ونصف إلى الجنوب الغربي من مصب نهر الأردن ونحو ميلين جنوب كورزين . وقد وجدت في تل حوم آثار مجمع لليهود يرجع إلى القرن الثالث بعد المسيح . وقد تم بناء هذه القرية كما دلت على ذلك بقايا الآثار الموجوده في التلة أو موقع آثار التله في عام 350بعد الميلاد . اي ان هذه المدينة لم تكن موجوده ايام المسيح .
والخلاصة أنه لا الشواهد التاريخية ولا الآثار الحفرية تشي بأية دلالة تذكر على وجود المسيح وجودا حقيقا تحركت على مسرح التاريخ على النحو الذي نشاهده في الأناجيل الأربعة .
وتظل قصة يسوع تعبير أسطوري عن حلم يهودي في ظهور منقذ تم اعادة صقله وبلورته ورفده بعناصر دينية وثنية مختلفة .....
فلا مسيح أتى ولا رب نزل كحمل يساق الى الذبح ليكفر عن خطيئة آدم ويفدي البشر من الموت ......
ولنا عودة
التعليقات (0)